لما كان النص الإبداعي في مجال القصة القصيرة، تنسجه آلياته السردية الداخلية المنتمية في المقام الأول إلي اللغة باعتبارها المادة الأولية للكتابة. فإن ما تسعي إليه المرأة لتجسيد مكامن الذات في إبداعها في هذا المجال عن طريق التجربة المعتمدة علي شحذ الحواس واستثمار التفاصيل الصغيرة والدقيقة في الحكاية المؤسسة للحظات حياتها اليومية، وتقليص المسافة بين ذاتها وواقعها في سرد القضايا الإنسانية المعتمدة على هذا الواقع والمنفتحة على لحظات الوعي واللاوعي في حياتها الخاصة والعامة، فالمرأة كبطلة لقصصها، أو كاتبة لها، تحاول قدر المستطاع ألا تتخلى عن هويتها الأساسية كأنثى. فهي تسعى إلى ملامسة الإنسان فيها، والواقع في لحظته المستثارة، من خلال ميلها العميق إلى استبطان وتحليل التراكمات الراوية، والأفكار المطروحة، والخواطر، والأسرار، وكل ما يعتمل داخل نفسها. ولعل لحظة البوح عندها هي اللحظة الكاشفة التي تستطيع من خلالها أن تعبر عن مكنون ذاتها، وما تحمله هذه الذات من مشاعر، وأحاسيس، وأحلام، وما تستطيع أن تقدمه في إبداعها من تجارب ورؤى.والكاتبات العراقيات ربما كن أصحاب تجربة إبداعية ثرية في مجال القصة القصيرة على وجه التحديد، ونزعة تحرص على أن تكون لهذه التجربة مسارها الخاص في المشهد القصصي في العراق منذ أواخر الستينيات وحتى الآن. فما كتبته لطفية الدليمي، وسهيلة داود سلمان، ومي مظفر، وسميرة المانع، وعالية ممدوح، وبثينة الناصري، وديزي الأمير، وعالية طالب الجبوري، وكليزار أنور، وميسلون هادي، وهدية حسين، وهيفاء زنكنة وغيرهن من الكاتبات العراقيات اللاتي حرصن على أن يكون في إبداعهن القصصي مزيج من جوانب متعددة يغلب عليها الذاتي والاجتماعي والقومي في أسلوب لعب فيه هاجس الذات و الواقع دوره المهم في بلورة تجاربهن القصصية، هذه المساحات الثرية من الكتابة القصصية للمرأة في العراق قد منحت هذه المنطقة من الكتابة بعدا كشف عن قيمة الوعي في كتابات المبدعة العراقية، حيث تتضح رؤية الكاتبة لا إلى ذاتها فحسب بل إلى العالم ومع إدراك رؤية الكاتبة إلىالعالم يتضح لنا تدريجيا مدى خصوصية الكتابة لديها. من هذا المنطلق ومن خلال هذه المقدمة التي كان لا بد منها، نستطيع ونحن نتصدى للمجموعة القصصية “إلى الوراء در” للقاصة العراقية سولاف هلال أن نحدد منذ البداية مدي الرؤية التي وضعتها الكاتبة في كنف قصص هذه المجموعة المكونة من أربعة وعشرين نصا قصصيا تأرجحت فيها هذه الرؤية ما بين الواقعي والمتخيل، والرمزي والاجتماعي، والذاتي والموضوعي، لتحقق من خلالها منظور أبعاد عالمها الإبداعي والذاتي، ولتضيف إلي مشهد القصة في بلدها كاتبة لها تجربتها الخاصة في الكتابة القصصية ولتحقق من خلال هذه التجربة رؤيتها الخاصة تجاه القضايا الأساسية التي ترى أنها جديرة بالتناول والكتابة عنها. تستخدم الكاتبة في استهلال وعتبات بعض النصوص مقدمات دلالية أولية كمفتتح لبنية بعض هذه النصوص تضع فيها رؤية مناخ النص وشفرة وإشارة المعنى المراد توصيله إلى المتلقي، وهو المعنىالمتوائم مع العتبة الأولي للنص وهو العنوان، والمتوائم بطبيعة