الشاعر مقبل نصر غالب
الشعر الحلمنتيشي، تسمية ساخرة لنوع من الشعر الضاحك كان قد أطلقها الشاعر المصري حسين شفيق المصري على ماكان ينظمه من شعر هزلي وفكاهي في العشرينات من القرن الماضي.وقد تأثر بهذا اللون من الشعر شعراء كثيرون ومن أبرزهم الشاعر اليمني مقبل نصر غالب، الذي عرف بمعارضاته الساخرة لكثير من قصائد الشعر العربي الشهيرة، فقد كان يميل إلى تغيير القصائد الشهيرة بأسلوبه الساخر، ليضفي عليها نكهة جديدة ويعكس فيها رؤيته المغايرة للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة في الوطن العربي عموماً ووطنه اليمن خصوصاً، فهو يتناول سلبيات الواقع وينتقدها بجرأة غير معهودة، وبسخرية لاذعة، تثير القارئ، وتدفعه للضحك من الصور الكاريكاتورية التي يرسمها للواقع غير المرغوب فيه، والذي يتمنى تغييره نحو الأفضلوكثيرة هي القصائد الساخرة التي نظمها الشاعر مقبل نصر غالب، والتي نحافيها منحى الشعر الحلمنتيشي، وهو ليس من الشعر السهل كما يبدو للقارئ أو السامع لأول مره بل هو فن بالغ الصعوبة فهو لايحتاج إلى الشاعرية فحسب بل يحتاج إلى الظرف وخفة الظل والقدرة على التلاعب بالألفاظ لإضحاك الناس وأكثر من ذلك يحتاج إلى صراحة وجرأة لنقد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية وهو ما يتميز به شاعرنا مقبل نصر غالب الذي عرف بنقده اللاذع، وخفة ظله، وشجاعته وجرأته في نقد الأوضاع وتصديه للفساد والمفسدين ولذا كان لابد من التعريف به والوقوف عند بعض مراحل تكوينه ونشأته.إنه الشاعر مقبل نصر غالب:لقد ولد في مديرية العدين من محافظة إب، عام 1952م. وينحدر من أسرة فقيرة في ظل العهد الأمامي المتخلف، وكان الشاعر قد وصف مرحلة الطفولة بقوله:ولدت بأرض الربى والهضــاب [c1] *** [/c] صبياً اغنـي الصبــا والتصــابأفيق وللكــون شـــدو الطيـــور [c1] *** [/c] وأغفو على صوت نبـــح الكـــــلابنصــارع كــل ظروف الحيـــــاة [c1] *** [/c] لنفرح يــوم المنـــى بالصِّـــرابيناصفنــــا الشيــــخ مانجتنيـــــه [c1] *** [/c] ونصف البقيـــة جيـش الخــــــرابثم انتقل إلى مدينة عدن لطلب العلم فيها، ولكنه واجه فيها قساوة الحياة على أشدها فكان يقضي نصف نهاره في الدراسة والنصف الآخر في العمل بعيداً عن حنان الأم ورعاية الأب وهو ما عبر عنه بقوله:فلم أر في الأرض قلبــاً رحيمــــــاً [c1] *** [/c] بكيت فابكــيت حتـــــى التـــــرابكان ذلك في الفترة الواقعة بين 1960 و1966م وانتقل بعدها إلى تعز لعله يجد فيها من يتولى رعايته ويمكنه من مواصلة دراسته وفيها درس المرحلتين الابتدائية والإعدادية بطريقة الجمع بين الدراسة والعمل التي كان قد اعتادها في عدن، إلا أنه كان يحضر الدروس المسائية التي يقدمها بعض العلماء الأفاضل في بعض المساجد، فقد درس الفقه على يد الشيخ عبدالرحمن قحطان، ودرس اللغة العربية على يد الأستاذ عبد الملك داؤود ودرس الفكر الإسلامي على يد الأستاذ ياسين عبدالعزيز، فتفتح ذهنه للقراءة، وصار شغوفاً بها، وهو ماشجعه للاطلاع على بعض كتب الأدب.