نجمي عبدالمجيدفي عام 1969م صدرت رواية الكاتب المبدع غسان كنفاني (عائد إلى حيفا) وهي من حيث الرؤية تطرح حواراً لا تقف مساحات حدوده عند ما جرى في زمن النكبة عام 1948م، فكل ما في ذلك الحدث يمتد نحو المستقبل الذي أصبح هو ايضاً حقيقة تصارع من أجل هوية وتاريخ وحق في الانتماء لهذا المكان، الذي لم يعد في ظل الاحتلال الصهيوني الا صورة تعبر عن زمنها المفروض ولون لغتها القائمة من قبل المغتصب.ولكن في التاريخ والسياسة لا تسقط الأشياء بالتقادم، فهي قد تؤجل أو تنام أو ترحل لفترات من الأزمان، غير أنها لا تذهب إلى هاوية العدم طالما ظل صاحب الحق يتحدى كل أساليب القهر والتذويب والتجاهل، ولكن لهذا الحق شروط واستحقاقات لا تكتمل قوة الإرادة الا بها.تبدأ أحداث الرواية من لحظات عودة البطل (سعيد) وزوجته إلى حيفا بعد سنوات من الهروب، تحت نيران القصف المرعب للجيش الصهيوني وتدمير المدينة وهروب سكانها، غير أن هذه الأسرة تركت طفلها الصغير في تلك العاصفة، الطفل خلدون كان من الأشياء التي سقطت مثل المدينة في أيادي الصهاينة في ذلك اليوم من صباح الأربعاء، 21 نيسان عام 1948م.العودة في ظل الاحتلال بحثاً عن ذلك الطفل، تجعل بطل الرواية سعيد يقف عاجزاً أمام حقائق لا تنكر، ومنها، أن الزمن لا يقف عند لحظات الهزيمة ولا مسافات الانتصار لأنه حالة متحركة، وتشتد الأمور في أبعادها عندما يصاحب هذا التحرك قوة الاغتصاب والقهر، وهنا يتجسد التاريخ في زمن الفاجعة ـ الحاضر ما هو الا أصل وانتماء يصبح مع الطرف الآخر (العدو)، إنه المستقبل المسروق ذلك ما يجده سعيد في منزله الذي هرب منه، ابنه خلدون أصبح جندياً في الجيش الصهيوني واسمه (روف) أبن الأرض يقاتل مع محتل الأرض، تلك هي صدمة التاريخ القائم، الحاضر المنكسر، إنها لحظات تظهر فيها بكل وضوح حقيقة جريمة الهروب، ترك الحق، فترة ضعف لا تجلب الا الانكسارات وسرقة أقوى سلاح من يد المظلوم، الانتماء إلى الأرض وليس من قادر على رد الحق الضائع غير الإنسان ـ المستقبل الذي يرمز له هذا الطفل ولكن الرحيل في لحظات الخوف لا يأخذ معه كل الحقوق، فلابد من ضياع وتساقط بعضها، وفي ذلك تبدأ مراحل التحول في الأسماء والأشياء وحكاية المكان، أما التاريخ فلم يعد واقفاً عند حق الماضي بل هو قوة قهر في الحاضر بعد ما أصبح من يقود مساراته في هذا المكان زمن الاحتلال.أول ما شاهده سعيد في ابنه خلدون بعد سنوات الغياب الطويلة، هذا الشاب الطويل القامة في الزي العسكري الصهيوني وسط الأسرة اليهودية التي احتلت منزله وتبنت هذا الطفل الفلسطيني، انه لا يعترف بسعيد اباً له ولا بصفية اماً، إنهما الزمن الغائب من الذاكرة لم يعد بينه وبينهما من اتصال حتى في رابطة الدم وفي هذا الحوار يوضح غسان كنفاني تلك الصورة القاهرة لما جرى: (تعال هنا يادوف، يوجد ضيوف يرغبون برؤيتك وانفتح الباب بشيء من البطء ، ولأول وهلة لم يصدق، فقد كان الضوء عند الباب باهتاً، ولكن الرجل الطويل القامة، خطا إلى الأمام. كان يلبس بزة عسكرية، ويحمل قبعته بيده.وقفز سعيد واقفاً كأن تياراً كهربائياً قذفه عن المقعد، ونظر نحو ميريام وهو يقول بصوت متوتر: (أهذه هي المفأجاة؟ أهذه هي المفاجأة التي أردت منا انتظارها؟).