الحال مع المضمون أو القضية التي يطرحها النص، وهو ما نجده في العديد من نصوص المجموعة، كما تحاول الكاتبة أيضا إقامة وخلق عالم مواز للعالم الواقعي عندما تكتشف أن هذا العالم الموازي ضروري للغوص في عمق الأزمة الإنسانية في نصوص المجموعة بشخوصها وأحداثها ووقائعها، ثم الصعود إلي السطح مرة أخرى للكشف عما افتقده الواقع المرير من إنسانية ونقاء· فإشكالية الموت نجدها حاضرة في بعض قصص المجموعة وهي تمثل حالة جدلية احتفت بها الكاتبة في عدة رؤي مثلت جانبا له دالته الخاصة في هذه النصوص فمن قصة “المشهد الأخير” التي بدأت بها المجموعة إلى قصة “إلىالوراء در” التي حملت عنوان المجموعة كلها والتي انتهت بها، إلى قصة “كان معي”، إلي قصة “صدقوني” إلى قصة “اطمئن” هذه النصوص شكل الموت فيها إشكالية ناقشت فيها الكاتبة وفي أبعاد مختلفة مظاهر اهتمام الناس بهذه الظاهرة وهي كما عبر عنها بوسويه حين قال “: إن اهتمام الناس بدفن أفكارهم عن الموت قد لا يقل شأنا عن اهتمامهم بدفن موتاهم”. (1) . ففي قصة “المشهد الأخير” وهي أول قصص المجموعة تجسد الكاتبة من خلال هذه الحوارية الناشبة بين أبو غايب صاحب الكشك الذي يقع على ناصية شارع عمومي من شوارع بغداد وبين الشاب الذي أقبل عليه فجأة يسأله عن إحدى مجلات الفن، خلال هذا الحوار السريع حول الواقع المأزوم الذي طال الجميع في كل مكان في العراق يستأنس أبو غايب بطلعة هذا الشاب وحديثه المشوّق، خصوصا أنه عرف منه أنه أديب ويحب التمثيل، يخبره الفتى بأنه سوف يعرض عليه مشهدا كتبه بنفسه وسوف يؤديه أمامه بعد قليل، وقف أبو غريب في حالة ترقب يتأمل هذا الفتي وهو يشرب زجاجة البارد التي طلبها، وحالة من الحميمية المفقودة والترقب في هذا المناخ المأزوم تجمع بينهما “: بدا الرجل متشوقا لرؤية المشهد الذي سيعرض أمامه بعد قليل، بينما كان الشاب أكثر شوقا لأداء الدور الذي أنفق وقتا في إعداده، وعندما فرغ من شرب زجاجة البارد ركض صوب آلية عسكرية لجنود الاحتلال، وبكبسة زرمن حزامه الناسف انطلقت روحه لتعانق الشهداء” (2).بهذا النص الذي يعتبر المفتتح الأول لقصص المجموعة تجسد الكاتبة تجربة المقاومة والحرب علي أرض العراق في مشهدية نصية تحقق من خلالها الواقع علي أرض الواقع هناك، وتشير إلي أن هاجسها الأول في مفتتح مجموعتها هو هاجس المقاومة والكفاح والموت في سبيل الحياة، وهي ككاتبة عراقية وبهذا النص تعبر عن رؤيتها تجاه مصير وطنها المأزوم والواقع الآن تحت نير الاحتلال. كما تختم الكاتبة مجموعتها أيضا بقصة “إلى الوراء در” التي أخذت عنوان المجموعة كلها وهي إحدى قصص الحرب التي نجحت الكاتبة في تنضيد خطوطها واستبطان وقائع نسيجها الدرامي، وتلمست من خلالها ملامح كتابة قصصية على طريق النضج التعبيري والفنى، فقد اختزلت الكاتبة في هذا النص كل ويلات الحرب وما تفعله على صعيد الواقع وغير المألوف فيها كنموذج حي لقصص الحرب، وهي تذكرني بما كتبه الكاتب الألماني إريك ماريا ريمارك في روايته الشهيرة عن الحرب “كل شيئ هادئ في الميدان الغربي”، استخدمت الكاتبة في هذا النص الفلاش باك من خلال العنوان “إلى الوراء در” حيث تعود الذاكرة إلي هذه الأعوام التي مضت من عمر الراوي لتسرد وتحكي عن السر الرهيب الذي يحمله بين جنباته “:مر وقت طويل وأنا أكبّل بالصمت لساني، لكنني سأشرع اليوم أبواب ذاكرتي، فليس هنالك ما أخشاه، لأنني لا أنوي ترك دليل يدينني، كل ما في الأمر إني سئمت صمتي والخوف، وأريد أن أبث لهذه الأوراق الصماء بعض أحزاني”. (3).