الشعر قمين بتحقيق الدهشة:هل يحق لي أن أقول هذا؟ والدهشة هذه هي استعادة الحواس لطفولتها فعافيتها , ولذلك ببساطة تتكدس الدواوين في الارفف في كل اصقاع العالم وتبقى هناك إلا من رحم ربي! الشعر ظاهرة إنسانيه ملازمة لاهم اكتشافات البشر قاطبة وهي اللغة . ولذلك لم ولن تخلو ثقافة طورت لغة مكتوبة او غير مكتوبة من اللجوء للغتها لتقول نمطا مغايرا من البوح الانساني تتقاطع فيه الذاكرة بالخيال فتولد القصيدة.ولكن ليس بالضرورة القصيدة المدهشة التي تحفظها الذاكرة النخبوية وتضخها في الوجدان الجمعي بلا توقف , فتلك هي جغرافية الشعر المدهش وما الارفف إلا زوائد تلك الخارطة في أحسن الأحوال. إيمان ادم خالد شابه سودانيه وها هي تقدم ديوانها الأول بالعربية الفصيحة وتعد بتقديم ديوانها القادم بالمحكيه السودانية بعنوان ( زخة يا مطرة). و في الحالتين أجدها قادرة على توليد الدهشة!إذن هي المدهشة و عتاد العذارى في مواجهة المحنة ( الحواء) ؟ النصوص تتوالى بانسيابية في هذه المجموعة وتعبر عن مشهد قمين بأن تدرس من خلاله سوسيولوجيا المجتمع السوداني وهو يودع قرنا ويستقبل قرن(1997-2002). و رغم أن الشعر ليس موظفا لدى علم التاريخ او الانسانيات و السلوك و الاجتماع ليسجل منعطفات نفس الامه وهي تدخل من (القتام الى القتام) على راي ابي الطيب المتنبي, إلا انه – اي الشعر- يفعل ذلك لانه مراه الزمان والمكان (الزمكان). ماهي اذن الثقافة المكتسبة للمدهشة ايمان والتي تتراءى من خلال هذه المجموعه؟ لن يغيب عن عين لبيب التضمينات القرانية الكثيرة والموظف بادهاش وشئ من قاموس احاديث المعلم الاول محمد(ص) وعيون الشعر الجاهلي وذخيره الامثال العربيه,مستصحبة رموز تاريخ حضارات العالم: اليمن (بلقيس)واليونان والرومان (نيرون وفرماس)والفرس(يزدشرد) قبل الاسلام, بل وحتى الهجين السوداني_ الروسي المعاصر بوشكين وصولا إلى تراكيب اشتهر بها شعراء سودانيون مثل ادريس جماع الذي كان صديقا للشاعر السوماني الكبير عبد الله حمران :-فيبدو كل قبيح جميل المحياوتركيب اخر يتناص مع الشاعر محمد ابوبكر في غناء زنقار ( ان في الصمت كلاما):-صامت شجني وفي صمت نحيب هناك حضور لشعراء مدرسه الغابه والصحراء في النصف الثاني من القرن العشرين في السودان خاصه محمد المكي ابراهيم ( الله يا خلاسية ...) وصلاح احمد ابراهيم ( يا مريا ....) . ولكنها اي ثقافتها المكتسبة تتحصن بقوة وجدانيه من بيئتها الصوفية و الموروثه التي تنضح بها أرض مجمع البحرين ومقرن النيلين,وهذا المكون الصوفي في قاموسها يكاد يكون افقا فلسفيا و نفسيا متكاملا و متماسكا تحقق من خلاله التصالح مع نفسها حتى عندما يقيض الشعر بالأسى, ومن باب الإنصاف أن نذكر براعتها في توظيف الرمز الميثولوجي ليتجاوز اغريقيته إلى العالمية:-قد أغدو بالقهوة( فينوسا) في يوم مابالحب وفطرتي البيضاءبالدفء بأصحابيبالكل و أيامي السمراء!وبذلك تكون ايمان قد امتاحت من كل ينابيع التفكير البشري في صيرورته من أسطورة إلى عقل إلى نقل الى تجريب معا. و الديوان يعضد رهاني على ان الثقافة السودانية تملك المفتاح للحل العادل الواقعي لمشاكل البشريه جمعاء والقصيده (الايمانيه) قصيده وطنيه عاطفيه انسانيه وهي بالقدر نفسه قصيدة ( ذات – موضوعية )- انتبه للنحت- ان البرازخ الكثيره الغامضه التي تحاصرنا بها ايمان بصورها وافكارها تجعلنا نتذكر قول الفيتوري:الجاهل من ظن الأشياء هي الأشياءفلنسمعها اذن تنشد الى ما لا نهايه:هيئواأنفسكمملكنا من دون ملك !ملكنا من غير تاجافتحوا أعينكمشوش الرؤية في أرواحكمهذا السناج لاأملك وانا أدلف إلى رحاب هذا الديوان العامي البديع إلا أن اجتر خبرتي الاولي في سماع قالب شعر ( الدوبيت) مغني علي عود الموسيقار السوداني محمد الامين في احدي امسيات عام 1977 في قاعة الشهيد القرشي بكلية العلوم بجامعة الخرطوم . اذكر اندهاشي ساعتئذ بالصور الاخاذة والتراكيب الجديدة علي مسمعي على الاقل, التي توالت ومحمد الامين يرمي ويشدو :-الخبر الاكيد قالوا البطانة اترشت ....