عمر عبدربه السبع رحلت السيدة العراقية نازك الملائكة عن عمر ناهز الـ 84 عاماً بعد حياة ممضة عانت فيها ردحاً من الزمن ضروباً شتى من الآلام الجسدية والنفسية فاقمتها المراحل المتقدمة من العمر.. فبرحيلها استراحت وأراحت استراحت جسداً وروحاً ، وأراحت من كان يعني بأمور حياتها في شيخوختها وهرمها..قرابة ثلاثين عاماً خيم على نازك الملائكة جو مقيت كله كآبة وحزن فصل بينها وبين الثقافة حواجز وجدران سميكة ولم يعد لديها فسحة للتأمل بقدر ماكان يؤلمها ويؤرقها الإنهاك الجسدي والنفسي فلم تتمكن الملائكة من سرد دراما حياتها اليومية ولم تقو على وصف آلامها من بعض المظاهر الاجتماعية المنافقة وجفاء الناس لها صورها كشبح من أشباح الموتى، فاوشكت نازك الملائكة أن تموت قبل إعلان موتها الرسمي يوم الأربعاء الموافق العشرين من يونيو 2007م بكثير.لقد عاشت نازك الملائكة حالة اغتراب عندما فقدت القدرة على تقرير مصيرها واستمرار التأثير في مجريات الأحداث الأدبية، وبعد أن نفت نفسها طوعاً أو كرهاً فاستلبت حريتها وعانت من حالة عجز في علاقاتها بالمجتمع ومؤسساته والنظام العام .. وبعد أن قطعت أسلوب عملها في المبادرة وانكماشها في دائرة المأزق الذاتي كان موتها الأدبي مع آخر ديوان لها وهو :" يغير أمواجه البحر" في سبعينيات القرن العشرين الفارط.وهل تعلم ياصاح من هي نازك الملائكة؟!لقد ولدت نازك الملائكة في بغداد في 23 أغسطس 1923م في أسرة تحتفي بالثقافة والشعر، فقد وصل إلى علمها ذات يوم مأساة الشعب المصري الذي طحنته آفة مرض الكوليرا فتأثرت بذلك أيما تأثير فكتبت أولى قصائدها "الكوليرا" في مجلة (العروبة) اللبنانية.. إذ تقول فيها"[c1]طلع الفجرأصغ إلى وقع خطى الماشينفي صمت الفجر، أصغ، انظر ركب الباكينعشرة أموات،عشرونالاتحصى، أصغ الباكينااسمع صوت الطفل المسكينموتى،موتى، ضاع العددموتى موتى، لم يبق غد في كل مكان جسد يندبه محزون...[/c]كان ذلك عام 1947م فاتفق جهابذة الشعر والنقاد العرب على أن نازك الملائكة أول من اخترع نظرية الشعر الحر، وان كان البعض يرى في قصيدة بدر شاكر السياب "هل كان حباً" المتزامنة مع قصيدة "الكوليرا" هي بداية الاعتراف بالشعر الحر.. ولم ينكر احد أن الاثنين معاً، السياب والملائكة، كانا من رواد الشعر الحر في الساحة العربية.وكان اهتمام الشعراء والأدباء بقصيدة الكوليرا احد أهم الدوافع التي شجعت نازك الملائكة لإسراع الخطى في إصدار باكورة ديوانها الشعري"عاشق الليل" في عام 1947م ثم أعقبته بديوان "شظايا ورماد" في عام 1949م، متظمناً مجموعة من القصائد الحرة، وفي هذا المناخ الشعري الحديث صدر للسياب عام 1950م ديوان" أساطير" ولعبدالوهاب البياتي ديوان"ملائكة وشياطين" وهكذا وجدت نازك الملائكة نفسها في الشعر، ثم هي تنغمس في معالجة أسلوب الشعر الحر فأظهرت عيوب الوزن الحر، ودرست تفعيلات الشعر الحر وبرهنت أن الشعر الحر ذو شطر واحد واهتمت بالهيكل العضوي للقصيدة الحرة والتكرار في الشعر الحر وميزت بين الشعر الحر وقصيدة النثر، وكان لها موقف مضاد من قصيدة النثر، وكان على رأيها الأخير مآخذ، وعرفت في الساحة الأدبية كشاعرة وناقدة وأكملت دراستها الأكاديمية فحصلت على ماجستير في الأدب المقارن من احد الجامعات الاميريكية والتحقت بمدرسة الأدب العربي في جامعتي بغداد والبصرة.غادرت نازك الملائكة بلاد الرافدين في خمسينيات القرن العشرين إلى الكويت ثم عادت إلى العراق، وقيل إنها غادرت العراق بعد حرب 1991م إلى مصر، وبقيت هناك إلى أن وافتها المنية.