واستدارت صفية نحو النافذة، تخفي وجهها براحتيها وتنشج بصوت مسموع.أما الرجل الطويل القامة فقد ظل مسمراً أمام الباب، ينقل بصره بين الثلاثة محتاراً، وعندها فقط قامت ميريام، وقالت للشباب بهدوء مفتعل وبطيء: أريد أن أقدم لك والديك .. والديك الأصليين وخطا الشاب الطويل القامة خطوة بطيئة إلى الأمام، وتغير لونه فجأة وبدا انه فقد ثقته بنفسه دفعة واحدة. ثم نظر إلى بزته وعاد ينظر إلى سعيد، الذي كان واقفاً ما يزال أمامه يحدق إليه. وأخيراً قال الشاب بصوت خفيض: أنا لا أعرف أماً غيرك، أما أبي فقد قتل في سيناء قبل (11سنة) ولا أعرف غيركما).تتجاوز الصدمة حدود الألم لتصل إلى حد الحكم بالموت على استعادة الحق.الطفل صورة الماضي لم يعد الا قوة قهر، فهو لا يعرف من حياته غير أمه ميريام اليهودية فهي والوسط الذي عاش فيه، الحرب ضد العرب في أكثر من اتجاه ومصرع أبيه اليهودي في سيناء، وهذه البزة العسكرية لجيش الاحتلال كل هذا أشبه بسيوف قطعت صلته مع ماضي الانتماء الأول.وهنا يضعنا الكاتب غسان كنفاني أمام مفارقة تاريخية جارحة، أن الحق لو ترك قد يتحول من قوة دفاع إلى أساليب تدمير لو سقط بيد العدو في غفلة منا. عندها تصبح مسألة استعادة حقوقنا مواجهة مع أنفسنا قبل أن تكون صداماً مع العدو.إن الطفل خلدون هو تاريخ المستقبل لقضية فلسطين، ولكنه أصبح تاريخ قوة القهر في يد اليهود، فهذا التحول هو صناعة لحظات الهروب، الخوف من الموت ترك قطعة من الروح والانتماء في زمن الانفجار ومحاولة النجاة بالنفس من الكارثة، فهذا الهروب لم يجد الحل، بل صنع مأساة تجلت معالمها في هذا التحدي الحاضر، دوف شاب يقاتل أعداء الدولة الصهيونية وهذا في نظره الواجب الوطني أما كل ما هو عربي، فهو عدو ولا لغة غير لغة السلاح والموت للتخاطب مع العرب، هكذا هو عقل دوف الجنوني في الجيش المحتل.إن خلدون الماضي الطفل ودوف الجندي الإسرائيلي الحاضر، رمزية عن مقدرة الاحتلال في تغيير الملامح في شكل المكان وروح الإنسان، وصنعة الاحتلال ليست التدمير ومحو الذاكرة بل إعادة صياغة الوعي وهذا هو الخطر الأكبر الذي يحذرنا منه غسان كنفاني في هذه الرواية الخالدة.ذاكرة المكان مهما تغيرت تظل صورها محفوظة في ذاكرة الفرد، أما أن تغيب معالم الانتماء في ذاكرة الإنسان ويصبح عالمه يقف على المساحة التي رسمتها له قوة الاحتلال، من الإدراك والتفكير فتلك هي المعادلة التي ثقلت موازين الأمور وتجعل من يقف على أرضيتها يشعر بحالة من عدم الاستقرار، والتصدع وانهيار المعقول، ولكن قوة القهر تصنع تاريخها وتجعل منه قوة تحد في وجه أصحاب الحق.البحث عن صور المدينة (حيفا) لا يعني حدود المكان التي تشكلت مع التاريخ القديم، فعودة سعيد بحثاً عن الابن من خلال شكل المنزل الذي لم يتغير الا القليل منه، لا يعطي لسعيد أسباب استرجاع كل ما تركه فالصورة الخارجية قد تمارس علينا عملية خداع لبعض الوقت لنكتشف بعد ذلك إننا قد طردتنا الأحداث إلى دائرة العداوة،لم يعد الحل في البحث عن المفقود لأنه تحول إلى واقع يسيطر على الموقف.