بقلم / محمد علي الشهاريليس من باب الصدفة ولا مما يدخل في قائمة الظواهر الغريبة ان تتعرض اليمن اليوم بعد اندلاع ثورتها الوطنية المجيدة إلى كل ذلك الحشد الرجعي الاستعماري الذي أحاط بها بضع سنوات، وان تخوض خلال هذه السنوات غمار معركة وطنية لاهبة ضده، استثارت اهتمام العالم كله، فموقع اليمن الاستراتيجي والجغرافي الفريد، وخصوبة أرضها وطبيعتها، ومركزها الذي تبوأته بين حضارات العالم القديم، كانت وما تزال من العوامل الرئيسية التي أغرت القوى الطامعة فيها وحركت وماتزال تحرك نوازعها إليها.خريطة اليمن الجغرافية والطبيعية التي عرفت بها اليمن، والتي اجمع عليها المؤرخون والجغرافيون العرب والأجانب منذ العهد الروماني إلى العهد التركي، من حدود عمان وعدن في الشرق والجنوب إلى الحدود الجنوبية لنجد والحجاز في الشمال، وتشكل عسير ونجران أطرافها الشمالية، وضمن حدودها يدخل ميناء الليث والقنفذة على البحر الأحمر من جهة الشمال.وكما يتمسك اليمنيون, إلى اليوم، بحدود بلادهم الجغرافية، ويرون فيها إطاراً تاريخياً لشخصيتهم الوطنية عبر التاريخ، فإنهم ينظرون باعتزاز وفخر إلى حضارتهم القديمة اللامعة والمجيدة. فهنا على الأرض العربية السعيدة نشأت وتطورت في وقت تاريخي مبكر دول ومؤسسات.. دول حسنة التنظيم, كممالك معين، وسبأ، وقتبان، وحمير، كما نهضت حضارة عالية معتمدة على مؤسسات للري مستحدثة كسد مأرب, الذي يعد أعجوبة من أعاجيب العهد القديم، وغيره من السدود العديدة والعظيمة، ومعتمدة على زراعة جيدة.ويمكن البحث عن أسباب ازدهار هذه الدول الحضارية سواء في مستوى التطور العالي للزراعة القائمة على الري المنتظم أو في موقع اليمن المركزي بالنسبة لطرق التجارة العالمية في التاريخ القديم. فبجانب الإنتاج الخاص الذي كانت تصدره اليمن، فقد كان تجارها يتعاطون تجارة ترانزيت هائلة، فمن بين أيدي اليمنيين كانت تخرج تقريباً كل البضائع مابين الهند، والشرق الأقصى، والسواحل الافريقية، والشرق الاوسط، ومنطقة البحر المتوسط. ولقد كان اليمنييون يعتبرون سادة الطرق البرية والبحرية ما بين المحيط الهندي والخليج العربي والبحر الأحمر. ولهذه الأسباب فقد كانت الحضارة اليمنية القديمة إحدى الحضارات العالية التطور في العصر القديم.ومنذ ذلك الوقت المبكر أثارت الأهمية العالية للجنوب العربي، وسطوع الحضارة اليمنية، وثروة اليمن الخضراء، انتباه ومطامع دول التوسع الأجنبية. ولقد حاولت اخضاع اليمن لنفوذها لتتمكن من السيطرة على الطريق التجاري إلى الهند، ومن الاستقرار على الساحل الخليجي العربي. ولقد فشلت الحملة البحرية التي جردها الاسكندر المقدوني على اليمن بقصد اخضاعها، إلا انه مع إقامة حكم البطالسة في مصر وعلى شرق البحر الأبيض المتوسط في القرن الثالث قبل الميلاد كسر احتكار التجار السبئيين للتجارة، وسقطت التجارة السبئية مع ذلك، وهاجر الكثير من اليمنيين إلى خارج بلادهم، ولقد كانت تلك هي الضربة الاولى التي مهدت لانهيار الحضارة اليمنية القديمة، إذ إنه بعد ذلك وقعت طرق التجارة اليمنية تحت اشراف الرومان الذين احتلوا مصر عام 30 قبل الميلاد. وعلى الرغم من فشل حملة ايليوس جالوس لاحتلال اليمن، فإن الرومان قد تمكنوا منذ عام 24 ميلادية من تثبيت اقدامهم في عدن، بينما اندفعت سفنهم التجارية عبر البحر الاحمر الى المحيط الهندي. وفي عام 525 ميلادية احتلت حملة اثيوبية قوية اليمن، واسقطت الدولة الحميرية الاخيرة. وخلال الحكم الحبشي الذي استمر إلى عام 575 ميلادية تهدم سد مأرب، وانهارت معالم الحضارة اليمنية، وبدأت مرحلة ركود التطور بالنسبة للقوى الانتاجية في البلاد.ومنذ ذلك الحين تدفقت على اليمن عدة موجات من الغزو. وفي عام 575 وقعت البلاد تحت الحكم الفارسي، إلا انه بعد وقت قصير اعتنق اليمنيون الاسلام طواعية، لانهم رأوا فيهفرصة للتحرر من الحكم الفارسي.وكانت صلة اليمن بالخلافة شكلية تقريباً. وغالباً ما كانت دول اليمن فيما بعد تتمتع باستقبال كامل عن الخلافة في إدارة شؤونها.إلا ان الاستقلال عن الخلافة لم يساعد على قيام دولة يمنية موحدة على كل أرض اليمن إلا في فترات متقطعة واستثنائية. وكانت الظاهرة المسيطرة والمميزة لتاريخ اليمن، منذ ان استقل آل زياد بحكم اليمن استقلالاً ذاتياً عام 819م أيام الخليفة العباسي المأمون، وهي ظاهرة التمزق الاقطاعي، والصراع الطائفي، والنزاع المذهبي. ولقد ظلت هذه الظاهرة قائمة حتى القرن العشرين. وكانت الدويلات اليمنية التي نشأت منذ هذا التاريخ نتاج صراع مرير وطويل بين أمراء الاقطاع والطوائف والمذاهب المختلفة. واصطبغ تاريخ اليمن خلال هذه الحقبة الوسيطة من التاريخ بصبغة دموية قانية. واثناء هذه الحقبة الطويلة والمظلمة ازدادت قوى الانتاج تدهوراً وانحطاطاً، وقل الانتاج الزراعي، وطمست الرمال أراضي كانت صالحة للزراعة، واختفت بعض المهن الحرفية. مما زاد الامر تفاقماً الحروب التي دارت بين اليمنيين وبين حكام المماليك والايوبيين.ومع ظهور العصر الحديث أصبحت اليمن من جديد بسبب وضعها الجغرافي المتميز هدفاً مقصوداً لحملات التوسع الاستعماري للبرتغاليين، والهولنديين، والفرنسيين، والاتراك، والانجليز. وقد كان البريطانيون اخطر واشرس أعداء اليمن الخارجيين، بالاضافة إلى الاتراك العثمانيين.ولقد استمر صراع بريطانيا الاستعمارية من اجل السيطرة على شواطىء اليمن الجنوبية 300عام. وقد بدأ في ارتباط تام مع محاولاتها الاولى لبسط نفوذها على الهند في بداية القرن السابع عشر.وكان هناك عاملان رئيسيان وراء مطامع بريطانيا التوسعية وهما الوضع الجغرافي، والوضع العسكري الخاص لجنوب اليمن كهمزة وصل بين بلدان البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي، وكذلك الارباح الطائلة التي كان يبشر بها البن اليمني، بن (المخاء). وكان ميناء تصدير البن (المخاء)، وميناء عدن الهدفين الاستراتيجيين اللذين سعت وراءهما اطماع التوسع البريطانية. إلا ان بريطانيا لم تستطع تحقيق مطامعها هذه خلال قرنين كاملين، وبالذات نتيجة للمنافسة الفرنسية الجادة.ومع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر بدأت مرحلة جديدة من سياسة بريطانيا إزاء جنوب اليمن، فلقد دفعت الثورة الصناعية البرجوازية البريطانية إلى الاستيلاء على اقاليم جديدة، وافتتاح اسواق جديدة لفيض بضائعها التي انتجتها الصناعة الرأسمالية.وكانت الهند هي الموقع الرئيسي للاستغلال البريطاني/ فبثرواتها امكن ان تنطلق الثورة الصناعية في بريطانيا بحجم كبير، كما حق عليها ان تصبح المورد الهام للقطن إلى مصانع النسيج البريطانية. وإزاء هذه المشاريع البعيدة للبرجوازية البريطانية، اكتسب ساحل جنوب اليمن اهمية فائقة بسبب وضعه الجغرافي الوسيط وكمحطة ترانزيت للبضائع البريطانية/ وقبل كل شيء لصلاحيته كقاعدة بحرية للاسطول البريطاني لحماية الهند، ولاسيما بعد ان اصبحت حملة نابليون بونابرت تهدد جدياً المكانة المتميزة لبريطانيا، سواء في البحر الاحمر او في المحيط الهندي. وتصدياً للحملة الفرنسية إلى مصر اسرعت بريطانيا إلى ارسال اسطول حربي عام 1799 إلى البحر الاحمر لاحتلال جزيرة بريم اليمنية التي تقع في منتصف باب المندب، واعلنت قائد الاسطول (كوميساراً سياسياً للبحر الاحمر). وفي غمرة الصراع العالمي واللاهب على سواحل اليمن الجنوبية، تمكنت عام 1820 من عقد اتفاقية مع سلطان لحج حصلت بمقتضاها على امتيازات تجارية، وبواسطتها امكن لها وضع اقدامها في عدن.