الخ وقيل لي يومئذ ان ارض البطانة هذةهي مرتع هذا الفن الشعري وان من اعمدته الحردلو الكبير ابو سن الذي تفاخر به قبيلته من الشكرية التي تعود بنسبها الي جهينه القضاعية. ثم تطورت معرفتي شيئا فشيئا بهذا المعمار الشعري حينها فوقفت على كتابات مبكرة للصديق الدكتور سيد حامد حريز عن فن( المسدار) الذي كثيرا ما سمعت الشاعر اليمني الخالد عبدالله البردوني يصنفه بانة فن شعري سوداني خالص ومعبر , او ما وقفت عليه مؤخرا في تحليل عميق لفن الدوبيت للباحث الاستاذ الطيب محد الطيب الذي يرى ان الاسم الادق لهذا الفن الشعري هو (الدوباي) لا( الدوبيت) بناء على ماجمعه من افواه الرواة خلال مسوحاته الميدانية ورغم ذلك سيظل المجال مفتوحا للمزيد من البحث الرصين في الشعر العربي غير الفصيح في السودان والذي اسدت الية اقلام عربية خدمات اكاديمية جليلة منذ الخمسينات وما زلت اذكر ما حدثني به صديقي الشاعر السوداني الدكتور مبارك حسن خليفه من ان الناقد والاستاذ الجامعي الدكتور النويهي قال ذات مرة انه درس الشعر العربي الجاهلي في مصر ولكن لم يتسنى له ان يفهمه الا في السودان وكان بذلك يريد ان يقول ان بيئه السودان وطبيعة الجغرافيا والديمغرافيا فيه كانت الاقرب وربما وما زالت الى تلك البيئة التي ولدت فيها معلقات امراء الشعر الجاهلي. والشاعر الطيب أبو جيقة توفرت له ثقافة النخبة في المدينة من خلال التحصيل المنتظم في مدارس السودان الحديثة فامتلك ناصية اللغة العربية الفصحى وادواتها وعركته الحياة ( سبل كسب العيش ) الصيد والقنص و الزراعة المطرية وغير المطرية و الهجرة الى العلم و الهجرة الداخلية والهجرة الخارجية داخل وخارج الرقعة السودانية ثم كان ان عبر عن تجربته الانسانية الخصيبة شعرا مرموقا (افقيا) و(عموديا)! فصحيا وعاميا! وان كنت اعلم ان تسمية الشعر العربي غير الفصيح بالعامي لا تطلق هكذا على كل شعر لا يلتزم النحو و الصرف و ما أجدر بي هنا أن أستشهد بأن لبعض هذا الشعر في اليمن تسمية خاصة اجمع عليها اهل الادب هي الشعر ( الحميني) وبالتالي القصيدة الحمينية و حينا الاغنية الحمينية.و كان الراحل المقيم ابراهيم الحضراني يقول أن الحميني هو عامية المثقفين . اما في هذا الديوان فالشاعر يقدم دفقه الشعري وتعلله الفكري من خلال رؤيته المتكاملة لاغني تجاربه الانسانية عبر قالب (الدوبيت)او (الدوباي) السوداني ان لم نقل الكواهلي نسبة لقبيلته الكواهلة ذلك النسب الذي ابدع الطيب عبدالله ابو جيفة في ربطة ربطا عضويا بمكارم اخلاق العرب (الوفاء-الكرم-المروءة –الشجاعة –الصبر-التواضع – العفة-قضاء حاجات الناس- الحكمة ......الخ) والمعادل السوداني لهذه القيم :الهميم – عشا البايتات - مقنع الكاشفات - دخري الحوبة ......الخ .فكانما العرض افرز بيئته التي صارت وجدانا جمعيا واجتماعيا لاهله الكواهلة وكانما البيئه بدورها تشكلت بهذا الموروث الاخلاقي حتى اصبح ديدنها قانونا من قوانين الضبط الاجتماعي الطوعي كما يحلو للانثروبولوجيين وعلماء السلوك ان يصفوا مثل هذة التمظهرات السوسيولوجية إن مصادر ثقافة الشاعر تقربه او تبعده من القارىء اعتمادا على الذائقةالفنية التي يمتلكها القارىء ايراديا ولا ايراديا في وعيه و في لا وعيه فاذا كنت مثلي متيما بابي الطيب المتنبي سيسحرك قول شاعرنا :- النفس الكبيرة على التعب قايداناوإن دق النحاس حارة ولقت فرساناوضرب النحاس (والنوبة كالة موسيقية وفعل ادائي هنا امارة من امارات الحكم و الولاية عند اهل السودان كما يشهد العلامة الراحل الدكتور محمد ابراهيم ابو سليم مثلما هو ( الككر) الذي يرد