ما الذي يفسر هذا الحضور الصاخب لذلك الذي يرقد في مقبرة الصوفية خارج باب النصر بالقاهرة منذ ستة قرون من الزمن ؟ ما الذي يفسر انبعاث فليسوف الاندلس وتوهجه في فضاء الفكر المعاصر وما الذي يمنح عبدالرحمن محمد بن خلدون الحضرمي هذا الزخم الجديد وهذا الدفق المتواصل ؟في الواقع لقد انقضت قرون طويلة لم يكن فيها ابن خلدون شيئاً مذكوراً وكاد النسيان والاهمال يطوي صفحته الى الابد وفأة في نهاية القرن السابع عشر وفي أوج المرحلة الثانية من الاستشراق ينبري أحد المستشرقين واسمه "بارت دربلوت" عام 1697م ليكتب مقالاً عن ابن خلدون في مكتبته الشرقية مع بعض مقتطفات من المقدمة .ومنذ ذلك الحين آخذ الاهتمام بابن خلدون يتصاعد يوماً بعد يوم في الغرب والشرق حتى جاءت اللحظة التي تألق فيها نجم ابن خلدون وتسطع أنواره الثقافية في كل فضاءات العالم المسكون إذ تعلن الامم المتحدة اليونسكو عام 2006م العام العالمي لابن خلدون وذلك بمناسبة انقضاء ستة قرون على وفاته حيث تحتفل الدوائر الثقافية والاكاديمية والاعلامية في عموم بلدان العالم بتنظيم جملة واسعة من الفعاليات الثقافية من المؤتمرات والندوات والملتقيات والحوارات والكتابات باسم ابن خلدون ومن أجله وهذا ما أعطى ابن خلدون قيمة عالية في حقل الثقافة الراهنة فمن هو ابن خلدون ؟يجيب ابن خلدون في كتابه ( التعريف) "أنا عبدالرحمن بن محمد بن محمد ابن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن خلدون"كنيته أبو زيد ولقبه ولي الدين وشهرته ابن خلدون وفي كتابه الشهير " جمهرة أنساب العرب" يذكر ابن حزم أن أسرة ابن خلدون ترجع الى أصل يماني حضرمي وإنها تنسب الى وائل بن حجر وهو صحابي معروف وكان جده خالد بن عثمان الذي اشتهر فيما بعد باسم خلدون أحد أحفاد وائل بن حجر الذين دخلوا الى الاندلس في زمن الفتوحات الاسلامية وإنشأ بيتاً في قرمونه ، ثم أنتقلت اسرته الى أشبيلية وعندما استولى ابن " ادفونش" على أشبيلية انتقلت الاسرة الى تونس وذلك في منتصف القرن السابع الهجري وهناك استقر بها المقام واشتهرت بالعلم والجاه وبتولي أعلى مناصب الدولة وفي كنف هذه الاسرة الارستقراطية ولد عبدالرحمن بن خلدون في أول رمضان سنة 732هـ الموافق 27 مايو 332م وكان أبوه هو معلمه الاول كما جرت العادة في ذلك الوقت وتتلمذ على أيدي أساتذة عديدين بدءاً بتعلم القرآن واللغة والادب والحديث والفقه ، والعلوم العقلية الفلسفة والمنطق والرياضيات والفلك .. الخ وهو بذلك اقبلك ثقافة موسوعية بالقياس الى ذلك العصر غير أنه ما كاد يبلغ العشرين حتى تاقت نفسه للانخراط في خضم الحياة السياسية المضطربة في المغرب والشمال الافريقي ، وذلك منذ 257هـ وتنقل بين عدد من الدويلات والامارات المتعاقبة في تونس والمغرب الاقصى وتلمسان وبجاية والاندلس في غرناطة وفاس .. وغيرها واشتغل في عدد من المهام السياسية التنفيذية والتشريعية والاستشارية وقد تعرضت حياته للمؤامرات وحقد الحاقدين والسجن لأكثر من مرة