وقد شكلت هذه الاتفاقية حجر الزاوية لبناء وتوسيع النفوذ والمكانة البريطانية على طريق الهند، وبعد ست سنوات فقط من توقيع الاتفاقية اشار اللورد فالنسا إلى اهمية عدن بانها (جبل طارق الشرق). وعندما عزمت القوات المصرية بقيادة ابراهيم باشا ابتداء من عام 1833 على احتلال كل السواحل اليمنية، ادركت بريطانيا ان مصالحها تواجه تهديداً خطيراً. ولقد عبر عن هذه المخاوف رئيس وزراء بريطانيا حينذاك اللورد بالمرستون حين قال: (إننا لا نرى سبباً يبرر إحلال ملك عربي محل تركيا في السيطرة على طريق الهند).ونظراً لان مصالح بريطانيا وتركيا كانت متفقة في ذلك الوقت، حيث ان سلطة محمد علي باشا اخذت تنتقص من نفوذهما معاَ، فقد اتيح لبريطانيا ان تحصل على فرمان من الباب العالي، الذي كان يدعي تبعية اليمن الشرعية له، يعطيها فيه حق استعمال ميناء عدن في خدمة اسطولها البحري. غير ان هذا الفرمان لم يكن كافياً لتحقيق مطامعها التوسعية الاستعمارية في عدن، حيث ان الميناء كان تابعاً عملياً لسلطان لحج. ولم تلبث ان اعلنت نواياها العدوانية إزاء عدن صراحة ودون مواربة، وقد عبر عن ذلك بجلاء حاكم بومباي البريطاني السير روبرت جراند إذ قال: (إن تأسيس خطوطنا البحرية في البحر الاحمر، وتكوين اسطول صغير من البواخر المسلحة، تجعل من الضروري ايجاد محطة تابعة لنا على ساحل بلاد العرب، كما هي الحال في الخليج الفارسي، ثم ان الاهانة التي الحقها سلطان عدن بنا، تجعلني لا اشك لحظة في شدة حاجتنا إلى امتلاك عدن). وهو يقصد بالاهانة نهب سفينة هندية جنحت قرب ميناء عدن.وهكذا سقطت عدن في يد الكابتن هنس في 19 يناير عام 1839 بعد مقاومة مستميتة من قبل سكانها اليمنيين، الذين كانت تنقصهم وسائل الدفاع عنها. وفي العام التالي انسحب الجيش المصري من اليمن تحت ضغط بريطانيا وحلفائها. وبذلك انتفى خطر ان يقوم الجيش المصري بعمل مضاد ضد بريطانيا في جنوب اليمن، واصبحت السلطة الاستعمارية تمتلك يداً حرة في هذا الجزء المهم من بلاد العرب. وبعد قليل من احتلال عدن اكتشف جنود الرأسمالية الاستعمارية ان احتلال عدن لن يكون بمثابة نزهة مريحة، ففي وجههم اشتعلت مقاومة عنيدة قامت بها قبائل المنطقة ولم تتوقف إلا عام 1849. وإذا كانت هذه المقاومة قد انتهت بالفشل نتيجة اسلحتها الرديئة، فقد اثبتت قبائل الجنوب اليمنية بكفاحها الباسل ضد السلطة الاستعمارية المعتدية مدى تعلق الشعب بإرادته الحرة المستقلة.وبعد استتباب الامر لها، اعلنت بريطانيا عام 1850 عدن - نقطة الارتكاز الطبيعية والفريدة للمحيط العربي- الافريقي- الآسيوي- الهندي- ميناءً حراً. ةلقد ازدادت اهمية هذا الاجراء اكثر بافتتاح قناة السويس عام 1869، وبينما جلب تطور وضع عدن هذا فوائد عظيمة للتجارة العالمية وللبرجوازية البريطانية، فانه قد اثر تأثيراً بالغاً على اقتصاد اليمن. لقد بدأ ميناء عدن يجتذب كل المواصلات من الارض الخلفية إليه. وفقد ميناء المخاء اهميته كميناء للتصدير، ومحطة ترانزيت، وطمسته الرمال، وتراجعت التجارة في ميناء الحديدة خطوات بعيدة إلى الوراء، واصبحت عدن في المقدمة.ولتأمين قاعدة الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن، وخلق منطقة عازلة بينها وبين القبائل، سعت بريطانيا بالضغط والاغراء إلى شراء المنطقة المحيطة بعدن من جهة الشمال وبذلك اقامت من حول ميناء وقاعدة عدن حلقة واقية، وحمتها ضد أي هجمات محتملة تأتي عن طريق البر والبحر من قبائل اليمن الجنوبية، او من الاتراك او أي قوة اخرى.ان تركيا التي لم ترفع دعوى السيادة الشرعية عن اليمن، رغم ان جيوشها قد طردت منها عام 1638 بعد حوالي مائة عام من الاحتلال، ادركت الآن وبعد انسحاب الجيش المصري من اليمن ان مطامع بريطانيا، ومثلها مطامع اوساط تجارية ايطالية، تتجه لاحتلال موقع لها في المنطقة الساحلية من تهامة اليمن. من هنا فإنها بادرت إلى ارسال حملة عسكرية عن طريق الحجاز بقيادة توفيق باشا استولت بها على تهامة اليمن.وكما ضاعف افتتاح السويس من اهمية اليمن لديها، فانه قد سهل لها ارسال حملات عسكرية لاخضاعها نهائياً. وفي عام 1872 تمكن الغزاة الاتراك من بسط سلطانهم على صنعاء وعلى الهضبة الوسطى من اليمن من عسير إلى تعز. وللحفاظ على سلطتها الاستبدادية والاستعمارية خصت اليمن بجيش كامل هو الجيش السابع، وسنت نظاماً للضرائب في غاية القسوة والشراسة، واقامت ادارة ذات طابع عسكري حاد ارهبت بها حياة الناس. وفي وقت قصير نهبت ثروات اليمن، وساءت حياة الفلاحين اكثر فاكثر وكما لم يحدث من قبل نتيجة مصادرة اقواتهم بالقوة لتموين جيش الاحتلال التركي، وعمت كل فئات المجتمع حالة من السخط العام والجارف إزاء اجراءات التعسف والقهر العثماني.وما كادت سلطات الاحتلال التركية تستقر في صنعاء، حتى رفعت مطالبها في السيادة على بريطانيا، بما في ذلك عدن. وعدا سلطان لحج الذي اصبح العميل الاكبر للاستعمار البريطاني في الجنوب، فان جميع سلاطين ومشائخ المنطقة كانوا مستعدين للوقوف إلى جانب الاتراك ضد القوات البريطانية.وقد سهل هذا الوضع الملائم للاتراك ان يندفعوا عام 1872 صوب لحج ويبلغوا عاصمتها الحوطة. وفجأة توقف الهجوم التركي دون ابواب عدن. ان السبب في ذلك لا يعود إلى الهجوم المضاد الذي قام به 350 جندياً بريطانياً، وانما يعود اكثر إلى التناقضات الداخلية التي كانت تهز الخلافة العثمانية الملكية حتى النخاع، والى النفوذ المتصاعد للقوى الكبرى الرأسمالية داخل القسطنطينية، وإزاء تضعضع احوالها الداخلية لم تسمح لنفسها بان تدخل في كفاح مسلح حاسم مع انجلترا من اجل جنوب اليمن، واكتفت لذلك بمركزها الذي حصلت عليه في شمال اليمن.وبعد ان اضطرت تركيا إلى سحب قواتها إلى الشمال، سعت بريطانيا إلى القضاء على دعاواها السياسية في الجنوب. ولهذا الغرض دعا المقيم البريطاني سلاطين وامراء ومشائخ المنطقة إلى عدن، واطلق لهم مدافع التحية، وقدم لهم الهدايا، ووعدهم بمساعدات شهرية، ومساعدات مالية سنوية، وضيافات في عدن مع كل زيارة لها، ومقابل ذلك قيدهم (بمعاهدات الحماية) بهذه الطريقة الخبيثة للتوسع غير المباشر، والتي لم تخل من الخديعة والضغط، حققت بريطانيا انتصارها السريع ووضعت نطاق نفوذها على جنوب اليمن كله. وقد عقدت اول معاهدة حماية مع جزيرة سقطرة عام 1886. وحتى عام 1903 وجدت سلطنات وامارات ومشيخات جنوب اليمن نفسها تحت سلطة (الحماية البريطانية).وبعد مفاوضات متقطعة وطويلة مع السلطات التركية في اليمن، تمكنت بريطانيا الاستعمارية عام 1905 بمقتضى بروتوكول خاص مع الاتراك من تحديد خط الحدود بين منطقة النفوذ البريطاني والعثماني. وحسب هذا الاتفاق فان خط الحدود يمتد من الساحل الجنوبي لجزيرة الشيخ السعيد قرب باب المندب إلى وادي بنا شرقي مدينة قعطبة، وبذلك تكون تركيا قد تنازلت عن النواحي التسع اليمنية- أي المحميات الغربية- لصالح بريطانيا.ومالبث (الرجل المريض)، الذي اضعفته اكثر حروب البلقان والانتفاضات الوطنية في شمال اليمن، ان تنازل عام 1914 عن كل مطالبه وحقوقه في حضرموت. وبذلك تمكنت سلطات الاستعمار البريطاني في عدن من بسط وتدعيم نفوذها على جميع انحاء جنوب اليمن، (حضرموت والنواحي التسع) بينما كان شمال اليمن ما يزال واقعاً تحت نير الاحتلال التركي غير ان الشعب اليمني الذي تعلم كيف يذيقها الهزائم، ويحيل اليمن إلى شعلة من اللهب، لا يطفيء الاتراك جانباً منها حتى يتوهج الجانب الآخر في حركة نضالية مستمرة ودؤوبة، ما لبث ان هب في وجه الاحتلال التركي غداة احتلال صنعاء. ولقد بدأت كفاح التحرير قبائل الجبل الزيدية، التي لم تعترف للسلطان العثماني قط بحق السيادة عليها، ولم تصدق دعاواه في انه (حامي حمى الحرمين) وخليفة الاسلام المدافع عنه. وحتى عام 1904 تمكنت القوات التركية بفضل النجدات التركية المتتابعة من اخضاع كل التحركات التي تصدت لها. إلا ان حركة (الجهاد) عرفت في هذا العام صعوداً وانطلاقاً لم تبلغ مداه من قبل، وخلال هذه الانتفاضة الواسعة الحاسمة دحر الاتراك من جميع مواقهم تقريباً/ وسيطر المحاربون اليمنيون على صنعاء. وفي شهارة لقي جيش الاحتلال التركي هزيمة منكرة لم يسبق لها مثيل، وفقد الاتراك خلالها خمسين لواء حربياً. ولقد كان هذا النصر العظيم لحركة التحرير اليمنية نقطة تحول بعيدة المدى، اثرت ليس فقط على وضع الامبراطورية العثمانية داخل اليمن، وانما اثرت ايضاً على المشاريع التوسعية لحليفتها الاستعمارية المانيا القيصرية.