لاحقا )هولنا الككر هولنا الرئاسة البينة انك لن تملك الا ان تنتشي جذلانا للصور والمعاني التي يعيد انتاجها الشاعر المعاصر ابوجيقة ( مثلا: واذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الاجسام ) وكانما يدحض بذلك من بقي في نفسه شيء من الشك في عروبة هذا الجزء الاحلي من الوطن العربي الذي نفكر ونشعر اولا ثم نتكلم ونكتب فنتواصل ثانيا بهذه اللغة العربية الثرية خاصة في انتاجها الشعري لان العربية كلغة متكاملة نمط منطق ووحدة عاطفة قبل ان تكون وسيلة تخاطب. وكذلك قل عن الثقافة التي اخذها الشاعر عن بيئته الاسلاميه حيث يكثر التضمين القراني, والمأخوذ عن السنة النبويه والاثر في النصوص بصرف النظر عن موضوعات القصائد.وكم تعجبني - من حيث المضمون والشكل معا - رؤيته الفكرية والفعليه لمفهوم الرجوله وهو مفهوم يتجاوز الذكورة بكثير نوعا لا اختلاف مقدار كما يري بعض من يفهمون الصوفيه سذاجه انظر مثلا الى قوله:إن قلت الكبار ما في البقصر تبوالدون الرجال تبت يداهم تب والدون الرجال هؤلاء ليسوا نساء الكواهلة اللائي تغزل برميات (شبالهن )ابو جيقة. وبنفس القدر يتفنن الشاعر السوداني في التصغير لاعضاء المرأة لاعطاء دلالة جمالية اضافية (خنيصر.....الخ) بقدر ما يري ابوجيقة التصغير مشينا للرجال اسمعه يقول:كعب البلبن عيشو ويتقافاهوكعب الزويل ان رايو للماخداهوزويل تصغير زول وحينما نقف على قاموس الشاعر الخاص ( الفريق : او الفريج عند اهل الكويت )و تراكيبه : قلب الحروف (القاف والكاف) (الزاي والصاد )( النون والميم )(ام وال: التعريف) او تقديم موقعها في توالي حروف اللفظ (نجض ونضج ) نتذكر ما درسه بعناية من هذه الظواهر المشتركه في اللهجات العربية بين اهل السودان و اليمن والخليج العربي عالم اللغة الدكتور عبد الكريم الزبيدي احسن الله اليه حينما ردها الي اصولها في لسان العرب وحينما اقرا لابي جيقة قوله:الناس في القرش خربت خلاص اخلاقهومعروف القرش ما بخلي تاني علاقهخص بالذكر ابو اتي اهل البيعةما ناس متاع لا ناس شقق لاضيعةاقول يحضرني التناص مع الشاعر الشايقي زميلي في كلية الطب بجامعة الخرطوم الدكتور ( ود بادي) اذ يقول:تبقي مصيبة ان كان السنة انعدمت بين الناستبقي مصيبة ان كان القرش الاحمر قسم الخلق اجناس اجناسيا سادات البرج العاجي وداعياناس البلد الغادي وداعواخيرا ولان الكواهلة مجموعة قبيلة سودانية تتوزع جغرافيا علي طول وعرض السودان او كما يقول ابوجيقة نفسه:ان جيت الغرب تلقانا نحن رجالوان درت الشرق نحن الهناك كمالفي وسط البلد وان كان جنوب وشمالنحن اللسود ورجال دواس وكتال نجد الطيب عبدالله ابو جيقه الشاعر العاشق لعبقرية وطنه يتحدي اوهام ( اولاد البحرو اولاد الغرب) فيفخر بكل كل سوداني:لي كل قبيلة سلام مني وبكل امانةفي سوداني العزيز اعراب وكان رطانةحبنا للوطن ودانا اعلى مكانةوالحارة ان بقت ليها الجميع تلقانا وها هو يرد حتى علي من يتقولون بلسان احد مكوك اهل جعل (الناس في شنو والحسانيه في شنو؟):ناس جعل العزاز بيهم بزيد مفخرتي. نعم لم اعطي الدوباي حقه من الناحيه الفنيه والمستقبليه ولا اوفيت الشاعر حقه كما ينبغي لأنه لم يترك قضية اجتماعية معاصرة ( حتى العنوسة ) الا و قال فيها مايرضي البعض ويغضب البعض الاخر ولكن كفاه انه ارضى ضميره الحر بان جعل شعره مسرحا لقضايا مجتمعه وتلك هي ضروره الفن! :-ياعالم السرور فينا العنوسه اتفشتوالمثني ورباع بيه الرجال اتوشتالحيرني عاد بعد البطون ما اتفشتواحده حنان من التعدد كشتوالله البحل كان جبنا عرس الكورهوالبت ان رضت مافيش لزوم للشورىالشيله ام خموج والحفله ما بندورهغايتنا العرس والبت تكون مستوره * هكذا يصبح الشعر الشعبي لسان حال الناس ويلعب دوره في بلسمة جراحهم و خلق عقد شعري-اجتماعي جديد بين قبائلهم.
أخبار متعلقة