أضواء
نشرت “الشرق الأوسط” (21/6/2008م) على صدر صفحتها الأولى صورة لامرأتين إيرانيتين كاشفتي الوجه تلبسان لباسا أسود تعترضان طريق امرأة ثالثة. ويقول التعليق المرفق بتلك الصورة: “شرطيتان إيرانيتان تأمران امرأة بإزالة مساحيق التجميل عن وجهها خلال حملة أَطلقت عليها السلطات اسم “ضد الفساد الاجتماعي” في شمال إيران أمس”.وليس هذا الخبر والصورة الوحيدين اللذين تنقلهما وكالات الأنباء عن نشاط بعض الجماعات الرسمية وغير الرسمية في إيران لتعقُّب ما تنظر إليه هذه الجماعات على أنه “منكر”. فهناك أخبار كثيرة عن تصدي “حرس الثورة” لمهمة إزالة “المنكرات”، ومنها تحطيم أجهزة استقبال البث التلفازي الفضائي، ومراقبة ملابس الشباب والشابات، وقصات شعورهم وشعورهن، وغير ذلك.وتُذكِّر هذه التقارير بنشاط هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة. إذ تذكر التقارير الدورية التي تصدرها الهيئة أنها “تتصدى” لمئات الآلاف من الحالات التي تعدها “مخالفة للشرع”. وتقول إنه يمكن تصنيف أكثر تلك الحالات بأنه “مخالفات في العقيدة والعبادات”. ومن أمثلتها عدمُ التزام النساء بتغطية وجوههن، وعدم إغلاق المتاجر وقت الصلاة، وتعقُّب الذين لا يذهبون إلى المساجد لأدائها.ومن آخر الأمثلة على ذلك إلقاء الهيئة القبض على فريق يصوِّر إحدى المسلسلات في الرياض لأن هذا الفريق، كما تقول الهيئة، كان يصور بعض المشاهد في أثناء صلاة المغرب، وهو ما نفاه العاملون في ذلك الفريق (“الوطن”، 17/6/1429هـ).وهناك وجوهُ اتفاق ووجوه افتراق بين ما تقوم به الجماعات الإيرانية المختلفة التي تراقب سلوك الناس في اللباس وبعض المظاهر الأخرى، وما تقوم به هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة من أعمال مشابهة. فهما تتفقان على “إلزام” الناس بالسلوك “الديني” الذي يمليه الرأي الأصوب، في رأيها، ومعاقبة من يخالف ذلك السلوك.أما أوجه الافتراق فمنها أن ما يعد منكرا في إيران ربما لا يعد منكرا في المملكة، والعكس. ومن ذلك أن “كشف الوجه” ليس “منكرا” في إيران، كما تشهد بذلك الصورة التي نشرتها “الشرق الأوسط”، لكنه “منكر” في رأي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وعلى الرغم من العلاقات المتوترة بين التيار السلفي والشيعة، وهو الأمر الذي ربما وصل إلى أن يكفِّر بعضُ المتطرفين من الطرفين بعضا، إلا أن الفريقين يؤيد الواحد منهما الآخر في تصرفه المتمثل في التدخل في سلوك الناس واختياراتهم.ومن الأمثلة الأخيرة على ذلك أن “شيْخين” سعوديين كانا يناظران ناشطيْن سعوديَّين يمكن وصفهما بأنهما أكثر تفتُّحا في إحدى القنوات الفضائية عن بعض الموضوعات المختلف فيها في المملكة، ومنها قضية المرأة. وقد شن “الشيخان” هجوما كاسحا على وزارة الثقافة والإعلام بسبب ما يريان أنه ظهور للمرأة في البرامج التلفزيونية السعودية “متبرجةً”، و”كاشفة عن خصلات من شعرها”، وغير ذلك مما يُعدُّ، في نظرهما، خروجا على ما يجب أن تظهر به المرأة من وقار!