لقد كانت نازك الملائكة احد أهم الينابيع التي ساهمت في تشكيل الوجدان الشعري العربي وفي تحقيق الطفرة الشعرية والقفز على عمود الشعر إلى الشعر الحر.. بيد أن هذا الينبوع انحسر ربما تحت تأثير الضرب تحت الحزام أو بين علاقة المثقف بالسياسي أو السياسي بالمثقف فكان ثمة غرابة في أمر نازك الملائكة ، فقد انقطع خط التواصل، فازدرت النخب السياسية والثقافية ونأت بنفسها عن الثقافة والفكر... فاحجمت عن ارتياد المنتديات والمهرجانات الثقافية وغابت عن مواسم الشعر وضاع قلمها في المساحات المتاحة للأدباء في الصحف والمجلات الأدبية والثقافية و ..لكن مايشفع للشاعرة نازك الملائكة ماكتبته يداها للأجيال كديوان" قرارة الموجة" في عام 1957م وديوان "شجرة القمر" في عام 1968م وديوانها الأخير " يغير ألوانه البحر" في عام 1970م ولها دراسات أدبية موسومة"قضايا الشعر الحديث" في عام 1962م فخاضت حديثاً عروضياً في مسرحية احمد شوقي " مصرع كليوباترا" وتحصر فيه أخطاء القافية التي وقع فيها الشاعر الهمام.. وتخوض في الحب والموت في شعر ابن الفارض، وتعتبر إيليا أبو ماضي شاعر مجدد... وبهذا وغيره من الآراء أظهرت نازك الملائكة ملكة نقدية إلى جانب موهبتها الشعرية..ولعله من المفيد هنا أن نقتطف مختارات من شعر الشاعرة نازك الملائكة:ففي قصيدة (أنا) تقول:[c1]الليل يسأل من أناأنا سرة القلق العميق الأسود أنا صمته المتمردقنعت كنهي بالسكونولففت قلبي بالظنونوبقيت ساهمة هنا أرنو وتسألني القرونأنا من أكونوالريح تسأل من أنا أنا روحها الحيران، أنكرني الزمانومن قصيدة" لحن النسيان لم ياحياةتذوي عذوبتكالطرية في الشفاهلم وارتطام الكأسبالفم لم تزل في السمع همسمن صداهولم الملليبقى يعششفي الكؤوس مع الأمل[/c]ومن قصيدة :" الزائر الذي لم يجئ"مر المساء وكاد يغيب جبين القمر/ وكدنا نشيع ساعات أمسية ثانية/ ونشهد كيف تسير السعادة للهاوية/ ولم تأت أنت.. وضعت مع الأمنيات الآخر/ وأبقيت كرسيك الخاليا/ شاغل مجلسنا الذاويا/ ويبقى يضج ويسأل عن زائر لم يجئ/ وماكنت اعلم إن غبت خلف السنين/ تخلف ظلل في كل لفظ وفي كل معنى.لقد خاضت الشاعرة نازك الملائكة تجربة مثيرة فكانت شاعرة حرة فاعلنت عن ميلاد شعر حر ورسخته بمقالاتها ومفاهيمها لهذا الشعر.فعندما وارى جثمانها الثرى اعتبرها فاروق شوشة أعظم شاعرة عربية في القرن العشرين!! والشاعر احمد عبد المعطي حجازي قال إنها شاعرة مثالية ورومانتيكية واكبر شاعرة ظهرت في لغتنا.حصلت على جائزة البابطين عام 1996م رغم غيابها عن المنتديات الأدبية واحتفلت دار الأوبرا المصرية بتكريمها عام 1999م بمناسبة مرور نصف قرن من الزمان على انطلاقة الشعر الحر في الوطن العربي.. وقدمت لها الحكومة العراقية جائزة أدبية رفيعة في عام 2002م رغم احتجابها عن الحياة الأدبية العربية ولم تفلح الجوائز في إيقاظها من (كومتها) حسب رأي الأستاذ جهاد فاضل.. وقيل انه في عام 1992م كتبت عن " سايكولوجية الشعر" وفي عام 1997م صدر لنازك الملائكة في القاهرة مجموعة قصصية عنوانها"الشمس التي وراء القمة".فكما قالت نازك الملائكة عن البحر انه يغير امواجه، فأنها هي ذاتها غيرت مجرى حياتها .. وستظل الفترة التي شهدت ركودها وهدوءها مدعاة للحوار والنقاش والدراسة لرسم لوحة مشرفة وجميلة عن الشاعرة الثائرة والحائرة ، وحسبها قول الشاعر : [c1]ومأمن كاتب الاسيفنيويبقى الدهر ماكتبت يداه [/c]
|
ثقافة
وأوقف الموت عذابات الملائكة
أخبار متعلقة