تتصدر الرواية العربية الحديثة المشهد الثقافي ـ التاريخي العربي، منطلقة في توسع مساحتها من عوامل موضوعية متصلة بتغير مناخات المجتمع سياسياً وإقتصادياً وفكرياًَ، وتعدد قراءات الوعي الفكري عند كتاب الرواية العربية الذين يذهبون في تجديد بنية النص عبر أسلوبية تتطور مع ارتقاء الرؤية في هذا العمل الأدبي.تسارع الإنتاج الروائي العربي وتنوع اتجاهاته والسعي لخروجه عن الأطر السابقة، والوصول به إلى مستوى العالمية يدل على أن الرواية العربية تعيش زمن عالميتها، وتلك حقيقة تفرضها أحداث وأسباب تاريخية تجد في النص الروائي المساحة الإبداعية الأعمق والأوسع في رصد مجريات حياة المجتمع والإنسان.والعالمية في تركيبة الرواية العربية الحديثة، تخرج من قوميتها المحلية من خلال قدرتها على التعامل مع الفرد كظاهرة إنسانية وربط حياته بمسيرة العالم، فالفردية لا تعني عزل الإنسان عن الحياة، فهو بقدر ما يعيش همه اليومي لا ينقطع عن معاناة العامة، ومن هنا تأتي البطولة في النص الروائي من حالة امتداد مع الغير، فالذاتية لا تحمل وجع المفرد فقط بل هي أنين الجمع، وحصار الواحد في دائرة مغلقة هو الاستمرار لخنق الكل، لذلك تكون المعاناة حالة تشمل العامة وإن ظهرت في العمل الأدبي برؤية فردية.من الأعمال الروائية التي بلغت منزلة عالمية، روايات الكاتب السوداني الطيب صالح الذي جعل من أرض السودان مصدر الحكاية ـ الحدث فكان الدخول إلى عمق التربة السودانية حيث الإنسان والحياة والأحداث اليومية الحاملة لأحلام وطموحات الجميع، وفي روايته الخالدة (موسم الهجرة إلى الشمال) نقف أمام حكاية الإنسان الشرقي الذي يصارع جبروت الهيمنة الغربية، ويرفض أن تحوله حضارة الغرب إلى مسخ أو تابع لأنه إنسان له حق في التاريخ والحياة حتى وأن جاء من بلد فقر، هو قادر على التحدي والتفوق العلمي على أبن الغرب، بل هو قادر على هز مكانة هذا الغرب وجعله يدرك أن أسباب سطوة الغرب على العالم ما هي الا فترة من ضعف التاريخ العربي وسقوط حضارته غير أن هذه العوامل لا تعني الاستسلام المطلق والقبول بفلسفة السيد والعبد في شكل العلاقة بين الشرق والغرب.وبطل الرواية مصطفى سعيد الذي يذهب إلى الغرب بحثاً عن المعرفة لا ينظر إليه في ذلك العالم العربي سوى فصل من حكايات ألف ليلة وليلة، تلك النظرة الساحرة الحالمة لروح الشرق حيث الخرافة والأسطورة والعطور والبخور والجواري الحسان، عالم تضع مجرياته المخيلة الغربية تسعى لإسقاط ماض ذهب على حاضر صنع مفارقاته غزو استعماري، ذلك ما يتمرد عليه بطل الرواية انه واقع مرير وليس صورة كاذبة، والشرق ليس حكايات من دليل الأمس بل هو حاضر يحاول تدمير هذا الحائط المتصدع الذي طوق إرادته لحقب من الدهر، فهل يدرك الغرب ان الشرق قوة وليست لذة ؟؟البحث عن الإجابة عن كل هذه التساؤلات لا نجدها في الفردية وإن كانت هي محور هذا النص الأدبي. فهي تخرج من حصار الآنية لتنفتح على إجابات حضارية كبرى، على عالم مازالت هيمنة الغرب من تصنع مصائر الشعوب، وعلى حقائق تظهر فاجعة الإنسان من ذلك المستمر في حياتنا، وهل نحن مجرد غنائم لسيطرة الغرب؟