عبدالقادر أحمد قائد تمتاز الأغنية اليمنية بالكثير من الخصائص والمميزات والاشتراطات التي كانت سبباً في ذيوعها ، وانتشارها وشهرتها خارج محيطها المحلي إبتداءً من مراحلها الأولى التقليدية حتى مراحل متقدمة في شروطها وأساليبها وقوالبها اللحنية .والأغنية اليمنية بألوانها المختلفة وبكلماتها وإيقاعاتها وأنغامها البسيطة والمحدودة في تراكيبها اللحنية نابعة من روح وأصالة الموروث الشعبي الذي يتغنى به الكل في الحقول والسهول والوديان وفي كل الظروف والمناسبات ، فاليمن تزخر بكثرة تنوع فنونها من عناء وأهازيج وزوا مل ومها جل وإيقاعات ورقصات تشتهر بها كثير من المناطق فهناك الموشح الغنائي المعروف بالأغنية الصنعانية. ولون الغناء الكوكباني والتهامي واليافعي واللحجي والحضرمي والعدني والتعزي وألوان أخرى تتميز بها باقي المناطق في بلادنا. كما لاننسى دور الرواد الكبار من شعراء وأدباء وملحنين ومطربين أمثال يحيى عمر (أبو معجب) والأمير أحمد فضل القمندان وسلطا بن الشيخ علي (آل هرهرة ) وغيرهم.. الذين ارتبطت أسماءهم بتلك الألوان الغنائية ، فقد عشقوها وجددوا فيها وأضافوا إليها أروع ما جادت به قرائحهم ، ماساعد على انتشارها وازدهارها واقتراحنها بأسماء المناطق التي اشتهرت بها. وإذا ما وقعنا عن قرب للتعرف على بعض من تلك الألوان الغنائية وشروط نجاحها وانتشارها ولنبدأ بالموشح الغنائي اليمني المعروف بالأغنية الصنعانية سنجد أن المميزات التي تميزها هذا الموشح واختلاف ألحانة عن سائر الألحان التراثية في البلاد العربية جميعاً بتراكيبها اللحنية المبنية على موازين إيقاعية لرقصات شعبه ومقامات موسيقية بنفحة محلية تنفرد بها اليمن دون غيرها قد جعلت منها الحاناً مميزة الأسطوانات الاحتكارية المنتشرة في عدن التي أسهمت في الحفاظ على هذا الغناء وذيوعه وانتشاره ، فبقدر ما كانت تستغل جهود المطربين مقابل مبالغ زهيدة بقدر ما كانت تعمل على توثيقه وتسجيله على اسطوانات من غير أن يكون ذلك هدفها الحقيقي ، نظراً لتفكيرها في الربح لاغير مثل شركة أو ديون ، طه فون ، جعفر فون ، عزيزي فون ، شركة التاج العدني وغيرها. لقد كانت عدن شرطاً مهماً وملاذاً آمناً وملتقى لجميع القادمين من شمال بلاد اليمن نتيجة لما كان يلاقيه المطربون فيها من مضايقات بسبب تحريم الغناء هناك مما ساعد على نشره ورواجه فيها فقد كانت للأغنية الصنعانية آنذاك - كما يقول الدكتور محمد عبده غانم في كتابة شعر الغناء الصنعاني - مجال واسع جداً يتخطى الحدود الإقليمية والسياسية ، ومنذ ستين عاماً مضت كانت العادة المتبعة في عدن ولازالت إلى يومنا هذا تقضي بأن تبدأ الوصلات الغنائية في الأعراس وحفلات القات بالأغنية الصنعانية. وفي ندوة الموشح اليمني التي نظمتها وزارة الثقافة والسياحة في عدن بتاريخ 28 نوفمبر 1984م أشار الأستاذ الكبير الشاعر عبدالله البردوني إلى دور عدن في الحفاظ على التراث الغنائي القديم حيث قال : (إن أي متابع للفنون سوف يسجل لعدن آية الاحتفاظ لأنها أول من سجلت الأغاني اليمنية في آخر الثلاثينيات والأربعينيات ، ولولا التسجيلات التي كانت تسجل هنا في عدن لما سمعنا مثل (من سب اهيف) و( نسيم الصبا) ومثل ( وامفرد بوادي الدور) ، هذه التسجيلات شكلت احتفاظها بالتراث . واليوم - في راينا - فإن الأغنية المعروفة بالأغنية الصنعانية قد خرجت إلى المستوى الإقليمي والعربي وذلك بفضل الكثير من المطربين اليمنيين أمثال المطرب أبوبكر سالم بلفقيه العربية. إن مساهمة هؤلاء المطربين وغيرهم في نشر الأغنية بألوانها المختلفة والتعريف بها في الخارج سوف يسهم في الحفاظ على تراثنا الغنائي وفي أن يحتل مكانة مرموقة ومتقدمة ويساعد على ذيوع وانتشار الأغنية اليمنية خارج اليمن واكتسابها شهرة واسعة ويخلق نوعاً التنافس الشريف في مختلف الفنون على المستويين العربي والعالمي. أما الغناء في لحج فقد ذاع صيته واشتهر بفضل الجهود التي بذلها الأمير أحمد فضل القمندان ثم أن كثيراً من الأسباب جعلته يدرك أهمية الأغنية اللحجية ويفكر في بعثها وتجديدها : أدرك وبحسه المرهف أنه أمام فن أصيل يجب العمل على جمعة وحفظه وتأصيله ، فقد كان يرى ويسمع الكثير من الأغاني تبدأ بالانتشار ولكن سرعان ما تتلاشى ، الأمر الذي جعله يفكر في عملية تطويرها وتجديدها. ظهور (الفونوغراف) أو صندوق الطرب أو كما يطلق عليه، رسخ فيه تصميمه على البدء بعملية التطوير أو التجديد للأغنية اللحجية ، فقد استهوت الأغاني الوافدة المسجلة على الأسطوانات الكثير شبان عدن فمنهم من كان يهوى الأغاني الهندية وبعضهم الآخر المصرية مما جعل القمندان يبدي نوعاً من التخوف من انتشارها وتأثيرها ، فالذي تتأثر به عدن تتأثر به لحج أيضاً.تمتلك الأغنية اللحجية الكثير من المميزات والخصائص التي تجعلها تحتل المكانة اللائقة بين بقية ألوان الغناء اليمني الأخرى وتأخذ نصيبها الذيوع والشهرة والانتشار. لقد بذل القمندان جهوداً كبيرة في سبيل ذلك وتحمل الكثير من الانتقادات والمضايقات من بعض أفراد الأسرة الحاكمة وكان هدفاً للكثير ممن لم يطب لهم ذلك وحاربه البعض من محبي الأغنية الصنعانية والمصرية والهندية وكذا المتزمتون الذين مارسوا ضده كل الوسائل لمنعه من مواصلة مسعاه النبيل. وحتى يستطيع أن يصل بالأغنية اللحجية إلى النجاح والشهرة والذيوع اعتمد في تطويره لها على تراث من سبقه في ذلك في قول الشعر وعلى إيقاعات الرقصات الشعبية وألحانها وأضاف وطور وطغى على من سبقه وحتى من لحقه في التطوير والشهرة.ومن العوامل التي أدت إلى نجاح القمندان في مسعاه محاولاته المتكررة الساعية إلى تأسيس فرقة موسيقية يستطيع من خلالها إبراز ما يقوم به تطوير ونشره بين أوساط الناس وفعلاً استطاع أن يعثر على من يساعده في ذلك وتأسست الفرقة الموسيقية التي ضمت العديد من المواهب منهم مسعد بن أحمد حسين وفضل محمد جبلي (اللحجي ) ثم بعد فترة وجيزة يقرر تقديم ما عنده من جديد للناس فيخرج عليهم بمفاجأة الكبرى ويقدم لهم فرقته الموسيقية لأول مرة في حفل زواج أحد الأعيان في لحج الأمر الذي أبنهر به الحاضرون وثيقنوا بأن ما يقوم به القمندان من تطوير وتجديد لتراث من سبقه وتقديم ما جادت به قريحته من أشعار وألحان هو عين الصواب وبذلك حسم الجدال في جدوى مايقوم به وتأكد للناس صواب ما سعى أليه ومن خلالها نشاط هذه الفرقة استطاع أن يوثق الكثير من الأغاني بأصوات فضل محمد ومسعد على اسطوانات بعض الشركات مثل شركة أوديون ويسمع الناس الجديد من إنتاجه في أوقات المساء الذين ألفوا الحضور كل ليلة والتجمع تحت نوافذ داره في لحج