إن النظرة الإبداعية الأدبية في هذه الرواية لا تتعامل مع أحداث التاريخ كأنها منشورات سياسية،بل يوظفها الكاتب في إطارها الإنساني العام لتصبح مسألة من حق الوجود الكوني للعالم الحديث عنها،فالجوهر العام للحدث يتخطى جغرافية المكان ويخر ج إلى حيوات واسعة،فلا تعويض بالعودة بعد الهروب لما فقد في زمن الغياب ولا تظل الملامحة كما هي ولا يستمر الترابط مع إنسان المكان كما هو،لأن حركة التاريخ لا يقف مسارها فهي بين الحق والجريمة دائمة التقلب،لذلك يكون حق الاستعادة والعودة قمة الصدام مع الجريمة الأولى- الهروب وترك المستقبل- الطفل خلدون ليصبح في الحاضر الجندي الإسرائيلي دوف المدافع والحامي لدولة الاغتصاب والقهر،أنه التاريخ الذي يحاكم الماضي العائد الباحث عن بقايا من وجوده في هذا المكان يقول خلدون أو دوف “ أنا لم أعرف أن ميريام وايفرات ليسا والدي إلا قبل ثلاث أو أربع سنوات منذ صغري وأنا يهودي أذهب إلى الكنيس وإلى المدرسة اليهودية وآكل الكوشير وأدرس العبرية.وحين قالا لي أنني لست من صلبهما لم يتغير أي شيء.وكذلك حين قالا لي- بعد ذلك- إن والدي الأصليين هما عربيان لم يتغير أي شيء لا، لم يتغير.. ذلك شيء مؤكد.. أن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية”.الهروب لم يقطع الصلة مع الابن،بل أعاد تشكيل كيانه “الدين واللغة والفكر” بل حتى الطعام أنه تاريخ يكتب من جديد، إنسان تعاد صياغته وحتى عندما عرف أنه ليس من أصل يهودي لم يهمه ذلك،إنه انتماء نحو دولة، دولة إسرائيل هو لا يتعامل مع الجزئيات الصغيرة فهو رمز لدولة وليس تجمعاً للأفراد.ذلك ما هدفت إليه التربية اليهودية في كيان هذا الفرد،نقل كل خصائص وجوده إلى الزمن القائم المفروض بقوة السلاح،والقضية هنا كيان هذه الدولة المعتدية أما غير ذلك فلا يندرج في دائرة ما يشغل الفكر، وأول قضية في هذا الكيان الدفاع عن مكانته بين هذه الأطراف العربية المحيطة به، فالدولة الصهيونية لم تجعل من خلدون مهندساً أو مدرساً أو عالماً، ولكن صنعت منه قوة قهر - جندياً ضد أرضه وأهله وحتى يدرك قيمة ما يدافع عنه يجب أن يشعر بأنه صاحب قضية تحدد مصيره ومكانته منها، فهو باق باستمرارها وإن خرج عن ذلك سقط عالمه.هذا الكيان الذي اغتصب الأرض وقتل الإنسان، لا يقف جنونه عند مراحل نهاية المعركة، فالغاية الكبرى لديه استلاب روح الانتماء وسحق الهوية واستحداث صورة مغايرة لشكل المكان - الإنسان، الروح في العمق عندما تقطع من جذورها وتدفن في عقلية تسكن فيها أمراض السياسة وحقد التاريخ تطرح نفسية مشوهة، الجريمة حقيقة مركبة مع دوافعها وعهد مقدس في قسمها، لذلك كان لابد من أن يصبح خلدون، دوف من سلاح الجريمة في هذه المعركة الدولة - الجريمة، وأصحاب الحق أما المكان المسلوب من أهله فلا يساعد على إحياء الصور الميتة لأن الماضي الذي ذهب مع هروب الأب والأم تشكل في الحاضر مع دوف في البيت اليهودي، الأسرة التي رعت هذا الطفل وأعدته جزءاً من مشروع قيامها، لكن الاتصال الأهم لا يكون مع الفردية فيها بل مع هدف وغاية الدولة قضية اليهود وحسم الموقف بقوة السلاح، دولة إسرائيل، والجندي رمز القوة القهرية فيها، دوف، كل من يترك الحق لا يجد غير العداء. ولكن في الجانب الآخر من هذا الأمر توجد صورة توضع قضية الحق في العودة في إطارها الموضوعي، أنه “بدر” شقيق خلدون - دوف الذي يقاتل في صفوف المقاومة ضد الاحتلال، إن المعادلة في هذا الأمر