ويعود المشهد إلى حلم الزمن الجميل حين كانت بغداد ترفل في أبهى أثوابها، فهي تشخص بخصبها وجنونها، بشوارعها المزدانة بالفرح، بشواطئها المكتظة وأشجارها السامقة المعطرة بمياه دجلة الخالد. كان الراوي في أوج صباه، الأحلام تبث فيه بهجة الحياة، يجوب الشوارع بحثا عن ملذات الحياة التي لا تتناسب مع حداثة سنه، يتعقب النساء في كل مكان، يعيش الحياة بطولها وعرضها، ينهل منها ما شاء له وهو في هذا السن المبكر، وفجأة تتحّول الأوضاع تحولا جذريا، فبعد هذه الحياة الشبقية الجامحة يتحول العالم كله إلى النقيض حين يذهب الراوي إلى دائرة التجنيد، في هذا الوقت الذي كانت فيه الحرب دائرة بين العراق وإيران “:خلف الأسلاك الشائكة وبعيدا عن العالم الرحب الغارق في المتع والملذات عرفت أن للحياة وجوها أخرى وأن للوجوه حياة أخرى غير التي نعرفها مهما حاولنا الاقتراب، لأنها لا تكشف عن حقيقة ذلك الوجه إلا لمن ترغب أن تمنحه ذلك الشرف الرفيع”.(4).واجه الراوي الحياة بوجهها الحقيقي وزمنها الحقيقي في بداية تجنيده، ولأنه كانت له طلة تميل إلى الأنوثة بعض الشيء فقد تعرض لمضايقات زملائه في دائرة التجنيد، كما تعرض أيضا للاغتصاب من أحد كبار الضباط في المعسكر الذي انتقل إليه، وعندما انتقل إلي الجبهة وجد الموت حاضرا في كل مكان من الجبهة “:مرا صار طعم أيامنا، الحرب تعزف مارشا جنائزيا يبعث الأسي في أرواح الأحياء والأموات علي حد سواء، وليس من أمل في النجاة من آتون هذه الحرب التي لم يتمكن مشعلوها من إخمادها فأكلت على مائدة أجسادنا وشربت، بينما نتضور اشتياقا للسلام”.(5).ويلجأ الراوي إلى حيلة للهروب من أتون المعركة حين يدعي الجنون، وينقل إلى مستشفى الأمراض العقلية، وتنجح حيلته في نجاته من براثن الموت على جبهة القتال ولكنه سجن نفسه في بوتقة النسيان، فهو نزيل المستشفى لا يغادرها، ولكنه يحاول أن يختبئ داخل نفسه خوفا من لجان التفتيش التي تزور المستشفى كل فترة لتنقل إلى الجبهة من تراه هي قد شفي من جنونه. إن قلق الموت في هذا النص يمثل عنصر القلق للسر الغامض الذي يؤرق شخصية الراوي ويجعله بعد مشاهدته لمشاهد الموت والجثث والدمار في جبهة القتال يتمسك بآخر خيط من خيوط الحياة الواهنة في هذا الجنون الذي زعم أنه تلبسه. شكلت قصتا “المشهد الأخير”، و”إلي الوراء در” في نسق المجموعة حالة خاصة من حالات القص المبني على رؤية قومية والقصتان تشكلان تجربتين للحظات تاريخية في تاريخ العراق، لحظة اجتثت من تاريخ الحرب مع إيران في قصة “إلىالوراء در”، ولحظة آنية من مشاهد المقاومة ضد المحتل الأمريكي في بغداد في قصة “المشهد الأخير”، القصتان ببعديهما يعبران عن رؤية تجاه الوطن وتاريخه الملئ بالتوتر والقلق