فبينما تابعت كل من بريطانيا من عدن، وفرنسا من جيبوتي، وايطاليا من ارتيريا، هزائم الاتراك بعين الرضا، لانها - على الاقل- ولو إلى حد معين- تشكل شرطاً ملائماً للسير في تحقيق مطامعها التوسعية الخاصة، فان الامبريالية الالمانية، على عكس ذلك، كانت تدعم تركيا وتدرب جيشها وحملاتها المتجددة التي كانت تقذف بها إلى اليمن. ذلك لان تركيا كانت قد اخذت تتحول إلى شبه مستعمرة المانية، سواء من الناحية الاقتصادية او العسكرية، ولان المانيا كانت تهيء نفسها لأن تكون الوريث الشرعي والوحيد (للرجل المريض) في البوسفور.لذلك وانسجاماً مع (سياسة خط حديد بغداد)، (وسياسة الاندفاع نحو الشرق)، فقد كانت اليمن احد مجالات التوسع الهامة بالنسبة لالمانيا. ومن خلال دعمها وتعاونها مع المحتلين الاتراك كانت المانيا تأمل في فرض مشاريعها التوسعية الخاصة في اليمن.ومقابل الطلب الذي تقدم به الباب العالي بان يقوم (بنك المانيا) بإنشاء خط حديد من الحديدة إلى صنعاء لتسهيل سرعة مرور الحملات التركية إلى الهضبة/ طلبت المانيا القيصرية السماح لها بإقامة قاعدة بحرية لاسطولها في الحديدة او المخاء، ومحطة فحم للتموين من اجل إقامة المشروع (ولتنظيم علاقاتنا بشرق آسيا).غير ان كفاح التحرير، المظفر للشعب اليمني، وبالذات خلال عامي 1904 و 1905، قد احبط مشاريع المانيا التوسعية في اليمن، وكبح من جماح احلامها الاستعمارية التوسعية، وان لم يضطرها إلى التخلي عنها نهائياً.وكما هبت طائفة الزيدية إلى الكفاح ضد الاحتلال التركي، فقد تبعتها إليه طائفة الشوافع. فمن عسير وتهامة انطلقت عام 1911 موجة جديدة من الكفاح التحرري قام بها الشوافع بقيادة محمد علي الادريسي. وبلغت من عنفها واندفاعها ان عاصمة عسير (أبها) ذات الموقع الحصين، اصبحت تحت رحمة المحاربين اليمنيين، الذين طوقوها من كل جانب، وعزلوها من كل مدد... وفي نفس الوقت كانت صنعاء تعاني حصاراً شديداً ضربته من حولها قبائل الزيدية فور قيامها بانتفاضه عامة شملت الهضبة كلها. ان تنسيق الكفاح بين الطائفتين الرئيسيتين في اليمن، وشنهما معاً كفاحاً مسلحاً مشتركاً ضد الاحتلال التركي قد سجل في الواقع درجة عالية من الكفاح الثوري للشعب اليمني من اجل انتزاع حريته واستقلاله، وللقضاء النهائي على الاضطهاد الاستعماري للامبراطورية العثمانية.ولقد برهنت الانتصارات العسكرية العديدة، التي حققتها الحركة الانتفاضية الشاملة للشعب اليمني بطائفتيه، على ان تحطيم الحكم التركي واقامة دولة يمنية موحدة مستقلة على انقاضه، كان من الناحية الموضوعية، أمراً ممكناً في هذا الوقت. غير أن طموح محمد علي الادريسي إلى اقامة امارة خاصة به في جزء من اليمن، قد ادى إلى تصدع جبهة الكفاح الموحد، وحال دون الوصول إلى النصر النهائي. هكذا انكسرت حدة الكفاح الثوري، وتراجعت امواجه، وكما ذهب الامام يحيى عام 1911 إلى (دعان) لعقد اتفاقية مع الاتراك اكتفى فيها بإعطائه الاستقلال الذاتي على شمال شرق اليمن، استند محد علي الادريسي على الاستعمار الايطالي الذي كان يرى في تهامة اليمن (الأرض الخلفية) لمستعمرته ارتيريا. وبمساعدته وتدخله العسكري المباشر، تمكن الادريسي عام 1912 من إقامة اساس إمارته في منطقة صبيا - أبو عريش بعسير تهامة.ان استقراء تاريخ اليمن الحديث، وبالذات منذ الربع الاخير للقرن التاسع عشر إلى ثلاثينيات القرن العشرين، يكشف بقوة ان تجاه التطور التاريخي والكفاح المستمر للشعب اليمني ضد اعدائه الداخليين والخارجيين، كان منصباً، من الناحية الموضوعية، على غابة رئيسية، الا وهي: القضاء على الحكم التركي، الدفاع ضد الاستعمار البريطاني، وضد حلفائه من سلاطين وأمراء الجزيرة العربية، التغلب على التمزق الاقطاعي وعلى بقايا المجتمع العشائري، وخلق دولة يمنية موحدة مستقلة. ولقد كانت هذه العملية التاريخية منسجمة مع تيار التطور العام داخل الوطن العربي وخارجه، وذات دلالة تاريخية وتقدمية كبرى.غير ان حركة التطور التاريخي الموضوعية لا تسير عادة في خط مستقيم، وانما قد تتعرج وتأخذ انحناءات عدة في كثير من الأحيان، وقد تتعثر وتصيبها النكسات احياناً اخرى، ولكنها رغم ذلك، ومن خلال ذلك، تتحرك باستمرار ولو ببطء شديد نحو غايتها الموضوعية. ان هذه الحقيقة العلمية تنطبق ايضاً على حركة التاريخ اليمني الحديث.ولقد اظهرت الحرب العالمية الأولى، بقوة وجلاء، الأهمية الخاصة لليمن بالنسبة للمجموعتين الامبرياليتين المتصارعتين. وقد كانت اهداف الحلفاء الحربية هي تحطيم مملكة الخلافة العثمانية، وتحويل اقاليمها غير التركية إلى مناطق استعمارية تابعة لبريطانيا وفرنسا وايطاليا.وقد أكدت بريطانيا العظمى (احقيتها الخاصة) في التسلط، ليس على جنوب اليمن فحسب، وانما على شماله ايضاً.. وعزمت الامبريالية على اعطاء خط توسعها التقليدي في البحر الأحمر قاعدة على الساحل الغربي لليمن، كما ان فرنسا كانت مهتمة بتحقيق مطالبها القديمة على جزيرة الشيخ سعيد بجوار باب المندب. غير ان اهداف المانيا الحربية في هذه المنطقة كانت اوسع من ذلك بكثير، فاستمراراً ثابتاً لسياسة خط حديد بغداد، والاندفاع نحو الشرق، كانت القوى العسكرية والاحتكارية الالمانية تنوي اخضاع جميع اراضي الامبريالية العثمانية، بما في ذلك اليمن، لديكتاتوريتها الرأسمالية.لهذا السبب فقد ايدت العسكرية الالمانية مشروع الهجوم التركي لانتزاع عدن من الانجليز، والقضاء على مركزهم المتميز في جنوب اليمن، باعتبار ان السيطرة على عدن تتيح امكانية التحكم في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وقطع خط الاتصال بين الهند واستراليا، وجميع مستعمرات بريطانيا الاخرى، وتمكن من الزحف بحراً إلى قناة السويس في الشمال وفي اتجاه الساحل الافريقي للبحر الاحمر.غير ان الهجوم التركي اوقف بفضل نجدة عسكرية من قناة السويس في منطقة الشيخ عثمان، قبل الوصول إلى عدن، وتراجع إلى لحج حيث رابطت القوات التركية إلى نهاية الحرب. وادركت المانيا ان بلوغ عدن يتطلب قوى كبيرة. وفوراً اعد مشروع هجوم تركي - الماني على عدن تقوم به حملة تركية مصحوبة ببعثة المانية مجهزة باللاسلكي. إلا ان هذه الحملة التي تحركت من فلسطين على خط الحديدي الحجازي، ما كادت تبلغ المدينة حتى عاجلها الشريف حسين، الذي استحثته بريطانيا لبدء الانتفاضة، وحاصرتها قواته هناك. وبفشل هذه الحملة فشلت كل محاولات تهديد عدن عن طريق اقامة قاعدة غواصات المانية بجوار الساحل اليمني، وتلغيم باب المندب بواسطة بواخر المانية، وبقيت عدن تحت سيطرة الانجليز.لم يكن انهيار المملكة العثمانية والحكم الاستعماري التركي بفعل الضربات المدمرة لقوى الحلفاء الامبرياليين فقط، وانما بالدرجة الاولى نتاج التركيب الاقتصادي والاجتماعي القديم والمهلهل لنظام الخلافة العثمانية الملكي، ونتاج الضعف الذي كان قد لحق بها بفعل حركات التحرر والمقاومة للحكم التركي داخل اليمن وفي الجزيرة العربية وغيرهما من الاقاليم، إلى حد ان التأييد الفعال لها من قبل المانيا لم يحل دون انهيارها وتمزقها. وبانهيارها انهارت ايضاً مشاريع المانيا التوسعية في اليمن وفي غيرها من مناطق المملكة العثمانية.