نادرة عبدالقدوس مع تصاعد ممارسات التعصب والعنف والإرهاب ومعادة الأجانب ومع اشتداد التقويض للحريات واضطهاد الأقليات ومع التباهي الفج للقوة العسكرية والتدخل السافر في شؤون البلدان الضعيفة ومقدرات شعوبها واستخدام أشكال المعاداة للثقافات الأخرى واحياء الثقافة النازية والفاشية والصهيونية .. اصدرت منظمة اليونسكو الإعلان العالمي للتسامح وابعاده الاجتماعية والدولية ومظاهره الواجبة في التعليم والثقافة وعلاقات الأفراد والدول على السواء.وقد جاء ذلك الإعلان بناءً على توصية تقدمت بها منظمة اليونسكو إلى الجمعية العامة لأمم المتحدة ليكون عام 1995 م عاماً للتسامح.وفي مقال بحثي أدبي يستحق القراءة والتمعن المرسوم بـ "ثقافتنا.. بين التعصب والتسامح" يقول الدكتور جابر عفور عن التسامح بأنه: "واحد من المفاهيم الحديثة في ثقافتنا، وجد فيها بعد قرنين على الأقل من اكتماله في الفكر الأوروبي وهو بوصفه الحالي ترجمة عربية معاصرة للمصطلح أو المفهوم المستخدم في اللغات الأوروبية التي تأثرنا بثقافاتها، وذلك اعتماداً على أصل لاتيني له امتداداته في الثقافة الانجلوسكسونية المقترنة باللغة الانجليزية وهي لغة تصل في الاستخدام بين الكلمتينTleance,Toleratoon للدلالة على معان متداخلة لكن من نوع من التمييز بينهما وذلك على نحو يغدو معه الـTolerance قرين العموم الذي يدل على المطاوعة والمرونة والتقبل واحترام آراء الآخرين ومعتقداتهم وتنصرف دلالة الـ Toletion إلى التخصيص فتقترن بسياسة التسامح الديني التي تعني أمرين أولهما: تقبل المغايرة في فهم الديانة الواحدة بما يعدد طوائفها أو مللها ونخلها اذا استخدمنا مصطلح الشهرستاني القديم وثانيهما: تقبل الديانات المختلفة واحترامها حتى من منظور الدين الواحد الذي يقبلها جميعاً ما ظلت ديانات سماوية فيعترف بهما ويحدد العلاقات التي تصل بين المؤمنين به وغيرهم من المؤمنين بهذه الديانات".وانطلاقاً من وثائق منظمة اليونسكو التي أصدرتها للإعلان عن عام التسامح يوضح د. عصفور في مقاله مفهوم التسامح الذي ورد في هذه الوثائق وما تهدف اليه منظمة اليونسكو في إعلانها العالمي في ثلاث نقاط نذكر هنا موجزاً لها:أولاً: التسامح هو احترام وإقرار وتقرير التنوع الثري لثقافات عالمنا، ولاشكال تعبيرنا واساليب ممارساتنا لإنسانيتنا ويتعزز بواسطة المعرفة والانفتاح والتواصل مع الآخرين وحرية الفكر والعقيدة والدين والتسامح مطلب سياسي وقانوني قبل ان يكون واجباً أخلاقيا فحسب.ثانياً: ليس التسامح تنازلاً او تعطفاً أو تساهلاً، وانما هو ـ في المقام الاول ـ إقرار بحقوق الإنسان العالمية واحترام للحريات الأساسية للآخرين.ثالثاً: التسامح هو المسؤولية التي تتدعم بها حقوق الإنسان وأنواع التعددية بما فيها التعددية الثقافية كما تتدعم به الديمقراطية وسيادة القانون.. ويستلزم نبذ النزعات الدوجماتية ( التعصبية) والاستبدادية وتأكيد المبادئ المنصوص عليها في مواثيق حقوق الإنسان.