وقراءة بعض دواوين الشعراء وبدأت تظهر محاولاته المبكرة في نظم الشعر منذ كان تلميذاً في الإعدادية وتحديداً عام 1970م حيت بدأ محاولاته الأولى بقصيدة حاكى فيها قصيدة للشاعر احمد الشامي والتي كان الشامي نفسه قد عارض فيها قصيدة الجندول لعلي محمود طه.[c1]أنا من ضيع في الأوهام عمرهقد سئمت الحلم من أول نظرةوعرفت الخلق في الأرض وشرَّه خيرهم من يتقي الأصحاب غدرهقد شربت المرحتى لم ادع في الكاس قطرةوشربت المر الواناً وأدمنت امرَّه[/c]ويبدو طابع الحزن واضحاً عند الشاعر منذ محاولاته الأولى وفي سن مبكرة جداً.وفي نهاية العام الدراسي 74/1975م كان قد أنهى الثانوية العامة، وبعدها حصل على دبلوم المعلمين ولكنه واجه صعوبات شتى للحصول على التوظيف في سلك التدريس الحكومي، فاضطر للعمل كمدرس متعاقد في الفترة المسائية، وهو ما اضطره للقول: من قال في الدبلوم عيش اسعد فهو التعاسة والظلام الانكدوكان للشاعر حضور ومشاركات في المناسبات المختلفة سواء كانت دينية أو وطنية أو اجتماعية فقد نظم قصائد في المولد النبوي وفي الهجرة وفي الإسراء والمعراج، وكتب مقالات في بعض الصحف كما ألقى خطابات في بعض المساجد تناول فيها جملة من القضايا من وجهة نظر ناقدة، ومن ذلك مثلاً مقالة كتبها في صحيفة العروبة العدد 19 الصادرة في 28/10/1991م، ينتقد فيها العمل الحزبي وغياب الحرية الفردية في الأحزاب، قال فيه متسائلاً:« هل يستطيع الحزبي أن يعبر عن رأيه الشخصي دون أن يحاسب عليه من حزبه؟ أو يحاسب عليه من الأحزاب الأخرى؟»ويجيب عن هذا التساؤل قائلاً:« حسب تقاليد معظم الأحزاب لا يعبر العضو إلا عن فكر الحزب ورأيه ومواقفه، ولا يؤيد أية خطوة تقوم بها جماعة أخرى إذا كانت تختلف مع جماعته، بل قد يصل الأمر إلى منعه من اللقاءات الشخصية مع الشخصيات في تلك الجماعات، أو التعاون مع أفراد تلك الجماعات أو حتى التعامل واغرب من هذا أن رأي الفرد الشخصي تعتبره الجماعات الأخرى رأي الحزب أو الجماعة التي ينتمي إليها، فتقوم بشن هجوم على الجماعة كلها.» أ.هـ.وله مقالات أخرى تنتقد مفهوم الديمقراطية بالصورة التي ظهرت عليها في الوطن العربي عموماً وفي اليمن تحديداً وطالب بإعادة النظر في الديمقراطية بما يتناسب مع متغيرات العصر وظروفه ومنها مقالة نشرها في صحيفة الجمهورية في العدد 454، الصادر في 11/7/1991م. قال فيه:((هذه الديمقراطية التي عرفها الشعب العربي سقطت مثلما سقط قناع العماله والولاءات الأجنبية بأدلة واضحة في الوقت الذي لم يستطيعوا تقديم أدلة على عمالة معارضيهم الذين ذبحوهم سقطت الحلول المستوردة التي فرضت بالحديد والنار لا بالحوار الديمقراطي والإقناع العلمي والتفكير العقلي. ولذلك فالعرب مطالبون بإعادة النظر في الديمقراطية بما يتناسب مع متغيرات العصر وظروفه ومتطلباته في إطلاق حرية التفكير حرية العمل ، حرية العلم، حرية الممارسات الدينية، حرية التعبير حرية الحياة حرية الانتخابات، حرية الاستفتاء، حرية النشاط الاقتصادي، وفق فلسفة يتفق عليها أبناء الشعب))أ.