ومع نهاية الحرب احتلت القوات الانجليزية الحديدة، ومكنت حليفها الادريسي، الذي كان قد عقد معها خلال الحرب معاهدتي حماية وصداقة، من توسيع إمارته حتى بلغت حدودها ميناء القنفذة شمالاً وميناء اللحية جنوباً، وما لبثت ان سلمته عام 1921 ميناء الحديدة في محاولة منها لمنع قيام دولة يمنية موحدة مستقلة على ارض ولاية اليمن التركية سابقاً. غير ان جهود بريطانيا المستمرة في الحفاظ على امارة الادارسة لم تستطع ان تقاوم حركة التوحيد اليمنية. وبموت مؤسس الامارة عام 1923، ونشوب النزاع على العرش فيما بين افراد العائلة الادريسية، سنحت الفرصة التاريخية لاكتساح الامارة الادريسية، فخلال عام 1924-1925 صفى الجيش اليمني حكم الادارسة من تهامة اليمن الجنوبية، ابتداء من باجل والحديدة في الجنوب، إلى ميدي وحرض في الشمال، وحصرهم داخل عسير تهامة.وبهذا العمل التاريخي اخذت الدولة اليمنية، ليس فقط امتدادها الضروري الطبيعي والجغرافي في اتجاه البحر الاحمر، وانما اخذت ايضاً شكلها الاقليمي الحالي. وكما كان انتزاع الجزء الجنوبي والهام من الامارة الادريسية ضربة حاسمة للاستعمار البريطاني، فقد كان بمثابة خيبة امل قاتلة لاحلام خارجية توسعية تجاه اليمن. ان الكفاح التاريخي للشعب اليمني من اجل اقامة قاعدة اقليمية، وارضية واسعة لدولته اليمنية، قد اصطدم عام 1926 وجهاً لوجه مع عدوين قويين وخطيرين هما بريطانيا العظمى وحلفاؤها.فلقد ادركت سلطات الاحتلال البريطاني في هذا العام خطورة هذه العملية التاريخية ولجأت حالاً إلى استخدام القوة المسلحة وبشكل مركز، ودحرت الحاميات اليمنية من بعض المناطق التي كانت قد انتزعتها منها في جنوب اليمن المحتل، واوقفت الجيش اليمني نهائياً، وفي الوقت نفسه شجعت على التصدي للجيش اليمني وايقاف تقدمه صوب عسير.وعلى عكس بريطانيا فان ايطاليا منذ البداية لم ترتح إلى المخططات البريطانية في اليمن وكانت علاقة ايطاليا بالادارسة قد بدأت في القاهرة منذ عام 1905، ففي هذا العام تمت اتصالات مباشرة بين محمد علي الادريسي، الذي كان ما يزال يدرس في الازهر، وبين المفوضية الايطالية، وخلالها حرض الايطاليون الادريسي على القيام بعمل ضد الاتراك ووعدوه بالدعم والمساعدة، وكان غرضهم من ذلك تحقيق مطامعهم الخاصة في الساحل اليمني، والقضاء على النفوذ التركي الذي يقف حجر عثرة في طريقهم. وقد استمرت علاقة ايطاليا بالادريسي إلى ما قبل الحرب العالمية الاولى، إذ انه مع مطلع الحرب اصبح في جانب الدولة الاقوى، بريطانيا. ورغم ان ايطاليا ارسلت بعثة خاصة إلى الحسن بن علي الادريسي عام 1926 مصحوبة بالهدايا حاولت اقناعه بالتفاهم مع الإمام يحيى، والوقوف ضد محاولة الانجليز وحلفائهم ، إلا ان الحسن آثر البقاء في جبهة اصدقائه البريطانيين والسعوديين.وتعود علاقة ايطاليا بالإمام يحيى إلى عام 1923. فباستيلاء الفاشيين على السلطة في ايطاليا، اخذوا بحرارة اشد في متابعة خط سياستهم التقليدية بتوسيع نفوذهم من ساحل البحر الاحمر الغربي إلى ساحله الشرقي. ولتحقيق هذا الغرض تظاهروا بالعطف على مطالب الإمام في ان يكون سيد اليمن كلها من عسير إلى عدن. وفي عام 1926 تمكنوا من عقد معاهدة معه، وبالفعل قدموا اسلحة لليمن واقاموا مصنعاً للذخيرة ومحطة لاسلكي في نفس العام، وارسلوا بعثة طيبة، واخذوا يدربون يمنيين على الطيران الحربي والمدني.. إلا انهم مقابل ذلك حصلوا على حق احتكار تجارة البن اليمني، وعلى مكانة خاصة في بيع بضائعهم إلى اليمن، واحتكروا بيع البترول إلى اليمن لخمس سنوات، وشكلوا لهذا الغرض (الشركة العربية الايطالية). واشتروا ناساً مهمين في بلاط الامام. ولم يحصل الايطاليون على فوائد اقتصادية فقط، وانما اصبح لهم نفوذ معين على الإمام. وقد احدث هذا النفوذ الايطالي جزعاً شديداً في لندن، وخافت بريطانيا ان تتمكن ايطاليا الفاشية من الحصول على قاعدة في باب المندب، حيث تستطيع في حالة الحرب ان تقطع وتحاصر الطريق البحري إلى الهند، وتهدد مكانة بريطانيا في خليج عدن والمحيط الهندي. غير انه ما لبث ان اتضح ان ايطاليا لا تملك الرغبة او القوة لتصنع من الإمام حاكماً على اليمن كلها، وان كل ما يهمها هو الحصول على موطىء قدم لها داخل اليمن المستقلة، وتحقيق اطماعها التوسعية الخاصة فيها خلال منافستها مع بريطانيا.وبعد عامين فقط من توقيع المعاهدة الايطالية - اليمنية، قررت بريطانيا القيام بهجوم بربري مضاد ضد الدولة اليمنية، ووضعت مشروعات لتقسيمها وضم الجزء الشافعي منها إلى محمياتها في الجنوب. ففي عام 1928 شنت قوى الاستعمارـــ مجردة من الحياء والانسانية ــــ هجوماً جوياً، وبرياً، وبحرياً على اليمن، وفي الوقت الذي كانت فيه طائراتها تقذف المدن والقرى اليمنية دون تفريق بين الاهداف العسكرية وغير العسكرية، تقدمت قواتها التي جندتها عن طريق سلطان لحج، والتي جمعتها من الهند، وكينيا، ومن العراق والخليج العربي، في اتجاه الشمال، بينما تقدمت بواخرها في البحر الاحمر بقصد احتلال الحديدة، وخلال عمليات الهجوم الجوي المتوحش قصفت القطيبي، والضالع، وقعطبة، وتعز، ويريم، وذمارـ وإب،والنادرة، وماوية، والعدين، وحيس، والمخا.وفي قعطبة وحدها قتل اكثر من 140 امرأة وطفلاً. وحلقت طائرات استكشاف بريطانية فوق صنعاء. وعم السخط والجزع اليمن، كما لم يحدث ذات يوم، وغادر السكان الآمنون والذين اصبحوا تحت التهديد المباشر بيوتهم ولاذوا بكهوف الجبال.وإزاء الهجوم الجوي والبري المركز، اضطرت الحاميات اليمنية إلى الانسحاب من كل السلطنات والامارات والمشيخات التي كانت قد انتزعتها من الاستعمار البريطاني، كالضالع، والقطيبي، وشعيب، والعواذل. وأخلت كل المواقع التي كانت تسيطر عليها في الجنوب مثل السليك، والطفوة، والثوبة، والردوع، والمجباة، والمركولة، والدمنة.غير ان سياسة (فرق تسد) ومشروع بريطانيا الخطير في فصم وحدة شمال اليمن وتقسيمه، وتحريك الشوافع ضد الزيود، هذه السياسة التي لم تتراجع عن الكشف عنها صراحة وعلانية في منشوراتها، التي تلقيها طائراتها على الاهالي، قد فشلت فشلاً ذريعاً. بل، على العكس من ذلك، فان القصف الجوي الذي لم يفرق بين زيدي وشافعي أصاب الجميع بالدمار، ولم يتحرك الشوافع لطرد (الحاميات الزيدية) من اراضيهم كما كانت تأمل بريطانيا، وشعر الجميع انهم يواجهون عدواً واحداً هو الاستعمار الغاشم. وعدا قبيلة الزرانيق في تهامة، التي استجابت للتحريض البريطاني، فإن جميع الأهالي الشوافع قد احبطوا بموقفهم الصلب خطط التقسيم الاستعمارية.في هذا الوقت الذي كانت بريطانيا الاستعمارية وايطاليا الفاشية، قد عزمتا فيه معاً على (ابتلاع) شمال اليمن، اطل وجه جديد من الشرق لا تحركه نوازع استعمارية، وكل ما يطمع فيه هو مد يد الصداقة النبيلة، وتقديم المساعدة النزيهة، وكان هذا الوجه الجديد هو الاتحاد السوفياتي، الدولة الاشتراكية الاولى والوحيدة آنذاك في العالم.وقد تكللت العلاقات التي بدأت بين اليمن والاتحاد السوفيتي منذ عام 1926، عن طريق البعثة السوفيتية التي كانت موجودة آنذاك في جدة، بتوقيع معاهدة الصداقة والتجارة في مطلع نوفمبر عام 1928. وفي صنعاء استقرت بعثة تجارية سوفياتية، وبدأت البواخر السوفياتية تحمل البترول إلى الحديدة، وبضائع اخرى زراعية وصناعية بأثمان زهيدة، عرضت في طول البلاد وعرضها، واستقرت الأسعار التي كانت قد ارتفعت عالياً، وتحرر السوق اليمني من الاحتكار الايطالي، وتحررت البلاد من ضغطه الاقتصادي، وكسر احتكار ايطاليا للتجارة الداخلية والخارجية.