منذ أيام وصلتني من الشاعر اليمني المعروف إسماعيل بن محمد الوريث نسخة من «الأعمال الشعرية الكاملة» وهو الكتاب الذي نشرته وزارة الثقافة والسياحة في صنعاء عام 2004م أي العام الذي كانت صنعاء فيه عاصمة للثقافة العربية.. والديوان في 286 صفحة من الحجم المتوسط ومقسم إلى أربعة أجزاء هي: « مراثي الشهب» ويحوي نحو خمسين مرثاة كتبت بالشكل البيتي ثم « وشاح الحرير» ويحوي 14 قصيدة وجدانية تفعيلية الشكل، ثم قصائد فلسطينية ويحوي 6 قصائد من وحي القضية الفلسطينية وقد كتبت التفعيلي واخيراً «قوافي الجمر» وهو مثل القسم الأول مكتوب بالشعر البيتي ويحوي أكثر من 60 قصيدة موزعة على 4 أقسام هي جمرة الوطن وجمرة العشق وجمرة الأصدقاء وجمرة الطفولة وهذه العناوين الأربعة توحي بمواضيع قصائد هذه الأقسام وقد أهدى الشاعر هذه الأعمال الكاملة للعلامة المفتي احمد محمد زبارة.ولد الشاعر إسماعيل الوريث في مدينة ذمار عام 1952 وحصل على ليسانس اللغة العربية وعلى الدبلوم العالي في الأعلام من جامعة صنعاء وكان أميناً عاماً لاتحاد الأدباء اليمنيين من عام 1993 حتى عام 2001. والى جانب عمله كباحث في مركز الدراسات والبحوث اليمني فهو كاتب نشيط له زاوية معروفة في صحيفة 26 سبتمبر نبوج الياسمين.وله عدة دواوين منها « الحضور في أبجدية الدم – عام 1984 و» ليلة باردة « -عام 1986 و»عذابات يوسف بن محمد» ولكنه لم يجمع دواوينه كما صدرت لتشكل أعماله الشعرية الكاملة بل أعاد ترتيب القصائد فجاءت بالشكل الذي أسلفنا تفصيله والقصديه في الأجزاء من حيث المواضيع واختيار الشكل لاتخطئها العين.مالذي يجعل شاعراً يبدأ ديوانه بالمراثي؟ فمعظم الدواوين التي اطلعت عليها بما فيها دواوين والدي د.محمد عبده غانم ودواويني ادة تجعل المراثي في أواخر الديوان، ربما لان قراءة الغزل قبل المراثي أسهل على النفس من قرأة الغزل بعد المراثي.. والتي تدخل المرء في عالم الشعور بالأسى أو عالم الروحانيات.لاشك أن في الأمر دلالة على طبيعة هذا الشاعر الحساس الذي يتألم كثيراً كلما رحل قريب أو صديق أو شاعر أو حتى قريب لأحد أصدقائه والذي يقرأ هذه المراثي يحس بالعاطفة الجياشة التي يعبر عنها بالشكل البيتي المتدفق بالموسيقى الحزينة ولعل الشاعر قد اختار افتتاح أعماله الشعرية الكاملة بالمراثي لأنه يشعر بأنها من أقوى شعره وهو ككل شاعر يحب أن يقدم نفسه قوياً في شعره إلى القارئ كما أن الشاعر يحب هذه القصائد التي تعبر عن وفائه للراحلين من الأحبة والوفاء جلي في هذه القصائد والشاعر من الذين يستجيبون للمآسي بشكل خاص.يفتتح الديوان بقصيدة عنوانها» النباشون» ومنها، وهو يتحدث عن شرطي المرور الذي ينظم السير نحو مقبرة خزيمة : هدموا السور ياخزيمة قهرا [c1] *** [/c] واعتسافا فضج فيك الرفاتماكفاهم تلك القصور المنيفات وتلك الساحات والعرصات وأرادوا ان يجمعوا الحي والميث بجسر تمضي به العربات.وهم مـن تملكـوا كـل شبر [c1] *** [/c] فلصنعــاء عندهــم ثــــاراتأيها المشفق الحريص على الماشين بالله اين منك المشاة تلك صنعاء بالقمامـات حبلـى [c1] *** [/c] حاصرتهــا الأوساـخ والآفـاتأن جور السلطان قد كان في الأرض قديما منذ كانت السلطاتأما القصيدة الثانية فكانت مرثية لوالده العلامة من بن حسن الوريث رحمه الله ونقتطف منها بعض الأبيات دون تسلسل:عاش سبعين شامخاً لم يطأطـئ [c1] *** [/c] راسـة والحياـة ذل وغــابعمره للعــلا فتــيـــا وشــيخــا [c1] *** [/c] لم تــدنس أخلاقـه الألقـاب عاش كالنسر بينه قمـة المجـد [c1] *** [/c] وان ســارا لـدروب السحــاب نجم آل الوريث حلمـا وعلمـا [c1] *** [/c] طــاهـر الذيــل قــانت أوابقــال لي