وتعرض حياته للمؤامرات والتشرد وعاش بين القبائل البدوية واتهم بالخيانة وبعد مغامرات عاصفة مليئة بالاخفاقات والمخاطر وقد قارب الخمسين من العمر ، نيروبي ابن خلدون في قلعة بني سلامة عند أصدقائه من بني عريض في وهران ليكتب المقدمة التي اشتهر بها وخلدته وذلك من عام 776هـ -780م وبعد أعوام من عزلته قدر الرحيل الى مصر إذ نزل في مرسى الاسكندرية في أول شوال عام 774هـ وفي القاهرة تقلد ابن خلدون ارفع مناصب القضاء قاضي قضاة المالكية ومارس التدريس في الفقه والحديث أكثر من مرة وحينما هاجم ( تيمور لينك) بلاد الشام ذهب ابن خلدون لمقابلته عام 803هـ فطلب منه تكاليف كتاب عن بلاد المغرب كلها فكتبه ابن خلدون في بضعة أيام ثم عام 803هـ ثم عزل في رجب عام 808هـ الى أن وافاه الاجل في رمضان عام 808هـ عن عمر ناهز اربعاً وسبعين سنة وإذا ما لخصنا حياته في مراحل يمكن أن يجعلها اربع مراحل :1- مرحلة النشأة والتعليم حتى بلغ العشرين من عام 752هـ -772هـ في تونس .2- مرحلة النشاط السياسي قرابة عشرين عاماً من 752هـ الى 776هـ.3- مرحلة العزلة والتأمل والتفكير والكتابة أربع سنوات .4- مرحلة الانصراف الى التدريس والقضاء من عام 780هـ الى عام 784هـ في تونس ثم في مصر من عام 874هـ - إلى وفاته عام 808هـ قرابة 24 عاماً.[c1]مؤلفاته :[/c]- كتاب " لباب المحصل" 752هـ.- كتاب " شفاء السائل لتهذيب المسائل ".- كتاب " بلاد المغرب "803هـ.- المقدمة في 780هـ - كتاب العبر في ستة أجزاء .- التعريف بابن خلدون ورحلته .ويعد كتاب العبر أهمها وأكبرها فهو ثلاثة كتب الكتاب الاول ويشتمل على مقدمة قصيرة ثم عرض الكتاب الاول ويسمى هذا الجزء بالمقدمة وهو في مجلد واحد .والكتاب الثاني ويشتمل على " أخبار العرب وأجيالهم ودولهم ومن عاصرهم .. ويقع في أربعة مجلدات .والكتاب الثالث يتناول فيه " أخبار البربر ومواليهم في المغرب العربي والشمال الافريقي ويقع هذا الكتاب في مجلدين السادس والسابع .هكذا تكون مع ابن خلدون الشخصية الاشكالية التي لم تتكرر في التاريخ إنها شخصية السياسي المثقف أو كما سماها هشام علي ( المثقف السياسي) حيث عانى ابن خلدون ذلك الصراع الوجودي العميق وتناهبت نفسه روحان كل منهما غريبة عن آخرى روح السياسي المنهمك في الممارسة السياسية الايديولوجية الفورية التي تعيش الحاضر وتندمج فيه وتفئ بزواله وروح المثقف التي تنظر الى البعيد ، وتتشوق الى الخلود والديمومة في مستقبل الحياة والتاريخ بالفكر والابداع والكتابة .إن إنتصار المثقف على السياسي هو الذي جعل ابن خلدون يتحول اليوم كما كان في الامس الى واحد من رموز الفكر العالمي والرموز خالدة لا يموت ابداً .فلو ألقينا نظرة على الصورة التي يمثلها ابن خلدون في عيون وعقول اساطين الفكر والثقافة العالمية لتبين لنا كم هو ابن خلدون عظيم الشأن وبالغ الاهمية ومثير للدهشة وجدير بالاهتمام .