وعلى المستوى التاريخي يشير د. جابر عصفور إلى المراحل التي مر بها مفهوم التسامح وهي مرحلة دينية واستمرت طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر.وقد اقتربت بحركات الإصلاح الديني الذي نهض به أمثال مارثن لوتر كنج وكالفن في أوروبا.والثانية مرحلة مدنية وتبدأ من القرن الثامن عشر مقترنة بالفلسفة الليبرالية ودعوات الديمقراطية وقد تأسس مفهوم التسامح في هذه المرحلة بوصفه قيمة إنسانية أساسية لا يمكن ان يتقدم البشر دونها ولا تحقق الديمقراطية إلا بها، مؤكداً ان مفهوم التسامح في هذه المرحلة اتسع بحيث انتقل من الدائرة الدينية إلى الدائرة المدنية وذلك بجهود مفكرين أمثال جون سثيورات التي طورها كارل بوير لتأكيد محتواها المعرفي الذي يقوم على أساس من تأكيد معنى النسبية وانه لا احد يحتكر الحقيقة وان الحوار العقلاني كفيل بتصحيح أفكار البشر التي ينتجها التعصب.إلا أن د. عصفور يعيد الذاكرة إلى الخلق ليؤكد ان اهتمام العرب بقضايا التسامح كان موجوداً قبل الإعلان العالمي وبعده وقد جاء في شكل موجتين فكريتين بينهما فارق زمني كبير ـ حسب رأيه ـ اما الموجة الأولى "فترجع الى القرن التاسع عشر.. وكانت رد فعل على انماط التعصب الذي اقترن بالطائفية المسيحية في لبنان وأغلب الظن ان فرح أنطون هو أول من افاض في تراثنا الفكري الحديث في بسط هذا المبدأ بوصفه القاعدة الأولى للدولة المدنية الحديثة" ويذكر د. عصفور أن فرح أنطون قام ببلورة فهمه للتسامح في مناظرة مع محمد عبده مفتي الديار المصرية حول ما كتبه الأول عن ابن رشد في مجلة "الجامعة" في مطلع القرن العشرين وهي مناظرة افضت الى ضرورة تحديد معنى الدولة المدنية وعلاقتها بمبدأ التسامح.ويورد د. عصفور في مقاله ان فرح انطون نبه الى أن مفهوم التسامح جديد على الثقافة العربية، مشيراً إلى ان الانسان يجب أن لا يدين أخاه الانسان على اساس من المعتقد الديني لان الدين علاقة خصوصيه بين الخالق والمخلوق والإنسان يوجد من حيث هو إنسان فحسب بقطع النظر عن دينه ومذهبه ولذلك فكل إنسان مواطن، بمعنى أنه صاحب حق في خيرات الأمة ومصالحها ووظائفها الكبرى والصغرى حتى رئاسة الأمة نفسها. وإن الإنسانية هي الإخاء العام الذي يجب أن يشمل جميع البشر ويقصر دون كل إخاء.أما الموجة الفكرية الثانية لتأكيد حضور التسامح في ثقافة العرب فترجع حسب رأي عضور أيضاً إلى التسعينات من القرن الماضي وما قبلها بقليل مشيراً إلى كتاب جون لوك "رسالة في التسامح" الذي قدمه المجلس الأعلى للثقافة في جمهورية مصر العربية ونشر في القاهرة عام 2000م وقبل ذلك نشر المعهد العربي لحقوق الإنسان وبيت الحكمة في تونس كتاباً بعنوان "دراسات في التسامح" اعدها عدد من الكتاب والمفكرين التونسيين كما ذكر د. جابر عصور في مقاله دراسة لمصطفى سويف التي نشرت في مطلع عام 1992م مؤكداً معاني التسامح وحاجتنا الملحة إليه ودراسة مصطفى سويق تأتي في سياقها انجازات علم النفس الاجتماعي وبحوث الشخصية التي ازدهرت منذ أواسط الخمسينات في الولايات المتحدة وأوربا. كما يتحدث فيها عن الشروط الاجتماعية للإبداع، مؤكداً