المضني والحروب والثورات والمحن، كما تمثل قصة “اطمئن” جانبا مغايرا من جوانب الموت المنبعث من الإيمان بضرورة مجابهة العدو مجابهة ضارية حتي النهاية، القصة تجسد نوعا من جوانب الصوفية الباعثة على التوحد مع الذات العاشقة، والعشق هنا في هذا النص يسير متوازيا مع عشق الوطن المسلوب، هي في بحثها المضني عن الحب كانت تبحث عن الخلاص، تبحث عن فارس يحمل سمات الفرسان “: قبل أن أراه كانت الأرض تميد تحت أقدام العالم بأسره، ولأن الواقع أمر مفروض علينا، يتعايش معنا، يدخل غرف نومنا.. يتسلل إلي أحلامنا، كان لا بد أن أحلم برجل من نوع خاص، رجل يحمل سمات الفرسان”. (6).وكان هذا الرجل هو شيخ تجاوز الخامسة والأربعين توحدت في ذاته رغبة الموت في سبيل الأرض والعقيدة والعدل، أحبته لدرجة الجنون، هو مهموم بالأمة، وهي مهمومة به، توحدت به في صوفية عشق لا تعرف لها نهاية، ثمة لغة عالية الأداء تعبر عن كنه وماهية هذا العشق في نسيج هذا النص أفرزها هذا التوحد الصوفي في نسيج النص “: في لقائنا الأخير كان غريبا، ترك في نفسي آثارا لا تمحي، كان متحمسا متأهبا.. بدا لي أكثر شبابا بعد أن أطلق الفارس الذي كان ينضوي تحت جناحيه. بحماس قلت له:- الحرب على الأبواب، فماذا نحن فاعلون؟- وجودنا مسألة محسوبة على الزمان والمكان، وثمة من لا يريد أن يمر مرور الكرام دون أن يسجل ولو نقطة في تاريخ هذا الوجود.- الشعب العربي محبط، وهو لا يكف عن الدعاء.- الدعاء وحده لا يكفي، هنالك من يريد نصرا مجانيا دون أن يشارك أو يدفع ثمنا”.(7).ويسقط الشيخ في أتون المعركة وتستباح بغداد وتنفصل الذات عن الواقع ويصبح الموت هو اللغة اليومية التي نسمعها في كل وسائل الإعلام. لقد سقط الشيخ، وتوقف نبضه، ولكنه لا زال ينبض في داخل الأمة كلها. القصة تعبر عن الفارس المنتظر الذي يظهر دائما في المحن والملمات، وهو في التاريخ متقادم، ولكنه في عرف التاريخ أيضا قادم لا محالة، التوحد معه يبدو من خلال الأمل والعشق والغوص في أعماق الرغبة العارمة في البقاء.قصة أخرى تجسد مشهدا من المشاهد التي أفرزتها الحرب في العراق هي قصة “لصوص من نوع آخر” هي نموذج من نماذج الخواء الذي طال الجميع، والفساد والسرقة التي أصبحت سمة من سمات الحياة هناك، ولكنها سرقة من نوع جديد، سرقة الأعضاء، هذا الرجل الذي أصابه خواء الحرب فأصبح كتلة من الحزن، روحه هائمة، وأفكاره حلقات مسننة لا تنفك تضغط على رأسه المثقل بالهموم، إنه يبحث عن أبسط مصادر الحياة، يحلم بمأوي حتي لو كان هذا المأوي داخل السجن “: بالأمس افتعل مشكلة ليبيت في أحضان أحد السجون، فلقد سئم وجوه أصدقائه التي تنطوي على ضيق كلما حل مساء جديد” (8) .هو يسير في شوارع بغداد على غير هدي، يبحث عن ملجأ أو مأوي فهل للخروج من سبيل “: استعرض حياته.. حياته كلها، إنها تاريخ حافل بالحروب، هل أبقت تلك الحروب على شيء؟ هل هناك أمل في أن يستعيد إنسان هذه الأرض أمنه واستقراره؟ هو لا يدري، لكنه يعرف تماما أن العشرات من الضحايا يتربصون بالموت، علهم يجدون فيه الراحة بعد عذاب” (9).