وأيد الاتحاد السوفياتي استقلال وسيادة الدولة اليمنية، واظهر عطفه على حق الشعب اليمني في الوحدة. وفي الوقت الذي قوت فيه المعاهدة (اليمنية - السوفياتية) موقف اليمن، وساعدتها على التخلص من عملية (التطويق) الاستعمارية والفاشية، فإنها كانت إنذاراً موجهاً إلى عنوان المستعمرين والفاشيين باحترام سيادة واستقلال اليمن.. وكما مزقت هذه المعاهدة الحصار الاقتصادي والسياسي الذي كان غلاة الاستعمار والفاشية قد ضربوه من حول اليمن، فإنها ثبتت في نفس الوقت مكانة اليمن الاقتصادية - والدولية.وإذا كانت بريطانيا العظمى قد تمكنت عام 1928، عن طريق الهجوم العسكري وبأسلحة البطش والعدوان، من رد الجيش اليمني إلى ما وراء خط الحدود التركي - الانجليزي، الذي لم تعترف به الحكومة اليمنية قط، فان بالها لم يهدا، وبدأ انه لن يهدأ إلا بعد اعتراف الحكومة اليمنية به كأمر واقع فرضته القوة الغاشمة.وهكذا أتيح لبريطانيا بعد مفاوضات طويلة، توقيع معاهدة مع الإمام عام 1934، انتزعت بها اعترافه بالأمر الواقع، ومقابل ذلك اعترفت بدولة اليمن. وقبل توقيعها، انسحبت الفصائل اليمنية من بعض القرى التي كانت ما تزال ترابط فيها خلف خط الحدود التركي- الانجليزي، وبالذات من شمال سلطنة العواذل، ويافع، وإمارة الضالع. غير ان بريطانيا لم تستطع الحصول على اعتراف الحكومة اليمنية بهذا الخط، او إلزامها بتخطيط الحدود من جديد، حيث إن المادة الثالثة من المعاهدة نصت على ان ((يؤجل البت في مسألة الحدود اليمنية إلى ان تتم مفاوضات تجري بينهما قبل انتهاء المعاهدة)) التي حددت مدتها بأربعين عاماً.وعلى الرغم من عدم اعتراف بخط الحدود التركي - الانجليزي، فقد عبرت المعاهدة عن انهيار المقاومة للاستعمار البريطاني، وعن استسلام الإمام يحيى أمامه، ورضوخه لشروطه.لقد كان عام 1934 عام انهيار المقاومة إزاء الاستعمار البريطاني، وعام توقف حركة اليمن التاريخية من اجل وحدة الارض اليمنية، وعام تقارب الحكام اليمنيين مع الاستعمار البريطاني، ولقد كشف هذا العام انه رغم الكفاح المستمر، والتضحيات الغالية التي قدمها الشعب اليمني من اجل تحقيق وحدة الارض اليمنية، فان الجهاز الحاكم، الذي كان يسيطر عليه، لم يكن يملك المقومات او الشروط التي تساعد على تحقيق هذه المهمة التاريخية. فنتيجة للتركيب الاقتصادي والاجتماعي المتخلف الذي قامت عليه دولة الائمة، لم يكن في امكان الشعب اليمني ان يصل بكفاحه إلى نهاية النصر، والى خلق وحدة وطنه. ان فشل ايجاد دولة يمنية موحدة، لا يعود فقط إلى قوة بريطانيا وحلفائها الذين اعترضوا هذه المسيرة التاريخية، وانما يعود بالدرجة الاولى إلى طابع الدولة التي وقف على رأسها الائمة. فمملكة الائمة الرجعية بنظامها الاقطاعي- الطائفي- العنصري، لم تكن تستطيع ان تفرض وحدة الوطن اليمني بجرب تحرير ثورية. ولقد كانت القوى العسكرية التي وقعت في الميدان ضد بريطانيا وحلفائها، تتشكل من طائفة واحدة فقط، هي طائفة الزيديين. فلا الشافعيون ولا الاسماعيليون، داخل مملكة الإمام او خارجها، كانوا مناصرين لحركة الكفاح ضد بريطانيا وحلفائها، لسبب واحد وهو انهم لم يقبلوا بإمام طائفي، عنصري، متعصب، يحكمهم، او يوجه نضالهم.ولقد كان نظام الضرائب البالغ القسوة، واستخدام الجنود عند جباية الضرائب، ونظام الرهائن الخالي من الشفقة، وما عدا ذلك من المعالم الرجعية لدولة الائمة، من الاسباب العميقة التي حالت بين الشوافع والاسماعيليين في مختلف المناطق اليمنية، وبين التحمس لقضية وحدة الوطن اليمني.لقد اثبتت سنوات الكفاح المضني والمرير، ان مهمة تحرير الارض اليمنية من الحكم الاجنبي تتطلب اولاً التحرر من الحكم الرجعي الداخلي، وان رفع الظلم الداخلي، والاضطهاد الطبقي، والطائفي، والعنصري، مقدمة لازمة لرفع الظلم الخارجي والاضطهاد الاجنبي، وان تحرير الانسان اليمني هو الخطوة الاولى لاطلاق قواه وطاقاته من اجل تحرير وطنه، ولقد اكد نضال الشعب اليمني ان حرب تحرير وطنية ثورية ناجحة تتوقف اولاً على خلق جهاز حكم متحرر وطني ثوري يستطيع ان يعبىء الشعب كله وراءه، ويقنعه بقيادته له.ولقد جاءت ثورة 26 سبتمبر1962 لتفتح هذا العهد، عهد تحرير المواطن اليمني توطئة لتحرير ارضه من الاستعمار البريطاني، والتسلط الخارجي. فالثورة اليمنية التي اسقطت مملكة الائمة الرجعية، واعلنت قيام جمهورية وطنية متحررة، شكلت إنذاراً ثورياً حازماً للاستعمار البريطاني وحلفائه. وبنشوبها توفر الشرط الحاسم لانطلاق حركة التحرير الوطنية اليمنية، وفشل كل المخططات الاستعمارية.ولقد ادرك الاستعمار البريطاني اتجاه الثورة اليمنية التاريخي، ومهمتها العظمى التي وضعها التاريخ اليمني على عاتقها، ثأراً للماضي، وانتصاراً للمستقبل، ولهذا فإنه قد شن ضدها حرب تدخل رجعية استعمارية سافرة.ولم يكن اندفاع بريطانيا المسعور ضد الثورة اليمنية، دفاعاً عن عرش الرجعية الذي سقط في صنعاء، بقدر ماكان دفاعاً عن برجها الاستعماير في عدن.ولقد وضع التاريخ على الشعب اليمن الثائر في الشمال والجنوب مهمة مواصلة كفاحه التاريخي المليء بالتضحيات، والانتقال به إلى مرحلة تحقيق الامل، مرحلة اسقاط الحكم الاستعماري الأنجلو سلاطين في الجنوب، بعد ان تم له اسقاط الحكم الرجعي في الشمال، مرحلة خلق دولة يمنية موحدة مستقلة وطنية ديمقراطية.ولقد ارتبط انجاز هذه المهمة التاريخية الجليلة بقيام ثورة 26سبتمبر1962 في شمال الوطن، وتفجر ثورة 14أكتوبر1963 في جنوبه.[c1]فساد نظام الإمامة[/c]على الرغم مما يبدو نظرياً من ان مذهب الإمامة الزيدية لا يبيح الوراثة المطلقة للعرش، إلا ان الواقع التاريخي قد برهن على ان الامامة قد تحولت إلى ملك وراثي مطلق عضوض. وبذلك نقضت احدى المقومات الشرعية للحكم الاسلامي الصحيح. ان نظام الامامة الزيدي لم يضعه زيد بن علي كما قد يتوارد على الاذهان، وانما الذي صاغه واكمل صياغته القاسم الرسي ومن تلاه من الائمة من آل بيته. وهكذا بدأ نظام الامامة كتكريس للحكم وكوارثة مطلقة في اسرة واحدة هي اسرة القاسم الرسي التي ينحدر منها بيت حميد الدين. وليس ادل على ذلك من ان هذه الاسرة انفردت بحكم اليمن منذ القرن العاشر حتى القرن العشرين حيث لم تخرج السلطة من يدها إلا نادراً.لقد وضعت للامامة شروط عدة ولكنها اما متناقضة، او لم تتحقق. ان احد شروط الامامة هو ان يكون الامام ورعاً تقياً، إلا ان هذا الشرط ينقضه حكم آخر يقول: بجواز إمامة المفضول مع وجود الافضل. كما ان نظام الامامة قد حرم على من ليس بهاشمي تولي رئاسة الدولة. ومع ان هذا الشرط يتناقض والديمقراطية، فانه رغم حيفه لم يتحقق ايضاً، حيث ان اسرة الرسي هي التي استأثرت بالحكم دون غيرها من الهاشميين. واكثر من ذلك فإن هذا الشرط قد أبطل في عهد الإمام يحيى تماماً حيث سمح يحيى لابنه الاكبر احمد ان يدعو نفسه ولياً للعهد، ومكن له من تهيئة نفسه لخلافته بمختلف الوسائل والسبل، وقام نظام الامامة على التعصب الطائفي حيث لم يفرض على الشافعيين والاسماعيليين ان يكونوا محكومين فقط، بل واعتبرهم كفار تأويل، وأباح نهب اموالهم.