أضواء
تمثل مسألة اجتياح الجيش الإسرائيلي لقطاع غزة إشكالية أخلاقية، قبل كونها مسألة عسكرية بحتة. فلأول مرة في تاريخ النظام السياسي العربي تظهر تناقضات وإشكالات عميقة، تعيق إدانة هذا الغزو، وهذه المجزرة البشرية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل في القطاع.فقد جاء هذا الغزو في ظل صراع فلسطيني - فلسطيني بين منظمة فتح السلطة الوطنية، وحركة حماس، وقد احتدم الصراع بين الجانبين حتى غدا هذا التناحر ممثلا بحكومتين مختلفتين، تحت احتلال واحد، إحداهما في غزة والأخرى في الضفة الغربية. كما جاء هذا الغزو في ظل تنافس إقليمي محموم، بين دول متحالفة مع إيران، وأخرى متصارعة معها.كما تأتي هذه الحرب في ظل رؤية سائدة في بعض الدول العربية، بأن حماس متحالفة مع جماعة الإخوان المسلمين، أو لعلها تمثل فرع الجماعة السياسي في فلسطين، وبالتالي فهي جزء من إشكالية داخلية في بعض الدول العربية. وهذا الإشكال الداخلي يتداخل في بعض الأحيان مع الإشكال الاستراتيجي المتمثل بالعداء مع إسرائيل، بل يؤثر عليه، وربما جمده.من هنا كانت هذه التناقضات التي شلت النظام السياسي العربي والذي حاول أن يستنجد بالأمم المتحدة ومجلس الأمن، واللذين خذلاه تحت ضغط من الولايات المتحدة، وحتى دول الاتحاد الأوروبي التي أدانت الهجوم العسكري الإسرائيلي في أول أيامه.عادت “لتتفهم” الدوافع الإسرائيلية حين اجتاحت القوات الإسرائيلية القطاع وحاصرت مدنه، وحين فشل مجلس الأمن في استصدار قرار يوقف إطلاق النار.حماس بدورها لم تستطع أن تنتهز التناقضات في المواقف الدولية، وخانها الذكاء السياسي لتأخذ زمام المبادرة بدلا من أن تعول على الدعم الشعبي العربي، الذي لم يوقف هذه المذابح، بالرغم من رؤيته لها صباح مساء على شاشات التلفزة، وآثر زعماء الحركة أن يضحوا بأنفسهم وشعبهم بالرغم من علمهم الكامل بعدم وجود ميزان للقوى وللنيران بينهم وبين القوات الغازية. ومعرفتهم الكاملة بنية العدو في تصفية القطاع وتصفية المقاومة، والعودة إلى احتلال القطاع مجددا وضمه إلى إسرائيل.والاجتياح الإسرائيلي ضد غزة لم يمثل مسألة أخلاقية في العالم العربي وحده، بل أيضا في الغرب، وفي إسرائيل كذلك. ففي بعض الصحف الغربية ظهرت بعض المقالات التي تدين هذه الحرب وتصفها بأنها غير أخلاقية، وتحذر من انعكاساتها المستقبلية في تأجيج حدة الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتأثير ذلك على احتمال حدوث هجمات إرهابية على أهداف غربية. وبالتالي فإن الحروب تأتي بأسوأ ما في البشر من حب للانتقام والكراهية المتبادلة.أما في إسرائيل فقد كتب بعض الصحافيين الإسرائيليين ينتقدون انقياد المجتمع الإسرائيلي وراء قادته العسكريين والسياسيين لتنفيذ مخططات إجرامية وقتل للعزل من الأطفال والرجال والنساء في القطاع، وكيف أن المجتمع الإسرائيلي قد قبل بمبدأ محاصرة القطاع وتجويع أهله وحرمانه من الطعام والدواء طيلة عام ونصف.والحقيقة، أن الحرب خاصة إذا كانت حربا قذرة وتهدر فيها دماء المدنيين دون هوادة وتحاصر فيها المدن تعتبر خرقا واضحا للقانون الدولي الإنساني. وبالتالي يحق فيها للدول من أن تتخذ جميع الإجراءات القانونية والسياسية والاقتصادية لتوقف المحتل، وتحاول شل مخططاته العدوانية، وإذا لم يقم المجتمع الدولي بممارسة حقه وتطبيق القانون الدولي، فإن على الدول الأخرى، سواء كانت عربية أو غير ذلك القيام بما يحتاج للجم العدو عن أعماله، ومنعه من تحقيق مآربه.في الماضي كان النظام السياسي العربي عاطفيا ويتعاطف مع القضية العربية الأولى. وما الحرب الحاضرة إلا نتيجة حتمية لفشل النظام السياسي العربي في إيجاد حل سلمي للقضية الفلسطينية. وفي حال فشل النظام السياسي العربي في إيجاد هذا الحل، كان من الواجب النظر مليا في بدائل استراتيجية، والتفكير بجدية في أساليب جديدة لخلق رادع حقيقي للمعتدي. فالرادع القديم المتمثل في التحالفات الاستراتيجية والسياسية أثبت فشله اليوم، حين تعارضت هذه التحالفات للدول الكبرى مع التزامها بدعم إسرائيل على جميع المستويات وإعاقة تنفيذ القانون الدولي، ووقف العدوان. النظام السياسي العربي يستطيع العيش على التغذية الخارجية، ولكن مثل هذه التغذية غير كافية على إمداده بالقوة والمنعة التي لا تأتي إلا من مد جذوره في أرضه وتربته. فالنبات لا يعيش على تربة مستعارة، بل هو في حاجة ماسة إلى تربته الأصلية حتى ينبت وينمو. ومثل هذا النبات سيكون قويا بجذوره الحقيقية وبرؤيته الخاصة، وليس برؤى مستعارة.[c1]*عن / صحيفة (عكاظ) السعودية [/c]