والـدي وبين المنايــا [c1] *** [/c] وعذاباتـه الكبـار انتسـابعش عزيـزاً او مت كريما فمهمــا [c1] *** [/c] طمــس العـدل ظالـم كـذابسيغني فجر جديـد وينمــو [c1] *** [/c] شجـر زهـرة الأماني العـذابثم يعاهد أباه على ان يكون ابا حانيا لإخوانه وأخواته ويحدد بعضهم بالاسم:سيعيشون مثلمــــا كنت منهـــــم [c1] *** [/c] لن يضامـــوا في حقهم او يصابوا يا ابي لن أكـون ابنـك لو أهملتهــم [c1] *** [/c] هـم والعـلا هــو انتـــدابمثلما كنت لي حبيباهم الان لهم في الفؤاد حب مذابومعي عمهـم عظيـم السجايــا [c1] *** [/c] احمـد مـن لـه يشـد الركــابوالقصيدة الثالثة في رثاء البردوني وعنوانها» آخر الكبار»يانصير المعذبين علــى الأرض [c1] *** [/c] ويامـــن كانت حياتــك عســرالـم تكن شاعــر الملـوك [c1] *** [/c] ومـاكنت وأنت الفقـــير تطـلـب أجــــرالم تبرر يوما لطغيـــان طاــع [c1] *** [/c] اوتحــابي من يحكـم النــــاس قســــراياكفيفا هـدى الهــداة فأضحـى [c1] *** [/c] علمــــا طــــاول الشواهــــق فخــــراسيدي آخــر الكبــار سلامـــا [c1] *** [/c] مــــن محب أجرى من الدمــــع نهـــــراوالقصيدة الرابعة «عبرة وفاء» يقدمها إلى د.عبدالعزيز المقالح في وفاة شقيقه محمد صالح المقالح رحمه الله ومنها:ياسيد الشعر من صاغت قصائده [c1] *** [/c] أحـــلامنا إذ آتت في أروع الصورومن تغنى بآمال الجياع ولم يجبن [c1] *** [/c] ومـازال يحمد بالأعمال والاثــرمضى محم`د محموداً بسيرتـــه [c1] *** [/c] والمــــرء سيفا غيــر منكسرياشاعر الفجر اين الفج`ر كبلـــه [c1] *** [/c] ليـــل المغـــول وغطاه ملم ينر وسفح صنعــاء قفــــــر والبلاد خلت [c1] *** [/c] مـــن النعيم وطاب العيش في سقر لولاك لم نحتم`ل هذـــــا الجحيم [c1] *** [/c] ولا ارتضينا حياة الخــوف والضجر فأنت أجمل مافيها نــــــدى ودفاً [c1] *** [/c] وانـــــــت أعبق مافيها مـــن الزهر وهو في هذه الأبيات يسجل لنا الدور الثقافي الهام الذي يلعبه صديقه د. المقالح في خلق جوً ثقافي يساعد الشعراء الحساسين والأدباء على احتمال مصاعب الحياة وشطف العيش في صنعاء.. وما اسماه بليل المغول.وتتوالى المراثي على هذا النسق العالي من الحرارة والشعور بالحسارة في الأهل والأصدقاء والشعراء ومنهم عمه احمد الوريث والشاعر القرشي عبدالرحيم سلام والروائي زيد مطيع دماج والأديب السياسي عمر الجاوي والشاعر عبدالرحمن القاضي والأديب يوسف الشحاري والشاعر الشعبي عبدا لله سلام ناجي صاحب قصيدة نشوان، وكان عبدا لله سلام ناجي زميلاً لي في الفصل في كلية عدن الثانوية وكان قد بدأ محاولاته الشعرية في تلك الفترة ولم احظ بلقائه منذ تلك الفترة حتى وفاته رحمه الله كما يعزي صديقه الشاعر حسن عبدا لله الشرفي بعدة قصائد في فقدانه لبعض أقاربه ويفعل مثل ذلك مع عدد من الأصدقاء كما يرثي احمد البشاري والشاعر يحي البشاري والشاعر الأستاذ احمد المروني الذي كان نائباً لمدير مركز الأبحاث والدراسات اليمني الذي يرأسة د. المقالح (ومن الباحثين فيه شاعرنا اسماعيل الوريث) وكان المروني يعمل سفيراً لليمن في الإمارات في الفترة التي عمل فيها والدي مستشاراً ثقافياً فيها. ويرثى شاعرنا احمد عبدا لله القربي وهو أخ للدكتور ابوبكر القربي وزير خارجية اليمن وزوج شقيقتي الدكتورة عزة أول خريجة في تاريخ اليمن ومن أبيات القصيدة والشاعر متأثر في بعض عباراته بالمتنبي.