أهمية "التسامح" ويصله بطبعة السلوك الذي يقوم أساساً على التقدم الاجتماعي للاختلاف، أي أن اتقبل حقيقة أن "الأخر" يختلف عني في الرأي وفي الاتجاه وأي شكل سلوكي أخذاً في الاعتبار هذه الحقيقة التي لابد أن تقترن بحقيقة أخرى مؤداها ضرورة الحفاظ على التعاون مع هذا الآخر، لأن كلينا مضطر إلى العيش المشترك في حقل اجتماعي واحد. وإذا كان إدراك هذه الحقيقة مولداً لما يصطلح عليه باسم "السلوك الاجتماعي التكاملي" فإن غيابها يفضي ا لى نقيض هذا السلوك أي السلوك التسلطي القمعي الذي يهدف إلى محو ما يميز الآخر، أو إلغاء ما يجعله متفرداً، ومن ثم تحويل هذا "الآخر" أو حتى "الأنا" الى صورة مكررة من كل يوم يقوم بفعل التسلط ا لقمصي على "الأنا" أو "الآخر" على السواء.ويعيد د. جابر عصور ا لى الذاكرة اهتمام العرب المفكرين بقضايا التسامح وتقبل "الآخر" قبل صدور الإعلان العالمي ليوم التسامح عام 1995م وذلك من خلال عدد الاصدارات الفكرية في هذا المجال لمفكرين عرب منذ الثمانينات من القرن الفارط ويستدرك بقوله: لايزال هذا الاهتمام هامشياً الى حد كبير ولذلك لانجد دراسات كثيرة عن جذور التسامح أو أصوله في ثقافتنا الإسلامية العربية ، علماً بأن هذه الثقافة أكدت بعض لوزام التسامح ومبادئه في نصوصها الدينية وسنة نبيها الكريم ويقترن ذلك بالمبادئ التالية:1- المجادلة التي هي أحسن.2- الدعوة الى التعارف بين الشعوب3- عدم الإكراه في الدين وإقرار التعددية.4- الاعتراف بالديانات السماوية المغايرة، وتقدير انبيائها والسماح لمعتنقيها بالاستمرار في عقائدهم وشعائرهم".والحقيقة أن د. جابر عصفور في مقاله البالغ الأهمية فند أيضاً مفهوم التعصب وجذوره موضحاً اقتران التعصب بالتسلط على مستوى الفرد والجماعة وكذا اقترانه بالدولة.. كما أوضح ماهية التعصب الاجتماعي وتأثيره على البناء الاجتماعي، والحراك الاجتماعي، كذلك تحدث عن التعصب الثقافي وقمع محتكري الرأي للمخالفين لهم وما يفضي ذلك الى دوجما مقدسة تؤدي الى الاستبداد السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي.إلا أننا في الأخير نؤكد أن ثقافتنا الإسلامية غنية وثرية بأشكال التعامل الإنساني الحضاري منذ بعث نبينا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق. ولقد أمرنا ديننا الحنيف بضرورة احترام الآخر، والتحاور معه باللين، والتسامح ، والمغفرة حتى وإن كان الآخر على معتقد آخر ويؤمن بدين آخر ألم يقل تعال عز وجل: "لكم دينكم ولي دين"؟ ورسولنا الكريم وتعامله مع ا عدائه الذين كانوا يقاتلون وينصبون له العراقيل لتيوقف عن دعوته إلى الدين الجديد ، ألم يسامحهم ويعف عنهم قائلاً : اذهبوا فأنتم الطلقا ؟وأؤيد في هذا الشأن دعوة د. جابر عصور الى إخراج هذه المبادئ من الظل والثبات الى النور والممارسة الحقيقية لها ، لأنها تصلح أن تكون منطلقاً لإصلاحات دينية لانزال نتتظرها، ولخطاب ديني منفتح لانزال نتطلع إليه.
|
ثقافة
إضاءة لما ورد في "ثقافتنا.. بين التسامح والتعصب" لـ د. جابر عصفور
أخبار متعلقة