ومن هنا اهتم الامام يحيى في ان يكون جيشه من طائفة واحدة فقط من اجل نهب الطائفتين الاخريين، وابتزاز اموالهما عن طريق الجنود والضرائب الباهظة. وفرض نظام الامامة على اتباعه السمع والطاعة، واعتبر من خرج على الامام لظلمه او استبداده فاسقاً باغياً فاجراً. وكرس نظام الامامة السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية بشخص واحد هو الامام، ووضع في يده السلطة الدينية والدنيوية، فالامام هو كل شيء ويعمل كل شيء. ولهذا السبب فإن الامام يحيى ومن بعده احمد لم يهتما بإنشاء جهاز سياسي وإداري للدولة. لقد اعطى نظام الامامة الإمام سلطة غير محدودة من اجل اقامة حكم مطلق فردي كهنوتي. ان نظام الامامة الذي كرس في شخص الحاكم كل وظائف الدولة، قد بدأ باعتباره وسيلة لتجسيد الدولة في شخص الامام. ولم يستطع الامام يحيى ومن بعده احمد ممارسة هذه السلطة إلا بواسطة نظام الرهائن، هذه الظاهرة الفريدة في استرقاق الناس، وإلا عن طريق القمع الوحشي للانتفاضات القبلية. وهكذا تميزت دولة الامامة بانها حكم اقطاعي كهنوتي، حكم اوتوقراطي فريد في نوعه، حكم استبدادي ارستقراطي فردي مطلق وطغيان مسلح.. إن هذا النوع من الحكم الوحشي يتنافى مع الروح الديمقراطية للاسلام التي جعلت الامر شورى بين الناس، ومع تقاليد نبلاء اليمن الديمقراطية. ألم تقل ملكة اليمن - في العصور القديمة- (ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون) لقد كان حكم الامامة الشرس مما تنكره شرائع الارض والسماء.[c1]اليمن في ظل العزلة والجمود السياسي[/c]كان شمال اليمن اول بلد عربي يحقق استقلاله السياسي الكامل بعد الحرب العالمية الاولى وفور انسحاب الاتراك من اليمن. وكان اليمنيون الذين خاضوا الحروب الوطنية التحريرية ضد الاتراك، ثم ضد الانجليز، والذين قامت الدولة اليمنية على اكتافهم يأملون في ان يكون الاستقلال عاملاً في انتقال بلادهم من التخلف والركود والتأخر إلى التقدم والرقي والحضارة، وان يكون نقطة انطلاق إلى تحقيق مطامحهم العادلة.ولقد كان في إمكان اليمن ان تسير في نفس الطريق الذي سارت فيه اليابان مثلاً، والذي اصبحت بالسير فيه بلداً يضاهي الدول الاوروبية ذات الحضارة المتطورة. ان الامر لم يكن اصعب مما كان عليه في اليابان. ولو ان حكومة اليمن سارت بالبلاد في هذا الطريق لاصبحت اليمن ذات وزن سياسي عالمي. كان في إمكان حكام اليمن من الائمة ان يدخلوا حتى بعض الاصلاح والتجديد على حياة اليمن، وان يأخذوا ولو ببعض الشيء من منجزات الحضارة الحديثة. ولكن الذي حدث هو العكس تماماً، لقد ضرب الامام يحيى نطاقاً رهيباً من العزلة على اليمن، وكان هدفه من ذلك ان يبقى الشعب اليمني بعيداً عن سير التاريخ، معزولاً عن التفاعل مع العالم المتحضر، وبمنأى عن التطور العاصف في القرن العشرين، وعن التحولات التاريخية الكبرى التي تجري فيه، وعن الكفاح الوطني والمعادي للحكم المطلق في الشعوب العربية، وعن مراكز الالتهاب لحركة التحرر الوطنية العربية.كان هدف يحيى من العزلة ان يحتبس الشعب اليمني في سجن معتم من القرون الوسطى، وان يفرض عليه منطق السمع والطاعة، وان يضرب عليه الذلة والمسكنة. لقد كانت العزلة الخانقة التي ضربت من حول اليمن تعبر عن جمود الائمة السياسي، وفقدان قدرتهم على التفاعل مع الحياة، وعن رجعيتهم وتخلفهم.وهكذا فإن ركود التطور الذي بدأ في اليمن قبل 1500 سنة مع انهيار الحضارة اليمنية القديمة استمر في عهد الإمامين يحيى واحمد قائماً، بل وازدادت مرافق الحياة في عهدهما تدهوراً وانحطاطاً، وبقيت اليمن كما في السابق تعيش في القرن العشرين، ولكنها تحيا حياتها الاولى في القرن السادس الميلادي واصاب حياة اليمن شلل عام، ومزق عصب الحركة فيها، وظلت تغط في نوم عميق خلف جدار العزلة الرهيب، وعلى رأسها سيف الجلاد يضطرها إلى الامعان في النوم، بينما جلبة الحياة وحركتها الصاخبة من حولها تصك مسامعها. وكانت نتيجة هذه السياسة التدميرية هذه اللوحة السوداء:لم ينشأ في اليمن جهاز اداري حديث للدولة، وحلت سلطة الامام المطلقة محل سلطة الشعب، ولم يكن في البلاد نظام صحي او تعليمي، ولم توجد مؤسسات صناعية او زراعية او منشآت للري، وبقيت اليمن في ثقافتها وزراعتها ومستواها الاجتماعي، وفي جميع مرافق حياتها، تعيش في اكثر مراحل القرون الوسطى تخلفاً. وبسبب من فقدان وسائل الري، ونتيجة للضرائب العالية حدثت المجاعات وعم الفقر في اليمن. وعندما اكتسحت احدى المجاعات صنعاء قال الامام يحيى كلمته المشؤومة: ((من مات فهو شهيد، ومن عاش فهو عتيق)) واصبحت سياسة تفقير الشعب منهجاً له، ألم يقل: ((من كان فقيراً ظل منشغلاً برغيفه اليومي بحيث لا يجد وقتاً للاهتمام بالسياسة))، وفرض الائمة سياسة التجهيل إزاء الشعب، حيث اصروا على عدم إدخال المناهج الحديثة في التدريس، وعلى عدم إقامة المدارس الحديثة، وكانوا بهذا - على أي حال- منطقيين مع انفسهم ، إذ ان إدخال العلم الحديث إلى اليمن يعني القضاء على المدرسة القديمة التي لا يعلم فيها غير مذهب الإمامة الهادوي والفقه السلفي السني ومنطقها في السمع والطاعة للإمام. وفرض الائمة على الشعب ان يبقى في حالة من المرض لا يقوى معها على الحركة، وبهذا ارادوا قتل الحياة فيه. ومنذ ان اعتلت اسرة بيت حميد الدين العرش اهتمت بجمع الاموال ومصادرة ممتلكات الناس متعللة بهذا السبب او ذاك.وهكذا اصبحت العائلة المالكة من اقوى الاسر الاقطاعية في البلاد، فنشأ ما سمي (الاملاك السعيدة) و (الصوافي)، وكان الائمة يقشعرون من ادخال الآلات الميكانيكية الحديثة في الزراعة. كانوا يخشون ان تؤدي الحضارة الميكانيكية إلى تفجير الاساس الذي قامت عليه دولتهم. لم يكن الامام يرغب، باعتباره اقطاعياً وحامياً للاقطاع ولعلاقات الانتاج الإقطاعية، في تغيير اسلوب الانتاج القائم.وعندما اقترح عليه بعض المفكرين، وكان من ضمنهم ابنه محمد، ادخال الوسائل الميكانيكية إلى الزراعة، وحفر الآبار لري الاراضي، أجاب: ((إننا لا نريد فتح هذا الباب. إننا نخشى ان يعرف اليمنيون، وبالذات ذوو الاملاك منهم، ذلك، وان يستفيدوا من هذه الوسائل الحديثة، وحينئذ سيرتفع سعر الاراضي. وفي هذه الحالة لن نستطيع شراء اراض جديدة لاولادنا وتوسيع املاكنا)).ان ادخال الآلات الحديثة إلى الزراعة كان سيؤدي إلى انشاء بذور لعلاقات جديدة ذات طابع رأسمالي. وهذا ما رفضه الامام بوعي او بغير وعي. إلا ان شيئاً واحداً مؤكداً، وهو ان الائمة كانوا ــــ من اجل الحفاظ على حكمهم المطلق ـــ مهتمين جداً بألا يتغير التركيب الاقتصادي والاجتماعي الاقطاعي القبلي.ففي ظل هذه العلاقات الاقطاعية القبلية فقط يستطيع الامام ان يمارس سلطته المطلقة. ان الحضارة الحديثة والتقدم لم يكونا في حالة تناقض حاد مع هذه العلاقات فحسب، بل كانا يشكلان ايضاً خطراً جاداً على حكم الامام الاقطاعي. وتحت هذه الظروف الاقطاعية القاسية لم يكن ممكناً نشوء طبقات جديدة. ونتيجة لفقدان نظام مالي ملائم، وما يتعلق به من مؤسسات، ولعدم وجود مواصلات حديثة، ولاحتكار العائلة المالكة لشؤون التجارة، استحال ايضاً نشوء رأسمالية تجارية. ولهذا فقد اضطر التجار الصغار إلى الهجرة إلى عدن وغيرها من البلدان، تماماً كما اضطر الكثير من الفلاحين إلى مغادرة وطنهم نتيجة للتنافيذ والضرائب العالية والاستغلال البشع. وحتى الفن الحرفي الذي اشتهرت به اليمن، أخذ يتدهور حتى اصبح في حالة موات. واضطهد الائمة بلا رحمة وبكل الوسائل البربرية طموح اليمنيين، إلى الثقافة والعلم والتقدم، ومارسوا ضد الشعب سياسة استبدادية ظالمة.[c1]نفوذ الاستعمار القديم والاستعمار الجديد[/c]كانت رجعية المملكة المتوكلية اليمنية ذات فائدة كبرى بالنسبة للاستعمار البريطاني اتاحت له ان يثبت مواقعه، وان يمارس سلطاناً مباشراً على جنوب اليمن المحتل بعد ان تخلى عنه الامام يحيى. ولم يكن السلاطين والامراء والمشايخ الاقطاعيون في جنوب اليمن هم الركائز الرجعية الداخلية للحكم الاستعماري فحسب، بل كان الحكم المتوكلي الرجعي الاقطاعي في الشمال احد اسباب بقائه ايضاً. ومن ناحية اخرى، فان الاحتكارات البريطانية لم تخضع جنوب اليمن المحتل لديكتاتوريتها الاقتصادية فقط، بل اخضعت شمال اليمن لها ايضاً.