فجأة انقض عليه رجلان وهو يسير في الشارع أدخلاه السيارة عنوة. لم يشغله التفكير فيما انتواه هؤلاء الرجال لأنه لم يجن من هذه الدنيا إلا الهباء، سري المخدر في جسده وفي الصباح رحل إلي حيث الملجأ الأخير، ألقي به اللصوص في أحد الأماكن النائية بعد أن سرقوا كليتيه. القصة تحمل مأساة الحرب وإفرازاتها الواقعة علي طبقة المهمشين، والتائهين في خضمها كما يبدو الترميز فيها واضحا حيث السرقة مجازيا قد طالت الوطن وثرواته جميعها. ثمة إشكاليات أخرى تظهر في بعض قصص المجموعة، هي لا تنفصل عن الإشكالية الأساسية المهمومة بها الكاتبة وهي هموم الوطن، لكن العدل والأمان هي تيمة أخري معادلة لنفس هموم الواقع داخل الوطن، إن لم تكن هي رافدا من روافده المجازية، ففي قصة “صدقوني” تستهل الكاتبة نصها بهذه العبارة “:قاتمة تلك الليلة..باردة.. مشحونة بالدخان، تنذر بعاصفة مدمرة، مجنونة أسقطت سنواتي في جب مظلم ليس له قرار، ومضت دون أن تلتفت إلي· قاس ومريع ذلك المشهد الذي كنت جزءا منه، حملني هيكلي، بل أنا دفعته إلي مسرح مقفر لألعب دورا رئيسيا يشاركني البطولة رجل ميت، أنا الوحيدة التي تعرف سر موته”. (10).بهذه الاستهلال المأزوم المجسد لواقع الحدث الرئيسي للنص ترفد الكاتبة البداية وهي تسرد وقائع ما حدث، في نسيج يسوق الأحداث والهواجس في آن واحد، لقد ساقها القدر إلي هذا الموقف المشين وهذه المحنة القاسية التي جمع خيوطها بيده وسد أمامها كل الطرق لإيصال الحقيقة التي لا يعرفها أحد سواها، لقد ذهبت إلي محل الكوافير حمدي في يوم شديد البرودة وفي ساعة غائمة مظلمة، لا تدري ما الذي ساقها إليه في هذا اليوم العصيب وهذه اللحظات القاسية، كان المحل يقع في طرقة طويلة مظلمة ولا يوجد بجوارها محلات أخري، فوجئت بالباب مفتوحا، والهواء يعصف في الخارج والداخل بكل شيء، دخلت، وجدته عاريا تماما عندما رآها فزع وبهت وسقط ميتا· أمام هذه الحقيقة التي لم تستطع إثباتها، وقف الزمن بالنسبة لهذه المرأة وضاع صوتها وسط أصوات الباطل التي حاصرتها من جميع الجهات، وأصبحت امرأة في مهب الريح، تصرخ بصوتها الضعيف ولا من مجيب “: مرت أعوام وأنا أعاني من الإحساس بالذنب تارة، ومن المصير الذي صرت إليه تارة أخري”. (11).ثمة قصة أخرى تعالج نفس الإشكالية، إشكالية إدانة المرأة في وقائع نافذة، وثمة اهتزاز نفسي وشعور بالدونية يعتمل في فكر وخواطر هذه الشخصيات المنتخبة لقصص هذه المجموعة من خلال قصة “على ذمة التحقيق” فهذه الفتاة التي تعمل في مركز للتجميل وتتهم بسرقة حقيبة إحدي المترددات على المركز تصر صاحبة الحقيبة على إبلاغ الشرطة، بينما تحاول بعض الأصوات الأخرى الوقوف بجانب الفتاة البريئة من هذه التهمة الباطلة، لكن هذه المحاولات جميعها تذهب سدى، وتساق الفتاة إلى قسم البوليس وتحال إلى النيابة، وتتحول الفتاة في نهاية النص وبعد أن تعرضت إلى هذا الموقف المهين إلى إنسان مهدر الكرامة على ذمة التحقيق حيث فقدت الإحساس بالذات والقدرة على التفكير وهي تعلم تماما أنها بريئة من هذه التهمة.