لكن المفاجئ أن يدعو الشيخان وزارةَ الثقافة والإعلام السعودية إلى الاقتداء بتلفزيوني “المنار” و”العالَم” (الشيعيين!) من حيث خروج المرأة فيهما بمظهر “ملتزم” جاد، يمثِّلُه خروجها فيهما وهي تغطي رأسها بغطاء تتحنك به ولا يَسمح بظهور شيء من شعرها مهما كانت الظروف! والباعث الذي يحرِّك بعضَ الجهات الرسمية وغير الرسمية في إيران والهيئة عندنا لتقوم بما تقوم به واضح. إذ يعتقد هؤلاء أن الناس لا يعرفون واجباتهم الدينية، أو أنهم لا يلتزمون بها إن عرفوها، ويرون أن من واجبهم، إذن، إرغامهم على “الالتزام” بالتعاليم الإسلامية بالصورة التي تراها هذه الهيئات.ويبدو أن هذه الهيئات والجماعات تتوقع أن الناس سيكونون أكثر تديُّنا إذا ما “أُلزموا” بهذه الطريقة. لكن الواقع يبرهن على أن هذا الظن في غير محله. فهناك تقارير كثيرة عن الحالة الدينية في إيران تشهد بأن الناس، والشباب والشابات على الأخص، صاروا أقل التزاما بالتعاليم الإسلامية الآن مما كانوا عليه في الفترة السابقة على تأسيس الجمهورية الإسلامية. والحال نفسها في المملكة؛ إذ لو أثمرت جهود الهيئة لكان الناس قد صلح حالهم منذ عقود. لكن كثيرا من الناس صاروا الآن، خاصة الشباب والشابات، أكثر تفلتا من التعاليم الدينية، بدلا عن ذلك.ويبرهن هذا على أنه لا يمكن أن يَنتج عن إرغام الناس على السلوك بمقتضى ما تراه بعض الهيئات الدينية أن يلتزم الناس بتلك التعاليم، لكنهم يمكن أن يكونوا أصدق تديُّنا حين يناط بهم، هم أنفسُهم، مهمة مراقبة أنفسهم. ولا يصعب التدليل على صحة هذا الرأي. وكنت كتبت مقالا عن صلاة الجمعة في مصر لاحظتُ فيه أن الناس يحضرون إلى الصلاة من غير أن يدفعهم أحد إلى ذلك. ويمكن لمن زار أيا من البلدان الإسلامية، أن يشهد بأن حضور الناس إلى المساجد لا يقل، بل ربما يزيد، عما نجده في المملكة، أو إيران. وقد رأيت بنفسي في القاهرة بعض المتاجر تُقفل أبوابها ويذهب العاملون فيها طوعا إلى المساجد القريبة لأداء الصلاة. ومما يشهد بهذه الحال كذلك ما ورد في تقرير كتبه الصحفي الأمريكي مايكل سلاكمان بعنوان “جيل مؤمن: صراع من أجل الاستحواذ على العقول الشابة في الجزائر”، نشرته صحيفة نيويورك تايمز(23/6/2008). ورد فيه أن: “... الشباب في العاصمة الجزائرية يبدون ملتزمين بتعالم الدين بإفراط، إذ يملؤون المساجد في الصلوات الخمس، ويصرُّون على وجود مكان مخصص للصلاة في المدارس”. ويتحدث عن أسرة تتحجَّب بناتُها طوعا. ومن ذلك التزام كثير من النساء في البلدان الإسلامية الأخرى باللباس المحتشم، وربما يصل بعضهن إلى ارتداء “الحجاب” المعهود في المملكة. ويمكن مشاهدة هذا الالتزام الطوعي حتى في البلاد الإسلامية “العلمانية”، مثل تركيا. فقد ذهب رئيس الدولة إلى المحكمة العليا ليطلب منها إصدار حكم يسمح بارتداء النساء لغطاء الرأس في الجامعات، وكان ممنوعا منذ عقود.