إن خطورة رواية الطيب صالح تكمن في وضع حقيقة الإنسان الشرقي، طالما هو تحت الوصاية الغربية وعجزه عن قيادة أموره لا يمتلك حق استعادة قيادة التاريخ، وهذا العجز الحضاري هو ما يجعل حياته دوراناً في حلقة مغلقة، وهذه الحالة تصرف العقل من الصراع مع العدو الخارجي، إلى الصراع مع النفس وهي حالة احتراق داخلي يدمر كيان الأمة ويدخلها في تناحر مع التاريخ، فهي عندما تعجز عن محاربة عدوها الخارجي تستعيد من ماضيها الصور الزائفة والمشوهة وتنصبها في ميزان العدل المقدس، وتبدأ تحارب كل ما يخالفها في محيطها وتلك هي أعلى مراحل العجز الذي يصيب فردية التاريخ، والعودة إلى الأصول تصبح نوعية من الهروب ورفض كل مغاير.تقدم لنا رواية الكاتب صنع الله إبراهيم (بيروت ـ بيروت) صورة أخرى عن أزمة الأوطان العربية، وعن أزمة الإنسان العربي الذي يجعل من تدمير مكانه وذاته محاولة لتغيير الواقع.هذه مدينة تحترق والكل شارك في هذا الدمار، الكل جعل من الرصاص والقنابل والرماد والدم والدخان الأسود شعارات للسلام والحرية والعدل والحق، إنها الحرب، ولكن من جاء بها إلى هذه المدينة؟.يدخلنا الكاتب إلى قلب الفاجعة هنا رائحة الموت ممزوجة مع الهواء والماء، الكل يحاول الهروب من الموت القاتل والقتيل، والدمار عندما ينفجر لا يرحم، تحت الأقدام تتقلص مسافات النجاة، وتتوسع القبور، زوايا الطرقات تصبح خنادق، والمنازل تتحول إلى مقابر جماعية، هذا الجنون الذي يعصف بيروت لصالح من ينشر كل هذا الدمار؟لماذا انقسمت الذاكرة الواحدة وتشظت إلى طوائف ومذاهب وعقائد تتصارع جاعلة من لغة الموت كتابها المقدس، ومن جسد الإنسان تجارتها التي تكسبها قيمة الدم على ارض لم تعد تعرف هوية انتماءها.ولكن من هو العدو؟هل هو الداخل الذي ربط كيانه بمراهنات خارجية صورت له بأن البقاء لا يكون الا لو ذهب الآخر وحتى وإن كان الثمن تمزيق امة ودمار بلد ؟! ام القادم من الخارج الذي وجد في هذه البلاد كل أمراض التمزيق والحقد والأحقاد والرغبة في إقصاء الغير؟؟ان ما يقدمه لنا الكاتب صنع الله ابراهيم في هذه الرواية حالة من الجنون التي تعصف بحياتنا، نحن من يصنع كل هذا الخراب والموت نحن الجريمة والضحية، عندما تصبح المذهبية والطائفية والمناطقية هي الأوطان، تصغر مكانة الإنسان وتتقزم قيمته الى ادنى درجات الأنانية، وتصبح جغرافية نفسه صورة طبق الأصل من مشروعه السياسي المدمر لان الذاتية هي من يرسم ملامح القادم ويكون السلاح وسيلة التنفيذ، ولكن على أي وطن يتصارعون؟ فالحقد لا يقيم العدل والحرائق لا توجد الإنسانية واغتيال الأوطان لا يخلق الزعامة، بل الكل يذهب ضحية هذه المراهنات الكاذبة والتصورات الخادعة فالخيانة تغدر بالجميع والدمار لا يقيم صادقة مع من تحالف معه والانتقام لا يصنع دستوراً للحياة، والروح الإنسانية لا توجدها المذابح والشلل يصيب الإرادة ويعمي البصيرة، لا يمكن له من قيادة مصير الإنسان نحو الخلاص.