ومن عرف الأيام معرفتي بهــــا [c1] *** [/c] و بـــالناس لن يلقى أخا كأبي بكرطبيبا يداوي الجســم مـن علــة بــه [c1] *** [/c] ويتســـل مابالنفس مـــن ألــــم مــــرتسامت بــه أخلاقه وفعالــه [c1] *** [/c] فشع بافــــاق السياسة كالبـــدرولم أر في أهل الوزارة واحـدا [c1] *** [/c] يشابهـــــه في العلم والحلم والصبــرتواضعه جــم وجــم حيــــــاؤه [c1] *** [/c] كــريم المحيا أصيد طيب الذكرأبابكر يازين الرجال ومن بــه [c1] *** [/c] تهـــــون الرزايا يااشد من الصخرتصبر فقد شاء الإله وما قضت [c1] *** [/c] مشيئته في الخلق لابد ان يجرىكما يرثي الشاعر القاضي عبد الرحمن الإرياني رئيس اليمن الأسبق ويذكر لمحات من حياة ذلك الرجل الكبير وكيف كاد سيف «الوشاح» سياف الإمام أحمد أن يضرب عنقه:وقد هم «الوشاح» به وطارت [c1] *** [/c] رؤوس للرجــال وضاح حــــق ولــولا الحــظ كان قتيـــل رأي [c1] *** [/c] فخلصه مـن الرحمن عتــقويذكر أدبه وشعره وفضله في الرئاسة وتخليه عنها دون حقد كما يذكر كيف استقبله في الشام بلطف حيث كان قد اختارها منفى بعد تخليه عن الحكم.كما يرثى الشاعر الزعيم السياسي جار الله عمر مخاطباً قاتله:ماذا فعلت لحــاك اللـه أي يـــد [c1] *** [/c] مـــدت إلى من أدان العنف وانتقــــدامن قال في الخطبة العصماء قولتــه [c1] *** [/c] مبـينـــاً أم صبـر الشعب قد نفــــدالا للسلاح ولا للعنـــف فانطلقــــت [c1] *** [/c] رصاصــــة الغدر في قلب يفيض هـدىخمسون مرثية بكاملها على هذا النسق المتدفق تكاد تشكل نصف الديوان تذكرنا بقول حافظ إبراهيم:إذا تصفـــحت ديواني لتـــقرأنـــي [c1] *** [/c] وجدت شعر المراثي نصف ديوانيولعل إسماعيل الوريث مثل حافظ إبراهيم يتميز في شعر المراثي لأنها تناسب طبيعته التي تخزن على الراحلين الكبار والذين خدموا أمتهم.ونتوقف أخيراً مع مرثاته المعنونة «خطب تلا الحطب» والتي وجهها «إلى روح سيد الشهداء أخي الكبير الأستاذ يحيى محمد المتوكل» الذي كنت قد شرفت بزيارته لي في دبي قبل نحو عشر سنوات وأخذته في رحلة في زيارة لميناء جبل علي الذي أشاد به كثيراً وكان برفقتنا وزير خارجية اليمن د.ابوبكر القربي وقد قرأت لهما بعض شعري فطرب المتوكل حتى صفق فقد كان رجلاً عاطفياً رائعاً في عفويته:هذا الذي كان بالتوحيد متشـــحــــــا [c1] *** [/c] قـــضى بلحج قريب الشط من عدنفخيم الحزن في صنعاء وانتشــرت [c1] *** [/c] سحائب الحزن في الأرياف والمدن..درب التواضع درب كــــان يسلكـــــه [c1] *** [/c] غأنـــه سمة فــي طبعــــه الحسنإذا رأيت وجـــــوه القـــــوم عابســــــة [c1] *** [/c] تــرى محياه طلقاً غير محتقـــنأباً محمد يــــــا عــــــــوني ومدخــــري [c1] *** [/c] عنــــد الشدائــــــد هذا الفقد اوجعني لم تنسني وصداقاتـــي بـلا عــــــدد [c1] *** [/c] وقــد تنكـــر لي من كان يعرفنيلم الحياة وقـــد غــــــادرت يا جبــــــلاً [c1] *** [/c] مـــن المكـــارم والإيثار والمننيا سيدي وأخــــي ما كــــل ذي نسب [c1] *** [/c] كـــــلا ولا حسب يرقى إلـــــى القننوهو هنا يشير إلى نسب المتوكل الهاشمي.هذه النماذج التي ذكرناها تبين أسلوب إسماعيل الوريث المتدفق بعواطفه الجياشة ومشاعره نحو أحبابه وأحباب أحبابه ونحو الرجال الأعلام والأدباء الذين أثروا الحياة العامة والثقافة في اليمن. ونحن نكتفي في هذه العجالة بالحديث عن المراثي لأهميتها ألتفعيليه الرقيقة في حاجة إلى وقفات وربما يحالفنا الزمن للحديث عنها في مستقبل الأيام.وتحية لهذا الشاعر المبدع الذي كنت التقيته في الشارقة في إحدى المناسبات الأدبية التي دعي لها ثم في الخرطوم العاصمة الثقافية العربية قبل عامين عندما دعينا تلك المناسبة إلى العاصمة المثلثة وقضينا أياماً أدبية وثقافية ممتعة فيها.
|
ثقافة
وقفة مع مراثي الشهب للشاعر إسماعيل بن محمد الوريث
أخبار متعلقة