مع تتابع الانفجاريات السياسية والأمنية في منطقتنا العربية والإسلامية، ومع الدخول الأمريكي والبريطاني الكبير عسكريا وسياسيا وإعلاميا على هذا الجزء من مشاري الذايدي العالم، أصبحت الدراسات التي تصدرها مراكز الأبحاث الغربية والدوريات والمطبوعات غزيرة ومتنوعة.وبلا ريب فإن هذه الدراسات متفاوتة في موضوعيتها أو في درجة تلوينها الإيديولوجي، ولكن كثرتها وتتابعها تدل على أن لدى الغرب القدرة على الحركة والدينامية ونقد الذات، وعدم الجمود عند "الأساليب" أو "عبادة الأسلوب"، ليس من أجل أن البحث عن الحقيقة فضيلة وحسب، بل لأن الحقيقة هي التي تجدي السياسي والدول الغربية، أي أن الفائدة العملية الصرفة هي التي تقود عملية البحث عن القراءة الصحيحة، أو محاولة الوصول إلى هذه القراءة.في عدد نوفمبر/ديسمبر، من مجلة شؤون خارجية الأمريكية، كتب رئيس مجلس الشؤون الخارجية ريتشارد انهايس، عن مستقبل السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط قائلا، إن عصر الهيمنة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط قد انتهى وبدأت مرحلة جديدة. ويعتقد الكاتب أن تشكيل المرحلة الجديدة سيعتمد على عناصر جديدة ومتعددة للتأثير على منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يعني ان على الولايات المتحدة أن تعتمد على الدبلوماسية وليس على اليد العسكرية للمحافظة على مصالحها.ثم يفيض الكاتب في استعراض تاريخ المنطقة السياسي وعلاقة المنطقة بالغرب مستذكرا لحظة انهيار الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم مرحلة الاستعمارين الفرنسي والانكليزي إلى لحظة انتهاء الحرب العالمية الثانية وما صاحبها من صعود الوعي القومي والمرحلة السياسية القومية في المنطقة العربية بكل أحلامها وعنفوانها، ثم مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، ثم مرحلة حرب 1967 وما بعدها، وإدراك الغرب، والرأي العام فيه، لمدى أهمية المنطقة من منظور الأمن الاقتصادي باعتبار النفط هو دم الحياة المعاصرة.ومع نهاية الحرب الباردة، وفقا للكاتب، أصبح النفوذ الأمريكي في ذروته، وتجلى ذلك النفوذ في حرب تحرير الكويت... ثم السعي الأمريكي الحثيث لعملية السلام بين إسرائيل والعرب.كل هذه المراحل، حسب الباحث، تعتبر من "الشرق الأوسط القديم".غير أن هذا الشرق الأوسط القديم بدأ بالتغير، ومن أبرز محطات تغيره قرار الرئيس بوش الابن غزو العراق، والذي على ضوئه تمت إزاحة "السنة" عن حكم العراق وتمكين "الشيعة"، الأمر الذي أدى إلى تأزيم العلاقة بين الشيعة والسنة، ومن ثم بروز التوتر والصراع الطائفي في العراق وخارجه.سقوط نظام الشرق الأوسط القديم، حسب الكاتب الأمريكي، كان بسبب الانظمة العربية الحاكمة (يمكن أن نضيف إليها بشكل أو بآخر تركيا الكمالية وإيران الشاه) التي لم تفلح في الصمود أمام أحزاب الإسلام السياسي، وتعبت كثيرا في منازلة ومصارعة هذه الأحزاب الإسلامية، التي تضع البرنامج السياسي في "النواة" من مشروعها.ومما ساعد على تفشي تأثير الإسلام السياسي، ويا للمفارقة!، هو حالة العولمة التي سهلت الحركة والتواصل بين هذه الجماعات، وأيضا الانتشار الإعلامي وانحلال قبضة الدولة عن الإعلام ساعد في زيادة حالة "التسييس" لدى شعوب هذه المنطقة، مع الدفق الإعلامي والصور المتلاحقة عن الحرب في العراق ولبنان وفلسطين.ثم ينتهي الكاتب إلى خلاصة تصوره لشكل المنطقة الجديد ويقوم هذا التصور على ملامح منها: أن أمريكا، ورغم هذا كله، سوف تظل اللاعب الأكبر في المنطقة، لكن سوف تدخل قوى أخرى تزاحمها مثل روسيا والصين والاتحاد الأوربي، وان إيران سوف تصبح إحدى القوى المؤثرة خصوصا من خلال حمايتها للاسلام الشيعي المسيس في المنطقة العربية، وابرز صوره حزب الله في لبنان. كما أن الوضع في العراق سيستمر على ترديه وسيصير مركزا للصراع يؤثر على جواره. وأسعار النفط ستصعد أكثر وصولا غالى سعر مائة دولار نظرا لزيادة الطلب من الهند والصين. الأمر الذي يعني زيادة هائلة في المداخيل للدول المنتجة للنفط وعلى رأسها السعودية وإيران، وسيؤدي هذا، مع توتر المنطقة، غالى سباق تسلح وإنفاق عسكري عال لدول المنطقة.وأخيرا يرى الكاتب ريتشارد انهايس، أن الارهاب سوف يزداد في المنطقة خاصة في العراق المقسم، أما في مصر والسعودية، فلن يتوقف الصراع مع التيارات الأصولية ـ وعلى رأس هذه التيارات المعارضة جماعات "الجهاد" ـ التي تريد ضرب الدولة والحلول محلها.