هذه الرواية برويتها العالمية لحالة الحروب الأهلية في الوطن العربي وما مر منها على بيروت، ترفض كل أشكال الاستحواذ الفردية على مساحة الوطن، وتحجيم الإنسان في دائرة المذهبية والمناطقية.الروائية أحلام مستغانمي تقدم لنا في ثلاثيتها (ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير) حكايات عن الإنسان والوطن، مسيرة البحث عن الحب والموت عن رفقة السلاح والكفاح والأحلام الجميلة عن الحرية وتحرير الأرض. وكيف كل هذا انقلب إلى تناحر ونفي وتصارع على المصالح وكيف ضاقت مساحة الوطن في زمن الحكم الوطني لتحول المناضل إلى مدان، والشهيد إلى صورة من الماضي نسقط عليها كمية من التراب زمن بلا خاتمة، نهايته مفتوحة على عالم غريب عندما جمع النضال الكل تحت سماء الفداء من اجل عزة الوطن.السلطة هي إغراء ورهبة وحق مكتسب لمن جلس على كرسي القيادة، أما من كانوا رفاق المعركة فقد ولى زمانهم فان كانت الأوطان تسع الجميع فان السلطة لا تسع الكل، وتعود الحكاية إلى زمن الاغتراب، الرحيل الهروب، الخوف ربما كان الغرب هو المخرج من سجن الوطن، هناك تطول رحلة الحنين والبحث عن وطن عاش في الحلم ولكنه انكسر عند صدمة الواقع، ومكان بديل تحاول النفسية التوائم معه وجعله مرحلة من العيش الساكن بعيداً عن خديعة الوطن الحر، في زوايا الاغتراب ووحشة الإنفراد وعلى طرقات المنافي يجد العربي الشريد بعضاً من الدفء والتأمل، الغرب مرة اخرى، هذا المستعمر الذي حاربناه، كيف يصبح هو الملاذ والحماية من قهر الأوطان؟هل يعقل أن يكون هنا فضاء الانطلاق في المنفى، وفي الوطن زنزانة التعذيب؟ كم هي غريبة هذه المفارقة على من حارب من اجل حرية الوطن ليجد نفسه في قفص الاتهام مطروداً أما لسجون الموت أو لخارج الأرض ليأكل المهجر ما بقي من قوة وإرادة في العقل والضمير ودفع النفس إلى منحدر الكفر بكل ما قدمت من تضحية من اجل ذلك الوهم والخديعة الكبرى، وهل كنا نرى بعيون غلفها رماد المعركة ورسمت خطواتها قطرات دماء الشهداء؟؟ لماذا في المنافي يعاد اكتشاف الوطن؟تلك المسافات البعيدة عن ارض الانتماء تجعلنا نمتلك القدرة على قراءة حقيقة ما جرى لنا في زمن النشوة والاندفاع خلف العواطف، والكاتبة أحلام مستغانمي في نصها الإبداعي لا تقف عند حد الكتابة للذكرى أو إعادة استرجاع تاريخ ما كان، بقدر ما تطرح أكثر من علامة تعجب واستفهام لما جرى، وكيف انقلب الأصدقاء على رفاقهم، ولماذا جنون السلطة حول المبادئ إلى عداوات؟ان هذه الشعوب التي سعت نحو الحرية ما كانت في مستوى مشروعها، بل هي اعجز من شعارات الديمقراطية ولكن عندما حكمت باسم الفردية والعودة إلى الأصول المناطقية والقبلية ؟!فالمعركة لم تكن مع المستعمر، بل هي مع الأزمة النفسية التي تجعل من القيادة انفراد بالحكم، وتتحول رفقة الكفاح إلى تناحرات داخلية لان مفهوم الوطن تقلص حجمه من مساحة كبرى إلى كرسي الحكم.إن هذا النص الروائي الرائع يرتقي إلى مستوى العالمية من حيث تصوير الجانب الاجتماعي والإنساني من تاريخ الجزائر، وهذه حالة من أزمة التاريخ والسياسة لم تمر بها الجزائر وحدها فقد قادت عملية التحرير من الاستعمار والصراع على السلطة وكيف انقلبت أحوال رفقة السلاح عندما تسلموا مقاليد السلطة.