ليستمتعوا بما تقدمه لهم الفرقة الموسيقية ، وبذلك استطاع أن يذيع وينشر تراث لحج وما كان يقوم به من تطوير لهذا التراث وأن يضع الأغنية اللحجية في مكانها اللائق بين بقية الألوان الغنائية اليمنية ويؤسس لمن جاء بعده من الرواد من شعراء وملحنين ومطربين الذين حافظوا على أصالة تراث لحج وأسسوا الفرق الموسيقية وأثروا الساحة الفنية بأروع الأعمال الخالدة وكانوا امتداداً لباني النهضة وعصرها الذهبي في لحج الأمير أحمد فضل القمندان أما الغناء في عدن فقد كان أكثر تطوراً عن ما يماثله من الأغاني اليمنية وذلك بحكم أن عدن كانت مدينة وميناء ولاتزال تضم إمكانيات فنية كثيرة أكان ذلك في عدد العناصر الفنية أو في وجود المكونات الفنية لهذه العناصر وذلك بحكم تخلف الريف في عهد الحكم الأنجلو سلاطيني .لقد أسهم الرواد الأوائل مثل الفنان خليل محمد خليل والفنان سالم أحمد بامدهف وغيرهم في النهضة الفنية الحديثة في عدن التي أفضت إلى إرساء الأسس والتقاليد الموسيقية الحديثة وعملوا على خلق لون غنائي جديد نابع من الأصالة اليمنية ومن روح الغناء اليمني المنتشر في كل أرجاء اليمن وأخذوا على عاتقهم مهمة تطوير الغناء في عدن ليأخذ مكانة المتميز بين ألوان الغناء اليمني المختلفة فعلموا على تأسيس ندوة الموسيقى العدنية التي ضمت الكثير من المواهب الشابة وكان هذا في أهم شروط إبراز الأغنية الجديدة في عدن وذيوعها فقد انتخب الندوة منذ بداية تأسيسها في عام 1949م الكثير من الأعمال الغنائية من ألحان خليل محمد خليل ونظم الأستاذ محمد عبده غانم اتسمت بطابع وقالب لحني جديد متطور تميز بالطابع العدني الخالص المتشبع والمتأثر بالكثير من الأنغام والإيقاعات المحلية والوافدة ولكنه يحمل الشخصية المحلية بقالبها اللحني الحديث المتطور . لقد كان الكثيرون ينادون بتطوير الغناء في عدن والكف عن تقليد الأغاني الوافدة من هندية ومصرية والبدء في تطوير الغناء المحلي في عدن الذي من أشهره الأغاني التالية : أغنية (منايا من الدنيا) للفنان يوسف عبدالغني وأغنية (ليتك تساعدني أنا ) للفنان يوسف عبدالغني وأغنية إذا لم يكن ، للفنان حسين عبدالله الصوري وأغنية (ياغصن لابس قميص) للفنان إبراهيم محمد الماس وأغنية (مالي مريح سوى المدامة) للفنان إبراهيم محمد الماس لقد اتفق هذا الطرح مع رأي الفنان محمد مرشد ناجي الذي ورد في كتاب الأستاذ خالد صوري (خليل محمد خليل ، صيانة وفنه ) ونادي حينها بضرورة التجديد والتحديث وكان يقول : ( إن مسألة الاستماع إلى التراث والتشبع به والعمل على تقليده شيء لابد منه حتى إذا جاءت مرحلة الإنتاج للألحان المحلية فلا ضرر أن تكون متأثرة وتميل إلى الألحان المصرية مثلاً ولكنها في النهاية سوف تكون محافظة على نكهتها المحلية). ومع استمرار عطاء الندوة من الإنتاج المتميز من عام 1949م حتى عام 1959م وتواصل النشاط الذي شهدته مدينة عدن في تلك الفترة بدأ التنافس واضحاً بين الندوة وبقية التجمعات الفنية الأخرى والذي كان له أثر طيباً في إثراء الحياة الفنية بمختلف الألحان فقد برز من خلالها تجمع الرابعة الموسيقية العدنية التي تأسست بعد قيام الندوة بثلاث سنوات كل من الفنان سالم أحمد بامدهف والفنان محمد سعد عبدالله كما برزت إلى حيز الوجود الرابطة الموسيقية لشباب التواهي وهي تجمع فني ضم الفنانين المعروفين آنذاك أمثال عمر باشراحيل وأحمد عبدالرحمن الكعمدي الذي كان له الفضل في اكتشاف الفنان القدير أيوب طارش وتقديمه في أول لحن عرف به وهو لحن (إرجع لحولك) .