وكما تحول جنوب اليمن إلى مستعمرة،تحول شماله، نتيجة لفقدان المؤسسات والبنوك والموانىء، إلى شبه مستعمرة تابعة من الوجهة الاقتصادية للاستعمار البريطاني.. واكثر من ذلك فان هذا التحكم الاقتصادي في البلاد قد انعكس ايضاً على المستوى السياسي ومارست بريطانيا نفوذاً سياسياً معيناً على الامامين يحيى واحمد، واثرت على سياسة الدولة، ومست استقلالها. وقد تجلى ذلك مثلاً خلال الحرب العالمية الثانية، حيث أملت بريطانيا على الامام يحيى السياسة التي تريدها.وفي عهد الامام احمد اخذ البلاط الملكي يتحول بالتدرج إلى مسرح للنفوذ الاستعماري، واخذ النفوذ الامريكي يكتسح النفوذ البريطاني، وبدا ان الاستعمار الجديد يسعى حثيثاً في فرض نفسه في شمال اليمن خلال صراعه وتنافسه مع الاستعمار القديم، واصبح للاستعمار الامريكي عملاء مهمون يحتلون اماكن حساسة في جهاز الدولة. وما كان إعطاء الولايات المتحدة الامريكية امتياز التنقيب عن البترول في اليمن إلا احد مظاهر تغلغل الاستعمار الجديد في البلاد. وكاد الحكم في اليمن يتحول إلى حكم مزدوج بين الإمامة الاقطاعية والاستعمار الجديد.[c1]لمحة عامة عن حركة المعارضة والحركة الوطنية اليمنية[/c]كل حركة معارضة في أي بقعة من بقاع الارض لابد ان تكون امامها اهداف معينة تسعى إلى تحقيقها، واضحة كانت هذه الاهداف او غامضة، مكتوبة في سطور او محفوظة في الصدور، ولم تكن حركة المعارضة اليمنية للحكم الامامي الحميدي منذ نشوئها في مطلع الثلاثينيات استثناء من هذه القاعدة العامة. فقد كانت لديها اهداف عامة كثيرة بعضها واضح، والبعض الآخر غامض، وقد اشتمل برنامج الاحرار على الاهداف الخمسة التالية:مقاومة الاستبداد، واقامة حكم الشورى، والبحث عن الشخصية القيادية، والاندماج بالامة العربية وسعادة الشعب - هكذا يصور احمد محمد نعمان احد ابرز زعماء المعارضة اهداف الحركة. إلا ان احد اهداف الاحرار الرئيسية كان ما يزال يصاحبه الكثير من الغموض فحركة المعارضة لم تدع إلى الغاء نظام الامامة الملكية من اساسه باعتباره بؤرة الفساد ومركز تجمعه.وهكذا كان من اسباب فشل انقلاب عام 1948، وانقلاب عام 1955م وجود إمامين على رأسهما من نفس العائلات الحاكمة، حيث لم ير الشعب في كلتا الحركتين إلا جانبهما الظاهر، وهو التطاحن والنزاع على العرش بين الاسر الحاكمة. إلا ان هاتين الحركتين قد اسهمتا مع ذلك في اضعاف وضعضعة العائلة المالكة. على ان الحركة الوطنية قد طرحت منذ نشوئها في منتصف الخمسينيات هدفاً امام الشعب اكثر وضوحاً وجلاء، الا وهو ضرورة القضاء على نظام الامام الملكي واقامة النظام الجمهوري الثوري مكانه. وما ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962 التي اسقطت النظام الامامي الملكي واعلنت الجمهورية العربية اليمنية إلا امتداد للاعمال الكفاحية والدؤوبة التي نهضت بها الحركة الوطنية، وامتدت إلى صفوف الضباط الذين اشعلوا فتيل الثورة. كما ان هذه الثورة كانت في نفس الوقت الذروة العليا في المد القومي العربي الذي كانت تقوده الناصرية.[c1]معضلة وضع منهاج لثورة سبتمبر[/c]لقد كان من الاهداف التي قامت عليها ثورة 26سبتمبر:القضاء على الملكية وأعوانها من الرجعية.- إقامة النظام الجمهوري.إيجاد جيش وطني.إقامة تنظيم شعبي.تحقيق الوحدة الوطنية والعربية.تحقيق العدالة الاجتماعية.ورغم ما لهذه الاهداف من اهمية عظمى، الا انها كانت تتطلب صياغة موسعة متطورة. وهذه الاهداف الكبيرة شكلت معالم على الطريق. وكان يمكن الانطلاق منها عند وضع منهاج متكامل جذري للتغيير الثوري تلتزم به الثورة وتسير على هداه، منهاج يحدد فكر الثورة وطابعها السياسي وطبيعة النظام الجديد الذي تريد اقامته، منهاج يبرز افضلية النظام الجمهوري على النظام الملكي المسقط، ويشخص التركيب الاقتصادي والاجتماعي المتخلف بغرض هدمه وإحلال تركيب اقتصادي واجتماعي متقدم مكانه. إذ ان الثورة لا يمكن ان تسمى ثورة بالمعنى العلمي للكلمة بمجرد خلعها ملكاً، او قلبها لعرش.انها تشترط ضرب القاعدة الاقتصادية للنظام القديم، وهدم البناء الفوقي الايديولوجي والسياسي الذي قام عليها. انها عملية تاريخية تتحول بها العلاقات الانتاجية والاجتماعية تحولاً كيفياً، وتقلب بها الاوضاع السياسية والثقافية السابقة رأساً على عقب.ان المنهاج يتكفل برسم آفاق عملية التغيير هذه وبتحديد القوى الثورية المحركة لها والمعوقة. وأكثر من ذلك فإن المنهاج - اضافة الى تحديده سبل تحقيق الوحدة اليمنية - يتولى تعيين سياسة الدولة على النطاق العربي والدولي، وموقف الشعب اليمني من قضية الوحدة العربية وقضية النضال الوطني التحرري ضد الاستعمار. ان المنهاج هو دليل العمل وبوصلة الثورة الهادية. انه الميثاق الوطني للحركة الوطنية، ولكل جماهير الشعب المناضلة، تلتزم به وتطبقه، وبتجربتها في العمل الوطني تغنيه وتخصبه وتعمقه وتطوره.[c1]الثورة ذروة تقاليد الشعب الثورية ونقطة تحول حاسمة[/c]ان اليمنيين لا يشعرون بالاعتزاز والفخر بانهم صناع حضارة قديمة عريقة عرفت في التاريخ بانها احدى حضارات العالم القديم الشهيرة فحسب، وانما لانهم اشتهروا ايضاً في التاريخ الحديث بروحهم النضالية المتفانية في مقاومة الغزاة الاجانب الذين تدافعوا على شواطىء اليمن - منذ القرن الخامس عشر- يريدون بسط سلطانهم عليها ليضمنوا بذلك التحكم في طريق الهند، وليقبضوا على شريان التجارة بين الغرب والشرق وعلى عنق البحر الاحمر في باب المندب، وليحتكروا تجارة البن اليمني الذي اسال ظهوره في هذا الوقت لعاب القوى الطامعة.فعلى صخرة مقاومة شعبنا تحطمت محاولات الغزو التي قام بها البرتغاليون والهولنديون والفرنسيون. ولقد كان الاتراك والانجليز اشرس هذه القوى الغازية. ان الحرب الطاحنة التي دارت رحاها على قمم اليمن الشماء وعلى سهوله البطحاء، بين المحاربين اليمنيين والجيوش التركية الجرارة في الغزوة التركية الاولى، والتي خرج منها اليمنيون منتصرين، بينما بقيت الشعوب العربية والاسلامية وغيرها من الشعوب رازحة تحت الحكم العثماني، لهي من التقاليد الثورية الخاصة بشعبنا والتي نعتز بها اشد الاعتزاز، وان الحروب الضارية التي اشتعلت بين المحاربين اليمنيين والجيوش التركية الغازية منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الاولى، والتي كان الجبل والسهل مسرحاً لها والتي تحولت بها اليمن إلى مقبرة للأتراك، لهي من المآثر التاريخية العظمى التي تروى عن اليمن، والتي ستبقى ابد الدهر مفخرة لليمنيين واهزوجة انتصارهم في ملاحم المستقبل القادمة. لقد تمكن شعبنا بنضاله الرائع ان يقيم بعد الحرب العالمية الاولى في الهضبة الوسطى من اليمن، وعلى الشريط الساحلي المطل على البحر الاحمر اساساً لدولة يمنية موحدة مستقلة.ان محاولات توسيع نطاق هذه الدولة بحيث تشمل كل اراضي اليمن التي تمتد في الجنوب حتى عدن وحضرموت، قد منيت عام 1934 بهزيمة سياسية ساحقة.ان هذا العام يشكل لحظة تفجر التناقضات في صفوف الطبقة الاقطاعية، ومن ثم ساعة ميلاد حركة المعارضة اليمنية لحكم الامام يحيى، كما ان هذا العام كشف ضعف الدولة اليمنية والجيش اليمني، وفشل حركة توحيد اليمن، وانحطاط النظام الامامي ورجعيته.وكانت الحركة الوطنية اليمنية التي ولدت في منتصف الخمسينيات استمراراً للروح الثورية لدى الشعب اليمني وتعبيراً عنها. وبعد كفاحات مريرة واعمال بطولية قدمها شعبنا امكن له الظفر بحريته باندلاع ثورته المجيدة، في 26سبتمبر عام 1962م. التي مهدت لقيام ثورة 14أكتوبر1963 في جنوب الوطن. وهكذا فإن الثورة اليمنية - بشقيها (26سبتمير و14أكتوبر)- لا تشكل استمراراً لتقاليد شعبنا اليمني الثورية فقط، وانما تعتبر ايضاً قمة اعماله الكفاحية، وتقف في الذروة العليا منها، ناهيك عن انها نقطة تحول حاسمة في تاريخه.[c1]الثورة والثورة المضادة[/c]في الـ26 من سبتمبر عام 1962م اندلعت الثورة اليمنية التي انتظرها الشعب طويلاً وكافح من اجلها سنين عديدة، وسقط جدار العزلة الرهيب إلى الابد، وخرجت اليمن من عالم النسيان إلى عالم الوجود. ان الانفجار الثوري الذي حدث يوم 26 من سبتمبر قد قفز باليمن إلى مركز الاحداث العالمية.ان هذه الثورة اليمنية تشكل فصلاً حاسماً في تاريخ الكفاح البطولي للشعب اليمني، ولايمكن مقارنتها بالتمردات التي لا تحصى والتلقائية التي حدثت في الماضي ضد الطغيان الداخلي والخارجي.. انها قفزة تاريخية كاملة وتحول سياسي نوعي وجذري في تاريخ اليمن كله.ولهذا فقد هبت في وجه الثورة اليمنية ثورة مضادة، وتحولت اليمن إلى مسرح حرب اهلية طاحنة ضروس بين القديم والجديد، بين قوى التقدم وقوى التأخر، بين انصار الجمهورية والثورية وانصار الامامة والرجعية، بين قوى وعت حركة التاريخ والتطور وقوى ما تزال غارقة في ظلام الجهل والبداوة، بين قوى تطلب المستقبل وقوى تتمسك بالماضي.لقد آزرت الثورة الاغلبية الساحقة من الشعب اليمني، ولم تقف ضدها سوى القوى المرتزقة التي تدافع عن الامامة ليس لتعلقها بها بقدر ما دافعت عنها لحصولها منها على المكسب الرخيص والغنيمة. لقد اوحى الامام المخلوع إلى بعض القبائل بانه في إمكانها ان تشن الغارات على المدن وتستبيحها، كما كان يفعل ابوه من قبل، واكثر من ذلك فانه وضع في ايديها السلاح وملأ جيوبها بالذهب والفضة التي زودته بها قوى اجنبية، واندفعت هذه القوى المرتزقة تحارب الثورة في عمى وجهل.[c1]الدلالة التاريخية والتقدمية للثورة[/c]ان الدلالة التاريخية التقدمية لثورة سبتمبر لا تتمثل في اسقاط نظام ملكي واقامة نظام جمهوري فحسب، ولكن ايضاً في إلغاء نظام الامامة الطائفي المتعصب، والاوتوقراطي الفردي، والاسري الارستقراطي. لقد كان نظام الامامة في اليمن نشازاً بين انظمة الحكم الاسلامية، لتفرده بهذه الصفات البشعة. لقد تساقطت كل الممالك اليمنية التي قامت على اساس مذهبي مثل ممالك الشوافع، والقرامطة والفاطميين والخوارج والاسماعيليين، إلا مملكة الائمة فانها ظلت تحتفظ بنشاطها وعنفوانها حتى القرن العشرين.من هناك ندرك ان اسقاط نظام الامامة العتيق يعد عملاً تاريخياً عظيماً، وقفزة تقدمية كبرى. لقد سقط بقيام هذه الثورة اليمنية الحكم المطلق، والتمييز الاسري، والتحكم الطائفي، واجتز رأس الاقطاع. وباندلاع هذه الثورة انهار سور العزلة العتيد الذي حال بين اليمن وبين التأثر والتفاعل مع احداث وتيارات العالم العربي الوطنية العاصفة، كما وضعت الثورة اليمنية نهاية للجمود السياسي، والحكم المحافظ والاستبداد الاقطاعي.على ان الدلالة التاريخية التقدمية للثورة اليمنية لا تقف عند هذا الحد، انها ما تزال ابعد من ذلك مدى.. ان الثورة اليمنية شكلت ساعة ميلاد تاريخية جديدة لليمن، ولمجد وحضارة اليمن. فمنذ الاحتلال الحبشي لليمن في القرن السادس الميلادي الذي ساهم في وضع نهاية تامة للحضارة اليمنية، دخلت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن، هي مرحلة ركود التطور.ان كل انظمة الحكم التي اختلفت على اليمن منذ ذاك الحين حتى النصف الثاني من القرن العشرين، كانت إما انظمة حكم اقطاعية طائفية محلية، او انظمة حكم اقطاعية خارجية. وكلها لم تساهم في دفع اليمن خطوة واحدة إلى الامام.ان الذي حدث هو العكس فالحروب الاهلية ذات الصبغة المذهبية التي اشتعلت بين الطوائف، والتي كان يقودها الامراء الاقطاعيون من اجل التفرد بحكم اليمن، او الحروب التي اندلعت بين اليمنيين من جهة وبين الغزاة الاجانب من جهة اخرى، ان كل ذلك قد ساعد على ازدياد التدهور الاقتصادي واستمرار ركود التطور لمرحلة اطول. لهذا يمكننا القول انه باندلاع الثورة اليمنية اقفلت مرحلة الركود هذه إلى الابد، وفتحت مرحلة جديدة، مرحلة انعطاف تاريخي تقدمي، مرحلة تحول ثوري وطني، مرحلة انطلاق القوى المنتجة ومرحلة الازدهار الاقتصادي.[c1]الدلالة الوطنية للثورة[/c]لقد كان لقيام ثورة 26سبتمبر اهمية خاصة بالنسبة (لجنوب اليمن المحتل) فرغم انها قامت من حيث الاساس ضد حكم الامامة المطلق في الشمال، إلا ان دلالتها الوطنية قد اتسعت على نطاق اليمن كله. ولهذا فانه ليس من الصدفة ان جماهير شعبنا في جنوب اليمن استقبلتها بحماس منقطع النظير، وتدافع منها آلاف المتطوعين لنصرتها وإرساء دعائمها.وكما فتحت الثورة طريق التطور التاريخي الواسع لليمن، فانها فتحت طريق الوحدة الوطنية، وحدة الارض اليمنية.. وكما سبق فان المحاولات التي قام بها الحكم الامامي الإقطاعي في اليمن من اجل توحيد البلاد قد باءت بالفشل الذريع. ان من اسباب ذلك واقع ان حركة التوحيد هذه كان يقودها امام متعصب مكروه لدى سكان الجنوب اليمني، ولدى سكان عسير ونجران. ولهذا فانهم لم يتجاوبوا معه قط، بل قاوموا حركته. وبسقوط حكم الامامة المتعصب واعلان الجمهورية اليمنية انفتح الطريق رحباً امام الوحدة اليمنية، وتوافرت الشروط التاريخية اللازمة لخوض معركة تحرير وطنية ضد الاستعمار البريطاني، ومن اجل توحيد الارض اليمنية واقامة دولة يمنية وطنية موحدة مستقلة.ان قيام الثورة في الشمال قد اعطى الحركة الوطنية في جنوب اليمن دفعة قوية إلى الامام، وانتقل بها إلى مستوى ثوري اعلى.وليس ماهو اقوى دلالة على ذلك من قيام المظاهرات العمالية على نحو لم تعرفه المنطقة من قبل ضد الاستعمار البريطاني في عدن، ومن نشوب انتفاضة الحواشب وردفان، والضالع ودثينة واحدة بعد الاخرى فور نشوب ثورة 14أكتوبر1963، تمهيداً لانتشار الكفاح المسلح في جميع انحاء الجنوب، وفي عدن نفسها قاعدة الاستعمار.وهل هناك ماهو ابلغ دلالة على النهوض الثوري لحركة التحرر الوطني في جنوب اليمن، نتيجة لانفجار ثورة سبتمبر، من واقع ان لجنة تصفية الاستعمار التابعة للامم المتحدة قد ارسلت لجنة خاصة لتقصي الحقائق غير مرة، ومن واقع ان الامم المتحدة قد اتخذت قرارات بناء على تقرير اللجنة تطالب فيها بريطانيا بسحب قاعدتها العسكرية من عدن، وبمنح جنوب اليمن حريته واستقلاله، والسماح باجراء انتخابات عامة تحت اشراف الامم المتحدة لهذا الغرض، ومن اضطرار بريطانيا إلى اعلان انها ستنسحب من عدن خلال عام 1968م.منذ اندلاع ثورة سبتمبر، وكنتيجة مباشرة لها، اخذ مركز الثقل لحركة التحرر الوطنية العربية ينتقل إلى هذا الركن الجنوبي من بلاد العرب، إلى جنوب اليمن، حيث فتحت جبهة مفاجئة على الاستعمار والرجعية تمتد على نطاق اليمن كله، وحيث اجتذبت المعركة كل قوى التحرر العربية، وعلى رأسها مصر عبرالناصر، وحيث انتقل الاستعمار البريطاني من مركز الهجوم على الثورة اليمنية إلى مركز الدفاع عن وجوده، وحيث اخذت الامواج الثورية لحركة التحرر الوطنية اليمنية والعربية تحاصر قاعدة الاستعمار البريطاني في عدن، التي اعدها لتكون ثالث قاعدة له في العالم، يهدد منها الجمهورية اليمنية، ويحمي منها مصالحه البترولية في جنوب الجزيرة وفي الخليج العربي، ويوجهها لتكون رأس رمح مشروع ضد شرق افريقيا، لتكون حلقة رئيسية في سلسلة القواعد العسكرية العدوانية في العالم، وأحد مراكز التوتر الدولي وبؤرة لتهديد السلم العالمي.--------------------------[c1]من كتاب / «طريق الثورة والوحدة » للدكتور محمد علي الشهاري- دار الفارابي - بيروت -1982[/c]
طريق الثورة والوحدة
أخبار متعلقة