رواية الكاتب حيدر حيدر (وليمة لأعشاب البحر) تذهب إلى قلب زمن التحول والانقلاب وسقوط مشاريع الحلم الوطني، وكيف يصبح الإنسان الذي سعى لخلق وطن الكرامة والعزة ومن مناضل من اجل الحرية إلى مجرد كائن مريض نفسياً مطارد مثل الحيوان الأجرب، حيث يسقط في دوامة الإدمان والشهوة، والهروب من تاريخ الأمس بعد اكتشاف الأكذوبة الكبرى، تحرير الأرض وما بين الموت في سجون الوطن والضياع في المهاجر، تعصف قوة الصدمة بإرادة من كان هو قوة التحدي وتتصدع الأرض من تحت الإقدام، ماذا حدث؟.في تلك الزوايا المظلمة من قاع الحياة حيث تصبح الرغبات الجسدية هي المخدر الذي يسكن آلام النفس وتنحدر قيمة الفرد إلى أدنى درجات الرذيلة، يصبح احتقار كل شيء هو الثورة الجديدة عند هؤلاء الذين سقطوا من معادلة الثورة والسلطة.فالتاريخ ينقلب لديهم من بطولة وتضحية إلى سخرية إلى حد الاحتقار وحتى الموت لم يعد فاجعة بل مهزلة ماذا أخذنا من النضال غير الضياع والتشرد، وأصبحت عقوبة المنفى اشد من أوجاع سجون الاستعمار، أما الظلم لم يسقط ولكن الإنسان هو من تهاوى ووقع في حصار الادانة. والتجريم، في هذا الخندق المحرق من زمن ضياع الهوية تنغلق النفس على أحادية رؤيتها للعالم ويصبح تاريخها هو الغفلة التي كست طموحاتها وقادتها في طرقات صورت لها أن الفجر قادم على يديها، ولكن ما جاء غير الرماد الذي احرق البصيرة وألهب جروح القلب فهم مجرد جثث، وليمة لأعشاب البحر، حالة تعفن تلقى في أماكن الجيف، ليس لها من ثمن.طالما سقطت كل الحقائق، لماذا لا تسقط معها كل الأشياء؟فهل بقى شيء يستحق القداسة أو الاحترام؟إن العجز هنا ليس عجز الفرد بل عجز المجتمع الذي تجمد عند درجة الصفر، وانتقلت مقدرته من المواجهة إلى الهروب، غير أن هذا الهروب لا يصنع المخارج بل يدخل الإنسان في مزيد من المتاهات والاحتراق.هذه الرواية علامة تدل على تطور مسار النص الروائي العربي الذي ينقل معاناة إنسان هذه الأرض إلى مسارات كونية عالمية، لان وجع الفرد في هذا الزمان حجمه يشمل كل الناس، والمتاهة مازالت تطول طرقاتها إلى ذلك المجهول الذي لا يحمل ملامح لما هو قادم، وهذه الأزمة هي صورة لذاتنا المنكسرة، المرايا المتصدعة التي لا تكتمل فيها كل الأبعاد لوجه الحقيقة، بل ننظر فيها عمق الجريمة وتعدد صورها التي صنعتها لحظات الجنون والانتقام.لقد أصبحت الرواية العربية الحديثة موسوعة العرب في الراهن، وهي في تطور مستوياتها تسعى إلى رفع مكانة إبداعها إلى حيث العالمية لتكون رسالة الحضارة الإنسانية، وضمير التاريخ المعبر عن مشاعر الأمة ورؤيتها لهذا العالم.فقد تجاوزت الرواية العربية لتقف مع إنتاج حضارات الشعوب التي كان لها السبق في ارتقاء هذا اللون من الإبداع الأدبي صاحب المنزلة الكبرى في وعي الذات والذاكرة، وسوف تظل أساليب وطرق تطوير الكتابة الروائية العربية الحديثة مفتوحة متجددة مع أحداث الواقع العربي.