هـ.وكان الشاعر قد سافر إلى الأردن لدراسة التربية وعلومها عام 1975م وفيها جره الحنين إلى محبوبته في الوطن، فقال:من القلب مــن مبعـــث الأدمـــــع [c1] *** [/c] أناجيك إن كنت لــــم تسمعـــــــيأناجيك والقلب منـــي حزيـــــــــن [c1] *** [/c] وقــد اثر البعـــد فــــي أضلعــــــي وكان الشاعر بعد عودته من الأردن عام 1978 قد فوجئ بأنه مدعو لحضور حفل عرس تلك الفتاة التي أحبها وهي تزف لشخص آخر، فأثر ذلك في نفسه وقال:سئمت الحيـــــاة فــــلا أطـمــــــع [c1] *** [/c] ولـــم أر فـــي العيش مــايمتـــــــعولم تلهنـي زركشـــات الحيــــــاة [c1] *** [/c] ولا بلبـــــل الــــروض إذ يسجــــــعوبعدها ترك تعز واتجه إلى صنعاء ليعمل في مجال تدريب المعلمين في أثناء الخدمة، وفيها تفاعل مع كل مستجدات العلوم التربوية، من خلال الدورات الكثيرة التي حضرها والمؤتمرات التربوية، المتعددة التي شارك فيها، مما مكنه من التعرف على مشكلات التربية، والقيام بإعداد دراسات وبحوث ميدانية تناول فهيا جملة من القضايا التربوية الهامة ونشرت بعضها في عدد من المجلات والدوريات المتخصصة وكان لموقعه القيادي كمدير للتدريب في أثناء الخدمة منذ عام 1982م حتى 1990 أثره الكبير في تمكينه من تشخيص كثير من المشكلات التربوية وإيجاد الحلول لها. ومع ذلك كان ضحيه من ضحايا التقاسم الذي حصل بعد قيام الوحدة عام 1990م حيث تم إبعادة من موقعه ولم يدخل ضمن قائمة التقاسم، فاثر ذلك في نفسه تأثيراً كبيراً، فاستحضر قصيدة من قصائد الشاعر الكبير عبدالله عبدا لوهاب نعمان ( الفضول) وكتب على منوالها قصيدة حزينة قال فيها:مالدهري كيــف أيامـــي تسيــــــر [c1] *** [/c] مالهذا الجــرح والدمــــع الغزيــــــركلما فتشت عــــن روض نظيـــــر [c1] *** [/c] صدني السبع بأصــــوات الزئيــــــروإذا حاولـــــت اروي ظمــــــئـــــى [c1] *** [/c] أجـد الثعبان فـــي مــــاء الغديـــــروإذا يممـــت وجهــــــاً ناسكــــــــاً [c1] *** [/c] فسهام الغدر في ظهــــري كثيـــــروإذا أملـت في غيــــم النـــــــــدى [c1] *** [/c] رحـــــل الغيــم وخلانــي أسيـــــــروربما كان لهذا التجاهل الذي حصل للشاعر مقبل نصر غالب من قبل ولاة الأمر والمتنفذين في وزارة التربية في مرحلة مابعد الوحدة أثره البالغ في نفسه حيث شعر أنه صار مهمشاً ولم يعد قادراً على التأثير في صنع القرار، ولا المشاركة في إبداء الرأي، وهو ما دفع به ليكون شاعراً ساخراً من الحياة والأوضاع السياسية القائمة ومتذمراً من الممارسات الخاطئة التي مارسها بعض المتنفذين في أجهزة الدولة، ولعل ذلك هو احد أسباب اندفاع الشاعر للسخرية من محيطه والحياة عموماً وهو ماجعل شعره يتسم بالسخرية، تعبيراً عن عدم رضاه مما يجري في الواقع.