كما لاننسى التجمع المتميز الذي عرفت به فرقة بازرعة الخيرية الموسيقية واستخدامها للآلات الموسيقية الحديثة الوترية والنحاسية بقيادة موسيقار الأجيال الأستاذ يحيى محمد مكي الذي أسهم مع هذه الفرقة بتلحين الكثير من الأغاني العدنية الحديثة بالاشتراك مع تلاميذه الذين خلفوه في هذه الفرقة وفي مقدمتهم الفنان أحمد بن أحمد قاسم الذي أسس فرقة أحمد قاسم التجديدية وكرس جهوده للارتقاء بالموسيقى في عدن إلى مستوى مشرف ولائق وإنتاج ألحان تتسم بطابع التجديد للأغنية المحلية. كما أن انضمام الكثير من الشعراء إلى تلك الندوات قد أسهم في رفدها بالكثير من القصائد والرفع من قدرات وإبداعات الشباب الأمر الذي دفعهم إلى اختبار مواهبهم في التلحين وأدى إلى إنتاج العديد من الأعمال الخالدة إلى يومنا هذا. بعد ذلك توالى تأسيس الفرق الموسيقية في عدن ففي العام 1963م تأسست الفرقة الموسيقية الحديثة بقيادة عازف الكمان علي محمد فقيه ومن بعده الفنان نديم محمد عوض والفرقة العربية للموسيقي بقيادة الفنان أحمد تكرير وفرقة البلابل الموسيقية بقيادة الفنان وديع هائل وفرقة الإذاعة الموسيقية بقيادة الأمير محسن بن أحمد مهدي وفرقة الأنامل الموسيقية بقيادة شكيب جمن وفرقة الشرق الموسيقية التي (نسلخ بعض من أعضائها عن الفرقة العربية بقيادة الفنان أحمد تكرير وفرقة التلفزيون الموسيقية بقيادة الفنان محمد سعد عبدالله وإشرافه وفرقة وزارة الداخلية الموسيقية الفنان سالم الحطاب وفرقة أول مايو الموسيقية بقيادة الفنان عبدالله حيدرة ومن بعده الفنان نديم عمر وفرقة التضامن بقيادة الفنانين عمر الصيعري وحسن بامطول وفرق إدارة الثقافة الموسيقية م/عدن وفرقة وزارة الدفاع الموسيقية بقيادة الفنان هشام خرج وفرقة الأصدقاء الموسيقية التي أسسها واشرف عليها الفنان أحمد علي باقتادة .كل هذه الفرق الموسيقية كان لها الفضل الأكبر في احتضان الكثير من المواهب الشابة من عاز فني ومفنيين وشعراء والتسابق في تقديم أفضل ما لديهم من إنتاج لكسب حب الجمهور ورضاه حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تنظيم وإقامة حفلات شعبية على مسارح دور السينما بعدن والدخول في تنافس شريف ساهم في إذكاءه الكثير من الشعراء الذين أعطوا أروع ما جادت به قرائحهم ، وبذلك استطاع الفنانون في عدن بعطاءاتهم المستمدة من روح وأصالة التراث الغنائي اليمني أن يعملوا على إرساء قواعد وأصول فنية تميزت بها الأغنية الحديثة بعدن أدت إلى نجاحها وشهرتها وذيوعها. [c1]هامش:[/c]قدمت هذه المادة أو المحاضرة الفنية المهمة في إحدى الفعاليات المميزة التي تنظمها جمعية تنمية الثقافة والأدب - بعدن ، والأستاذ عبدالقادر أحمد قائد باحث موسيقى بمعهد الفنان جميل غانم للفنون الجميلة ، بعدن، وصدر له كتاب بعنوان (في الغناء اليمني).. ، ويعكف حالياً لاستكمال ما بدأه في الكتاب ، بتناول بقية ألوان الغناء اليمني، وننشر هذه المقالة لتعميم الفائدة وإيجاد حراك في مجال النقد والبحث الموسيقى بأقلام فنية متخصصة.
أخبار متعلقة