لا تحدد حسب الرؤية التي أرادتها إسرائيل ففي الطرف الآخر يجد الحق من يسعى لاسترداده مهما كانت جسامة الجريمة، الموت إن عنى للعدو إرهاب الغير وفرض حقائق جديدة على الأرض وجعلها أمراً واقعاً لا يتجاوزه أحد، فإن المقاومة هي خط السير نحو الخلاص من هذا الاختناق الذي يحاصر الكل ودولة إسرائيل وهي صناع هذا العنف، لم تجد الملاذ والسلام رغم زحف رعبها على الإنسان والأرض، وكلما توسعت مساحات القتل والتدمير تصاعدت قوة التحدي والصدام عند الآخر، والجندي دوف هو حالة اللااستقرار والشعور الدائم بأن الحرب لم ترسم خطوط النهاية على الخرائط العسكرية.القيمة الإبداعية لكل ما تركه لنا الكاتب الخالد “غسان كنفاني” وضع النفس والعقل والضمير الإنساني أمام حقائق لا تسقط مهما طالت فترات الوجع والصمت عن كل هذا السحق والهدم وإحراق جغرافية الأرض ليست في الكتب والصور، بل في وجدان الفرد، والأزمة لا تحدد ملامحها بما صنعه المغتصب بالوطن، بل في كيان صاحب الحق عندما تعاني نفسه من شروخ وتصدعات من الداخل، تنقلب الى تناحرات مرعبه تدمر كل معاني الالتزام نحو هذه القضية . في هذا الحوار النفسي الذي يضع أبا خلدون وأمه أمام حقيقة ما جرى في ذلك اليوم من زمن الهروب ، حيث يقول سعيد : ( انه يتساءل كيف يترك الأب والأم ابنهما الرضيع في السرير ويهربان انت يا سيدتي لم تقولي له الحقيقة وحين رويتها له كان الوقت قد مضى، انحن الذين تركناه؟ انحن الذين قتلنا ذلك الطفل قرب كنيسة بيت لحم في الهادر؟ الطفل الذي كانت جثته ، كما قلت لنا أول شيء صدمك في هذا العالم الذي يسحق العدل بحقارة كل يوم .. ربما كان ذلك الطفل هو خلدون ! ربما كان ذلك الشيء الصغير الذي مات ذلك اليوم التعيس هو خلدون .. بل إنه خلدون ، وأنت كذبت علينا انه خلدون ، وقد مات ، وهذا ليس الا طفلاً يتيماً عثرت عليه في بولونيا، أو انجلترا). الأب يرفض حقيقة ابنه الذي صنع هروب أسرته حاله هذا انه يفضل موته في ذلك الزمن على أن يكون يهودياً لا يعرف عن ماضيه الا نظرة العدو للعدو فالسيدة اليهودية ليست ملتزمة بأن تحكي لخلدون تاريخه الماضي ، وعندما حكت كان تكوينه النفسي قد انصب في بوتقة العنصرية اليهودية ، هو وسيلة حرب في هذه الخاصية الصهيونية، أما الأسرة فليست لها من مكانة لديه ، وعندما يضعه الأب في أطار الطفل الميت في الماضي والطفل الذي جاء مع الهجرة إلى فلسطين في الحاضر يسعى إلى نسف صورة الفاجعة التي جسدت له كل هذه الحقائق . خلدون مات وما هذا الشاب الا طفل جاء مع زمن الاحتلال من أي بقعة من العالم ليصبح آلة قتل وتدمير في أياد لا تخلق غير الفواجع وهذا جزء من تاريخ الجريمة المتجددة على هذه الأرض . عائد إلى حيفا رواية تخلد في ذاكرة الزمن مفارقة الهروب من الحصار والقتل للجسد ولكنها تدخلنا في تساؤلات حول مصير الهوية والكيان والتاريخ ، وحق العودة والانتساب إلى هذا المكان حيث يظل الماضي من الحقائق التي لا تقهرها أصوات الجرائم وحرائق الحروب ومهما تصاعد دخانها فهو لا يحجب الفجر القادم. المرجع غسان كنفاني الأعمال الكاملة - المجلد الأول الروايات الطبعة الثانية ابريل 1980م مؤسسة غسان كنفاني الثقافية دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت.