باتريك سيل يعد العام الحالي 2005 عاماً لتحطيم الأرقام القياسية بالنسبة للدول العربية المنتجة والمصدرة للنفط. والجيد أن عام 2006 المقبل، ربما جاء يحمل المزيد من الخير والبشرى والوعد لهذه الدول. غير أن التحدي الأكبر الذي يواجه قادة الدول المعنية هذه، يتمثل في عدم إهدار تلك الثروات، وتوخي الرشاد والحكمة في توظيفها في إصلاح وتحديث مجتمعاتها، وتقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية فيما بينها، واستخدامها في تنويع مصادر الدخل القومي وخلق فرص العمل لمواطنيها، والاستعداد لمرحلة ما بعد النفط. وما بين هذا وذاك تواصل الثروات النفطية سيلها وانهمارها على العرب. ودعنا نورد مثالاً واحداً على ذلك، بما جنته المملكة العربية السعودية وحدها خلال العام الجاري، إذ أنتجت نحو 9,45 مليون برميل يومياً، بلغت عائداتها ما يتراوح بين 155 و165 مليار دولار، وهو مبلغ هائل بكل المقاييس، وكان طبيعياً أن يحدث طفرة هائلة في مالية المملكة وخزانتها. فها هي وقد أعلنت للتو، عن أضخم ميزانية في تاريخها على الإطلاق، إذ أشارت إيراداتها إلى مبلغ 390 مليار دولار، مقابل 335 مليار دولار في جدول المنصرفات* ولابد أن يكون وزير المالية السعودي، إبراهيم العساف، من أكثر المسؤولين سعادة بهذه الميزانية. والذي يتوقع لثروة هائلة بكل هذا القدر، أن تحرض السعوديين على التفكير في المشروعات والبرامج العملاقة الكبيرة. من ذلك مثلاً، تخطط المملكة لإنفاق ما يزيد على 70 مليار دولار في المشروعات التعليمية خلال السنوات الخمس المقبلة، وهو استثمار يأتي في مكانه الصحيح* كما تشمل البرامج والطموحات أيضاً، إنشاء ''مدينة الملك عبدالله الاقتصادية'' بمدينة جدة الواقعة على ساحل البحر الأحمر، بتكلفة مقدارها 26 مليار دولار، بينما يتوقع لها أن تنشئ نحو 500 ألف وظيفة وفرصة عمل جديدة* هذا ويشار إلى أن مثل هذه المشروعات العملاقة، أصبحت شيئاً عادياً ومألوفاً على امتداد منطقة الخليج العربي بأسرها. والأمر كله يتوقف على سوق النفط وأسعاره العالمية. ففي منتصف شهر ديسمبر الجاري، بلغت أسعار النفط الخام الخفيف حوالى 59 دولاراً للبرميل الواحد، لحظة تسليمه في يناير المقبل في نيويورك. ولكن السؤال هو ما إذا كان هذا السعر سيستقر كما هو، في العام المقبل أم لا؟ فليس في مقدور أحد التكهن بما يمكن أن يحدث غداً. هذا ما أكده ''تيري ديسماريست'' مدير شركة ''توتال'' الفرنسية بقوله إنه يعجز عن التكهن بالاتجاه الذي يمكن أن تسير إليه أسعار النفط غداً. وبقوله هذا، إنما يضع السيد ''ديسماريست'' في اعتباره كافة المتغيرات التي تؤثر على تحديد أسعار النفط، بما فيها حالة الطقس خلال فصل الشتاء الحالي، وما إذا كان سيكون قارساً وشديد البرودة أم معتدلاً؟ وما إذا كان الأمن سيستتب في العراق وتعود معدلات إنتاجه اليومي من النفط، إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وما إذا كانت ستشتد مواجهة المجتمع الدولي لإيران فيما يتعلق ببرامجها النووية، إضافة إلى المتغيرات ذات الصلة بمعدلات الاستهلاك في كل من الولايات المتحدة والصين، بما يعرف عنهما من أنهما الدولتان الأعلى استهلاكاً للنفط العالمي، والأكثر تنافساً على موارده الشحيحة. ثم هناك متغير آخر يتعلق بما إذا كانت الأسعار الحالية -التي يرجح الكثير من الخبراء والمحللين احتمال مراوحتها حول ما يزيد على 50 دولاراً العام المقبل -ستسهم في تخفيض الطلب العالمي على النفط أم لا؟ وهناك سؤال آخر حول مدى مرونة الطلب نفسه على النفط؟ وهل ثمة نقطة معينة، سيقرر فيها مستخدمو السيارات الأميركيون، اللجوء إلى السيارات المهجنة، أو اختيار ما هو أسوأ من ذلك، مثل ترك سياراتهم الشخصية واستقلال وسائل المواصلات العامة؟ وحتى الآن فإنه ليس في مقدور أحد الجزم بإيجابية توقعات وآفاق معدل إنتاج النفط العراقي. والشاهد أن ضخ النفط في الحقول الشمالية قد توقف تماماً جراء العمليات التخريبية التي تعرضت لها من قبل المتمردين، في حين تدنت الإنتاجية كثيراً في الجنوب، بسبب انهيار البنية التحتية الإنتاجية، وضعف خدمات الصيانة المتاحة حالياً. وقبل الغزو كان معدل الإنتاج اليومي العراقي يزيد على المليوني برميل، إلا أنه انخفض في شهر نوفمبر الماضي إلى 1,6 مليون برميل، جرى تصدير حوالى 1,24 مليون منه. لكن مع ذلك، فإنه لا يزال في وسع العراق أن يتحول إلى دولة نفطية كبرى، فيما لو استتب الأمن وتحقق السلام، واستطاعت فصائله المتناحرة التوصل إلى اتفاق فيما بينها. فللعراق من الاحتياطيات النفطية ما يقدر بنحو 112 مليار برميل تحت أدنى الفروض، أي ما يعادل حوالى 11 في المئة من إجمالي الاحتياطيات النفطية العالمية. ولو كان العراق خالياً من النفط، لما غامرت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا بغزوه على الإطلاق. ولاشك أن أميركا تسعى لفرض سيطرتها على موارده النفطية، علاوة على الاستئثار بمليارات الدولارات المرصودة لإعادة إعماره* وبعبارة أخرى، فإنها تطمح إلى تحويل العراق إلى دولة وكيلة لها في المنطقة* وعلى الرغم من أن هذا لم يعد هدفاً واقعياً يعول عليه، إلا أن كبريــــــات شركـــات النفــــط الغربية مثل '' شــل'' و"BP" و''شيفرون'' وغيرها، لم تفقد الأمل بعد، ولا تزال تسعى لتأمين اتفاقات بعيدة المدى، تهدف إلى مشاركة الحكومة العراقية المستقبلية في الإنتاج النفطي. وبموجب هذه الاتفاقات، فستتكفل الشركات الغربية بتمويل تكلفة التنقيب والإنتاج، مقابل حصولها على نسبة من عائدات الإنتاج. ولكن من شأن اتفاقات كهذه، أن تضع الشركات الأجنبية في موقع الهيمنة والسيطرة على موارد النفط الوطني، الأمر الذي ليس مستغرباً أن يرفضه الكثيرون من مسؤولي النفط العراقيين. وبدلاً من إبرام اتفاقات كهذه، يفضل المسؤولون أن تسدد الشركات المعنية ما عليها من فواتير نظير الخدمات التي تقدمها في هذا المجال، كما هو معمول به في غالبية الدول الشرق أوسطية. غير أن هناك من المعلومات والتقارير ما يفيد تفضيل شخصيات قيادية مثل أحمد الجلبي -رئيس المجلس الأعلى لسياسات الطاقة العراقية- وإبراهيم بحر العلوم -وزير النفط الحالي- لاتفاقات مشاركة الإنتاج المذكورة أعلاه. ولكن الشيء الذي لا يمكن التكهن به حتى هذه اللحظة، هو أي مناصب سيتولاها أي من هذين، في الحكومة العراقية الجديدة، التي ستسفر عنها الانتخابات التشريعية التي جرت مؤخراً. ثم إن خبراء النفط يقولون إن أكثر القضايا والمهام إلحاحاً أمام الحكومة الجديدة، هو وضع الخطوط العامة للسياسات النفطية العراقية. ويتضمن هذا الواجب دون شك، تشريع قانون جديد للطاقة، وإنشاء شركة وطنية للنفط، على غرار نظيراتها في كل من الكويت والسعودية والإمارات. لكن وقبل ذلك كله، فإن من المهم أن يسترد العراق سيادته وإرادته الوطنية، وأن يودع القوات الأميركية والبريطانية المرابطة فيه حالياً . كاتب بريطاني مختص بقضايا الشرق الأوسط
طفرة 2005 والتخطيط لمرحلة ما بعد النفط العربي
أخبار متعلقة