ويعتقد الكاتب أن ذلك الصعود والاستمرار في الضغط الذي تشكله هذه الجماعات، سواء من خلال الارهاب أو من خلال زيادة الضغط الاجتماعي والسياسي، خصوصا في مصر والسعودية، سوف يجعل هذه الدول تستمر في مكافحتها، وأن دولا مثل السعودية سوف تسعى للتغيير والإصلاح، والمقاومة لهذا الإصلاح ستهب من قبل التيارات الدينية وليس من التيارات اليسارية والليبرالية.هذا تلخيص لمجمل الأفكار الرئيسية لمقالة انهايس، ولنا ان نتذكر أن افكارا مثل فكرة صراع الحضارات لصمويل هنتجتون، أو نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما بدأت بمقالات كهذه نشرت في مطبوعات مثل "شؤون خارجية".ربما تصبح هذه الأفكار والتصورات قائدة للعهد الأمريكي الجديد، مع صعود الحزب الديموقراطي، وضعف تأثير المحافظين الجدد، ولكن من الضروري التذكير بأن الحرب في العراق، وبسبب الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الامريكية في استثمارالنصر، هي التي تقود هذا الجدل في أوساط الباحثين والمفكرين في أمريكا، كما إن السجال حول تعريف وتشخيص الوضع الأمريكي في العراق تحول الى مادة جدال سياسي بين الحزبين، فهذه القضية، قضية العراق، يعتبرها الديموقراطيون، قضية جمهورية من ألفها الى يائها، وبالتالي فهم لا يريدون تحمل أكلافها أمام الناخب الأمريكي .. كما قال لي برنارد هيكل الباحث الأمريكي. ولكن هل يقدرون على ذلك، وهل هناك إستراتيجية خروج صحيحة وسليمة وغير مدمرة من العراق؟! وهل تملك أمريكا هذا الخيار أصلا؟الأمر الآخر، بعيدا عن العراق وقريبا منه في نفس الوقت!، هو حول تشخيص وضع علاقة الدول العربية بتيارات الإسلام السياسي. فمن صحيح القول إن هناك حالة انزياح من قبل الأحزاب السياسية الإسلامية ناحية إيران، دع حالة حزب الله، فهذه مفهومة وبدهية، بل حتى في حالة حماس السنية الاخوانية في فلسطين، وهناك اشتباك بين هذه الأحزاب وبين الدول والنخب السياسية العلمانية، سواء في لبنان أو في فلسطين، فيما تغذي إيران هذه الجيوب المشتعلة بالنار، فغيرها من الدول التقليمية التي تقاوم وتنازل إيران تغذي هي الاخرى الطرف الآخر...ولكن هذا الانزياح ناحية إيران، رغم ضرره الحالي، سيكون أشد ضررا، وستبذل إيران كل ما لديها من اجل تقوية وتصليب حزب الله وحماس وكل القوى التي تتفق معها في معاداة معسكر الاعتدال العربي (السعودية، مصر، الأردن)، وحتى الآن اقتصر الدعم على المال والإعلام وتجييش الشارع العربي، لكن من يدري! فلربما تجاوز الدعم تلك التخوم، ووصل، مع انفتاح الجرح الإيراني وتهيجه بعد قرار مجلس الأمن الدولي بالإجماع ضدها، إلى دعم اكبر واخطر لهذه القوى، بل ولربما نزلت إيران بنفسها و" شمرت عن ذارعيها "وخاضت في مستنقع الارهاب والتفجير والخطف، وأعادتها جذعة"، وما تفجير أبراج الخبر 1996 عنا ببعيد.في ظني، أننا في هذه المنطقة يجب أن نحسن قراءة اللحظة جيدا، ولا نجري وراء وهم الانسحاب الأمريكي من منطقتنا، فأمريكا ورغم كل هذا الجدل الساخن داخلها، لن تتخلى عن المنطقة، فهذه المنطقة ـ من منظورها ـ هي منطقة البترول، ومنطقة إسرائيل، وهي المنطقة المرشحة لأن يأتي منها إرهاب مماثل لإرهاب 11 سبتمبر ...ومن أجل المزيد من اتقان قراءة اللحظة، يجب على الدول العربية، خصوصا دول الاعتدال العربي، إن توازن بين إيقاعين في حركتها: الأول الإصلاح والتغيير لأن هذا مطلب مشروع وعادل، كما أنه الضمانة الحقيقية لبقاء الدول والتفاف الشعب حولها، والإيقاع الثاني هو أن يكون هذا الانفتاح بروية وتيقظ، يعني أن تكون الحركة "عوان بين ذلك" لا تأنف من الإصلاح، تحت حجة المحافظة على الهوية، وفي نفس الوقت لاتفتح الباب على مصراعيه فيهتز استقرار المجتمع والدولة، لأن تيارات التوتير الأصولية ذات النزعات الانقلابية في الرؤية، ستفسد ما هو موجود ولن تجلب ما هو مفقود !وأخيرا، فإننا نحن، أهل هذه المنطقة، من يجب عليه العمل والسعي من اجل الحفاظ على استقرارنا والنجاة من اعاصير الحروب الاهلية، او أننا سنكون في حالة "تسليم اللحى" الى افكار ومشاريع مغامرة، ولكن هذه المرة، بدل ان تكون مغطاة بجلابية جمال عبد الناصر او عباءة صدام حسين، ستكون مغطاة بعمامة "السيد" او جبة "الشيخ" ولا ينفع حينها الندم.[c1]نقلا عن جريدة الشرق الأوسط [/c]
أخبار متعلقة