في عام 1962م أحصى المفكر الكبير عبدالرحمن بدوي البحوث المختلفة التي تناولت ابن خلدون سواء في صورة كتاب او مقال او رسالة جامعية بـ ( مائتين وخمسة وسبعين ) بحثاً منها واحد وستين بحثاً باللغة العربية ومائتين وخمسة بحثاً باللغات الاجنبية المختلفة ، كان ذلك قبل نصف قرن تقريباً .أما اليوم فإن الدراسات عن ابن خلدون تتجاوز المئة ألف بين كتاب ورسالة ومقال ودراسة .فمنذ تم إكتشاف ابن خلدون على يد المستشرق الانجليزي بارت دربلو" عام 1967م الذي يعد أول من كتب مقال عن ابن خلدون في العصر الحديث ، ثم أعيد بعثة في أوائل القرن التاسع عشر عنها نشر المستشرق الالماني " إسحاق سيلفستر دي ساسي " سنة 1806م ترجمة فرنسية كما جاء في المقدمة عن البيعة والملك في قاموسه المكتبة الشرقية ثم نشر في عام 1816 ترجمة اوفى لحياة ابن خلدون وتحليلاً للمقدمة في قاموس التراجم الشامل منذ ذلك الحين توالت الدراسات والابحاث عن ابن خلدون ومقدمته .في عام 1813 نشر المستشرق النمسوي فوت هامر رسالة بالالمانية أشاد فيها بابن خلدون وبابحاثه المقدمة ثم نشر مقالاً في المجلة الآسيوية عام 1822 تحدث فيه عن أصالة بحوث المقدمة وعمق تفكير ابن خلدون وأشار الى ضرورة ترجمة المقدمة .وفي عام 1825 نشر المستشرق الالماني " شولتز" مقالاً عن ابن خلدون تناول فيه بحوثه وأظهر اهميتها ونادي بضرورة ترجمتها ونشرها كاملة ، وفي عام 1832م نشر المستشرق دي همز ومقالاً تحت عنوان " تقرير عن المؤلف التاريخي الضخم للفيلسوف الافريقي ابن خلدون " نبه فيه الى ضرورة دراسة هذا المفكر الذي لم ينل بعد حظه من الاهتمام .وفي عام 1858م نشر المستشرق الفرنسي كاتر مير المقدمة بالعربية في باريس وفي نفس العام نشر الشيخ " نصر الهوريني " تحقيق المقدمة في القاهرة .وفي عام 1863م نشر البارون دي سلان المقدمة كاملة وعلق عليها وشرح الغامض منها وقدم لها بترجمة لابن خلدون وقد جاءت هذه الترجمة في ثلاثة أجزاء نشرت على التوالي في عام 63-65-1968م.وفي تركيا حظى ابن خلدون باهتمام بالغ وذلك منذ القرن السابع عشر إذ كتب المؤرخ التركي الشهير مصطفى بن عبدالله والمعروف افي الغرب باسم ـ حاجي خليفة) في النصف الاول من القرن السابع عشر عن مؤلفات ابن خلدون وبالذات عن المقدمة في موسوعته كشف الفنون في سناء العلوم والفنون باللغة العربية وكتب عنه كذلك في كتابه فذلكة التاريخ وتوالت الكتابات عن ابن خلدون في تركيا فكتب عنه المؤرخ مصطفى نعيما في نهاية القرن السابع عشر في كتابه تاريخ نعيما والمؤرخ أحمد لطف الله في كتابه ( جامع الدول ).ويعد المؤرخ بيري زاده أشهر من أهتم بابن خلدون في تركيا في القرن التاسع عشر إذ أصدر المقدمة بالتركية عام 1857م قبل الطبعة المصرية بعام واحد .وفي عام 1860 نشر أحمد جودت باشا المقدمة باللغة التركية بع ذلك زاد الاهتمام واصبح ابن خلدون موضوعاً لكثير من الرسائل الجامعية .وفي مصر طبعت المقدمة لأول مرة 1858م الشيخ نصر الهوريني وعنها نقلت طبعات كثيرة أقدمها طبعة بولاق عام 1868م .
|
ثقافة
إبن خلدون .. ذلك الحضور الدائم
أخبار متعلقة