مرافئ
لم يكن يراودني الشك في وجود تأثيرات وافدة على بعض فنوننا اليمنية خاصة في الموسيقى والغناء والفنون الأدائية كالرقص، باعتبار ما نعرفه من أن الشعوب خاصة المتجاورة تنفتح على المحيط التاريخي والجغرافي، وأن الانتقال الديمغرافي لها يؤدي الى امتزاج الاجناس والثقافات، والحضارات.ولعل الفنون بالذات هي من أكثر تلك التأثيرات التي تنتقل بسرعة كما كنت ومازلت على قناعة بأن هذا التأثير المتبادل يثري الفنون، والمعارف والتقنيات المنتقلة ولا ينتقص منها. وهذه ظاهرة اجتماعية تتماشى وصيرورة المجتمع والتاريخ.والتأثيرات الهندية كانت دائماً واضحة على مرحلة في الغناء اليمني خاصة في عدن وحضرموت بسبب الانتقال الديمغرافي بين اليمن والهند ، وأيضاً التأثيرات الطاغية للسينما الهندية التي كانت تحتوي على جرعة عالية من الموسيقى والأغاني.وعندما قرأت كتاب الدكتور نزار محمد عبده غانم: (الرقصات الافرو يمنية) الصادر حديثاً عن دار عبادي للدراسات والنشر ـ صنعاء وهو "بحث في افريقانية اليمن الموسيقية" ازدادت قناعتي بهذه الصيرورة التاريخية.يقع الكتاب في (96) صفحة من القطع الصغير (30) منها للمراجع والهوامش والصور والمقدمة والغلاف والباقي لبحثه القيم.ولكي نقف على مدى الجهد الكبير الذي بذله المؤلف في بحثه فقد عاد الى نحو 73 مرجعاً بلغاتٍ عدة منها الانجليزية والألمانية والعربية واعتمدها لكي يوفر له الصدقية والعلمية اللتين يتطلبهما اثبات او نفي موضوع بتلك الأهمية.وبما ان الفنون عموماً والموسيقى والرقص تحكمها سنن التأثر والتأثير مثلها مثل اللغة نتيجة عوامل كثيرة فإن المؤلف يثبت منها التجارة وتبادل السلع والتحركات الديمغرافية وتجارة الرقيق بالاضافة طبعاً الى الجوار كمصادر للتأثير والتأثر الثقافي لعرب شبه الجزيرة لاسيما القاطنين في سواحلها، ويعد الجسر الذي عبرت منه تلك المؤثرات الثقافية ومنها الفنون التعبيرية الادائية في الاتجاهين بما في ذلك الى اليمن.ولا شك ان تلك الفنون المنتقلة الينا من البر الزنجي المواجه لشبه جزيرة العرب شدت رحالها عبر البحر والبحارة والانتقال البشري بالاتجاهين وتواصلت مع ثقافتنا اليمنية العربية والعودة بصيد وافر من الافكار والقيم التي سرعان ما تستوطن وتصبح جزءاً من المكونات الثقافية والفنية تماماً كما يتم الغوص في البحر والفوز بما اختزنه من لؤلؤ غالٍ ونفيس.الكتاب على الرغم من صغره سيجد فيه القارئ متعة وفائدة لا تقدر بثمن حول بعض أشهر رقصاتنا اليمنية ذات الاصول الافريقية، كما سيجد فيه المختصون من أهل الموسيقى والطرب والمهتمون بالفنون الشعبية مادة علمية غنية عن طريقة أداء كل رقصة وايقاعها وسلمها الموسيقي، والمناسبات التي تؤدي فيها، والمناطق التي تنحصر فيها والآلات الموسيقية المصاحبة لها الخ..كما ان الكتاب محرض قوي كما نتوقع ونأمل للباحثين والمهتمين والمتخصصين بالموسيقى والرقص وفاتح لشهيتهم لمزيد من البحث والدراسة حول الموضوع الذي تطرق له الدكتور غانم.كما بودي الإشارة الى ان هذا الكتاب يصب في الجهد والعطاء الذي سبق للدكتور نزار غانم ان بدأه حول جذور الاغنية اليمنية في اعماق الخليج وجسر الوجدان بين اليمن والسودان، واضافة جديدة ومفيدة الى ذلك الجهد الذي يؤرخ للتأثيرات المتبادلة للموسيقى والفنون اليمنية خاصة الرقص والغناء مع محيط اليمن الجغرافي. ولا شك ان هذا التأثير ليس باتجاه واحد، أي من الخارج الى اليمن، بل ايضاً من اليمن الى الخارج ، وكتاباه السابقان المشار اليهما تأكيد على هذه الحقيقة كما نجد اشارات قوية على هذا التأثير في هذا البحث أيضاً خاصة على بدو جنوب جزيرة سيناء وعلى رقصات السماكة في شرق السودان. وثمة ملاحظة أخيرة لابد من قولها وهي انني اهنئ زميلي وصديقي الدكتور نزار غانم على بحثه القيم الذي مكنني من التعرف على التأثيرات الافريقية على بعض أهم رقصاتنا اليمنية في كتاب قيم جداً على الرغم من صغر حجمه، لكنه عظيم الفائدة، ويحتوي على قدر هائل من المعلومات الموثقة علمياً ويبدو انه كان مسبوقاً بخطة مدروسة في ذهنه اراد بها تحويل ما يجول في ذهنه الى كيان بحثي ماثل امامه وأمام قرائه لتحقيق الفائدة المرجوة، لكن هذا لا يمنعني من ان أتمنى على عزيزنا الدكتور نزار غانم ان يلبي جزءاً من حقنا عليه كباحث ومبدع في ان يتبع هذا الجهد المميز ببحث ميداني حول الموضوع نفسه فيقوم بزيارات ميدانية الى المواطن الحقيقية التي وفدت منها تلك الرقصات، في البر الافريقي، ويدرس في نفسه الوقت التطورات التي دخلت عليها في بيئتها اليمنية الجديدة ولا يعفيه من التصدي لهذه المهمة دعوته لعلماء الاثنوميو زيكولوجي (علم موسيقى الشعوب) "تقديم مثل هذه البانوراما المتكاملة من المثاقفة المذكورة بين سواحل جزيرتنا العربية والبر الزنجي بحيث تكون دراسة جامعة مانعة لا تترك صغيرة او كبيرة الا وتفحصتها وحللتها تجريبيا موظفة في ذلك معارف ومهارات ذلك العلم". كما نتمنى من وزارة الثقافة ووزيرها المثقف الأستاذ/ خالد الرويشان تمويل مثل هذه البحوث التي تحتاج بدون شك الى امكانيات مادية غير قليلة، لكن مهما كلفت فإن تمويل الابحاث والدراسات من هذا النوع تستحق المال والجهد المبذولين فيها لأنها سوف تعتلي من مكانة الثقافة التعبيرية والادائية والشفاهية باعتبارها صادرة عن علم ومعرفة عميقتين بالشكل والجوهر ، بالتوصيف والتصنيف، ولا تبقى مجرد فنون نؤديها دون ان نعرف اصولها ومعانيها التي تحملها والبيئة التي احتضنتها، بحيث صارت من ثقافتنا وفنوننا الشعبية بما في ذلك التطوير الذي أدخل عليها ومساهمتنا في ذلك كجزء من موروثنا الشعبي.