ويمكن أن نتذكر مطالبة المسلمين في فرنسا قبل سنوات بالسماح لنسائهم بارتداء غطاء الرأس في المدارس والدوائر الحكومية. وتُنشر أخبار كثيرة الآن عن تقدُّم بعض المسلمات إلى المحاكم في أوروبا لطلب التعويض عن بعض المضايقات التي يواجهنها بسبب تحجُّبهن، أو المطالبة بإلزام الجهات التي يعملن فيها بمراعاة التزامهن بالمظاهر الإسلامية.ويمكن أن يشهد على هذا التدين الطوعي كذلك التزامُ كثير من المسلمين في الغرب بالصلاة، حتى الصلوات اليومية، في المساجد، أو الصلاة في أماكن أعمالهم. ولم يحدث ذلك عن طريق إلزام الهيئات والجماعات الرسمية أو غير الرسمية التي ترى أن من حقها تتبُّع الناس في أخص ما تنطوي عليه ضمائرهم.فمن اللافت، إذن، أن نجد الالتزام الطوعي بالواجبات والآداب الإسلامية في بلاد لا يراقب المسلمين فيها أحد، فيما نجد تفلتا واضحا من هذه الواجبات والآداب في بلدين من أكبر البلدان الإسلامية وأكثرها إلزاما لمواطنيهما والمقيمين فيهما بذلك.ويَنبع هذا القَسْر من رؤية تقليدية للتربية تنطلق منها هذه الهيئات. فتوحي هذه الرؤية بأن الناس لا يعرفون الصالح لهم، وهو ما يعني أنه لابد من وجود من يقوم بالتأكد من أنهم يتصرفون بما يرى نفسَه مكلفا به من حيث إلزامهم بواجباتهم الدينية. لكن هذه الطريقة في التربية ثبت عدم جدواها، بل إنها ربما تربي الناس على الخوف والخنوع والنفاق، وهذا أخطر. وهي تربيهم على التظاهر بالتقيد بما يُرغَمون على الالتزام به، لكنهم يسارعون إلى مخالفته في أول فرصة يختفي فيها الرقيب.ويلفت النظر أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة ترى أن الإمكانات الموفَّرة لها الآن ليست كافية؛ لذلك تطالب بمزيد من المخصصات المالية التي يمكن أن تغري بعض المتحمسين بالعمل فيها. وتصنَّف بعض هذه المخصصات تحت باب “بدل الميدان”، مما يُشعر بأن الهيئة ترى أنها تخوض معركة مع الناس! ومما يؤيد ذلك مطالبتها بتسليح الجنود المرافقين لأعضائها في الميدان!وقد أصدرت الهيئة مؤخرا تقريرا عن دراسة “علمية” أظهرت أن مستوى الرضا عما تقوم به بلغ حدودا تقرب من الكمال. لكن ما يشكك في النِّسب التي وردت في التقرير أنها تشبه نسب الاستفتاءات والانتخابات التي تجريها بعض الأنظمة العربية من حيث بلوغها نسبا تشعر بما يشبه الإجماع، مع أنها غير صحيحة.وكان الأولى أن تجري هذه “الدراسة” جهات علمية محايدة، وأن تحكِّمها جهات علمية محايدة كذلك. لكن هذا كله لم يحصل، وهو ما سمح بخروج تلك النسب التي تثير الشك في الدراسة أكثر مما تدعو إلى الاطمئنان إليها.ومحصلة القول أن تربية ضمائر المسلمين على الصدق وإتاحة الفرصة لهم لأن يتحملوا المسؤولية فيما يخص الالتزام الديني هما الوسيلتان اللتان يمكن بهما القضاء على الاحتقان الذي يتولد عن التجاذب بين الناس والهيئات التي ترى أن من واجبها “تديينهم” بالقوة، وهو تصرُّف يمكن أن يؤدي إلى التنفير من هذه الهيئات، بل إلى صرف الناس عن التدين الصحيح النابع من القناعة الذاتية.[c1]* عن / جريدة “الوطن” السعودية[/c]