في مجتمع يعاب فيه على الفتاة الكلام عن العواطف والبوح بالمشاعر تحت طائلة الممنوع برز في موريتانيا نمط شعري نسائي اختص بالتغزل في الذكر وإبراز صفاته، يسمى محليا بـ «التبراع»، وهو كلام منظوم تنشده الفتيات تغزلا في محبيهم بعيدا عن أنظار الرجال وداخل حلقات النساء وفي مجالس معينة. والمرأة تشدو بهذا النمط الشعري الشعبي عندما تعشق رجلا فتحملها مجموعة من العواطف والأحاسيس إلى نظم «التبراع»، الذي تتنوع مواضيعه من إيراد الخصائص والسمات الفيزيقية ووصف خصاله وأخلاقه والتأسف على غيابه أو عدم اكتراثه بما تشعر به. انه إفصاح علني وانقلاب في الأدوار رغم أن الباحثين في الثقافة الشعبية الموريتانية يرون بأن هذا الابداع ليس عيباً فهو تعبير عن العذريَّة في العلاقة وعن معاناة داخليَّة وانه نتاج طبيعي لوضعيَّة متميزة للمرأة في بلد لا تزال الحياة البدوية بمعانيها ودلالاتها النقية وقيمها الأصيلة تتجلى فيه بأبهى صورها.ولأن موضوعه الحب والعواطف فهو يقال في الخفاء وعلى بعد من الأقارب كما أنه لا يقال في حضور المغنين لكي لا ينتشر ويصبح على أفواه الناس. هذه السرية التي أحيطت بالشعر النسائي الحساني لم تمنع من وصول بعض روائعه التي تتداولها العامة على نطاق واسع فأرَّخت بالتالي لشخصيات وحقب وأحداث تمجد سيدات ورثن تقاليد الشعر الفطري الخالص. والشعر الحساني، منسوب إلى أولاد حسان، وهم من بطون معقل استوطنوا جنوب المغرب. تأسس هذا النمط الشعري سنة 250هـ باللهجة الحسانية لأغراض مختلفة كالمدح والوعظ والتوحيد والغزل والرثاء. وهو شعر منظوم له خمسة أبحر وأوزان بسواكن ومتحركات لا يمكن تجاوزها في النظم ويتكون البيت فيه من أربعة أشطار يسمى الواحد منها «تافلويت» ويسمى البيت كله بـ«الكاف»، ويكون لشطرية الأول والثالث نفس الروي ونفس الحركة، ولشطرية الثاني والرابع روي وحركة واحدة. وإذا زاد البيت على ستة أشطر يسمى «طلعة» أي قصيدة، وغالبا ما تنظم للمدح والفخر. واللهجة الحسانية يكثر فيها تسكين الحرف الأخير كما أنها تحتوي على بعض الكلمات القليلة التي لا أصل لها في اللغة العربية. ويختلف الشعر الغزلي من نسائي الى ذكوري، فالشاعر حين يقف على الصفات التي تعجبه في المرأة مجزأة، فإنه من مجموع ذاك الشتات تنشأ صورة المثل الأعلى للجسم كله، عكس الشاعرة التي تنسج في الغالب شعراً يعبر عن دماثة الأخلاق وحسن التصرف. وتطغى على المجتمع الموريتاني تراتبية اجتماعية تصنف القبائل والعشائر إلى صنفين «العرب» الذين اشتهروا بقيادة الحروب وامتلاك السلطة ويسمون حملة السلاح، و«الزوايا» وهم أهل علم وورع، ويطلق عليهم حملة القلم، إضافة إلى التابعين من رعاة وصناع وعبيد و«إيكاون»، وهم الذين احترفوا الغناء والطرب وكانوا يعيشون متنقلين بين القبائل المحاربة، مادحين مكتسبين، ويشكلون حاليا فرقا عصرية. هذه التراتبية لم ترحم هذا النمط الشعري من الخضوع لها، فالتبراع تنظمه الفتيات المتحدرات من القبائل المحاربة وكأنهن يستمدون شجاعتهن وفصاحتهن من قوة نسب المحاربين.التبراع القديم كان يجري في شعاب الأودية وعلى الكثبان الرملية وفوق الربى وبجوار المضارب، ويمتاز بالحشمة وتطغى عليه الرمزية واللغز، أما الجديد فقد وظف ما طرأ على الحياة من مواقف وتصرفات، ويمتاز بالوضوح والبساطة، ويتضمن تعابير معاصرة وقضايا راهنة. ونظرا لاعتبارات جمالية فإن الكثيرات يفضلن التبراع القديم. أما الفتيات المعاصرات فيحبذن الجديد.وفي علاقة بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية عرف التبراع اتجاها عند بعض الشاعرات اللائي أصبحن يتغزلن برجال بعيدين عن المجتمع الموريتاني كالرؤساء والزعماء السياسيين وأبطال المسلسلات.وانتشار تداول الشعر إنشاءً وإنشاداً في موريتانيا، راجع بالأساس لسلطته الاجتماعية والثقافية والتي جعلت منه كياناً وعالماً يملأ فراغ الصحراء المترامية الأطراف، حيث أمضى الصحراوي حياته في نظم الشعر فتغنى به حاديا وراء قطعانه، وعلى جنبات الغدران وتحت أشعة القمر المتلألئ أو أثناء جلسات المسامرة والمؤانسة كما كان حديثه نثرا بليغا حسن السبك والتعبير، وحتى جهاده مع الطبيعة بتموجاتها حرك فيه الكوامن، فجاء شعره معبرا عن ملكة وذوق رفيعين. ومع تعاقب الأزمنة يتجدد العهد بين رمال الصحراء التي تمتص رحيق قصص العشق وبين شعراء طابت سرائرهم فطرة وصفت قرائحهم طيبة.
|
ومجتمع
الموريتانية تتغزل برجلها
أخبار متعلقة