القصة ذات محتوى إنساني حيث تجمعها مع شخصية قصة “صدقوني” نوع من التناص في مضمون القصتين. ثمة رؤية تحكم بعض قصص المجموعة تتواجد عناصر الفانتازيا والغرائبية، ففي قصة “ولدت مرتين” وهي قصة تجسد حالة من حالات التماهى والغرائب أو ما نسميه تناسخ الأرواح، وقد اختزلت الكاتبة هذا المفهوم في هذه العبارة المستمدة من النص حين تقول “:الصلة بين الأشخاص وما يترتب عليها من سلوك، تقتضيه عوامل ثابتة ومحددة، أما هذا الشعور المزدوج الذي يتعدي حدود المألوف، فإنني أقف أمامه عاجزا، فثمة خيط لا محسوس يخترقني وإياها، لا يدركه أحد سوانا” (12).فشخصية الراوي السارد لهذه الواقعة يحكي موت أمه بعد مكالمة تليفونية غريبة معها، ثم ولادتها من جديد في مخاض زوجته، كان يعمل في منطقة الخليج وقد أصيب هناك بعرق النسا، ما سبب له آلاماً وعجز اًفي الحركة، وحين عودته من غربته الخليجية يجد طفلته هويدا الابنة الأم قد ولدت، هي اللغز والأمر المحيّر الذي لا يعرف سره سواه، عندما علم بانتقال زوجته للمستشفي للولاده “:لست أدري لماذا؟، وفي تلك اللحظة بالتحديد، امتدت يدي لتطلب رقم والدتي في مصر، كنت أعمل حينها في إحدي دول الخليج، لم تدهشني كلماتها، لأنني لم أدرك معناها إلا بعد حين.- ولدي الحبيب..أعرف أنك حرمت مني كثيرا، وبعدت عني كثيرا، من أجل هذا سأكون معك بعد ساعات من الآن، لأني سوف أولد من جديد، سوف تضع زوجتك مولودة أنثي، وسيغادرك الألم حالما تولد”.(13).القصة تتماهي في حدثها وتجسد مجازا الأم العائدة في جسد الابنة، النص رافد آخر من روافد الكتابات التي أبدعت فيها الكاتبة، واحتفت فيها بظاهرة الامومة في صور مختلفة، ربما هي رافد آخر يضاف إلي الروافد المجازية المتعلقة بالهم القومي التي بدأت به الكاتبة مجموعتها، وفي قصة “أحبها بجنون” تتكئ الكاتبة أيضا على نفس تيمة الأم وعلاقة أبنتها الراوية التي تحاول الاستئثار بحب أمها المرأة البسيطة المتفانية في خدمة وحب أبنائها الكثيري العدد، تتلمس الابنة الكثير من المحاولات للاستئثار باهتمام الأم وحدها دون أخوتها، تدعي المرض حتي إنها شعرت فعلا بآلام المرض الحقيقية حتي صدّقت نفسها، تترك العلكة والسندويتشات في فمها أثناء النوم فتسحبها أمها من فمها وهي تردد البسملة، تدعي أنها تمشي وهي نائمة، محاولات عديدة للفت نظر إلي ذاتها وحدها دون بقية الأخوة الذين فطنوا إلي محاولاتها،المتكررة فكانوا يسخرون منها ولكنها نجحت في نهاية الأمر إلي ربط أمها بها مستغلة سذاجة الأم في عفويتها وتلقائيتها حين ادعت إنها سقطت في الخرابة المجاورة، وصدقتها أمها بعد أن رأت الدماء الجافة علي جسدها، القصة بها بعد غير مرئي تحكمه هموم الوطن في تقديري، هناك بعد مجازي رابط بين هذا النص وبين النصوص الأولي في المجموعة، قصة أخري من قصص المجموعة تجسد العلاقة بين الذات والآخر والمنطوية علي محاولة تزييف الواقع والإيهام بوجود عوالم خفية غير مرئية علي صعيد هذا الواقع ففي قصة “عالم بلا عيون” يتماهى الواقع ويتغّرب من خلال رؤية مرضية ذاتية تسردها الساردة الراوية حول طبيعة ما كانت تواجهه في حياتها، هي تعيش الوهم بكل مظاهره، حالة من حالات الوهم الحادة، والعزلة المرضية التي فرضتها علي نفسها طوال سنوات طويلة. ولكنها في هذا المساء حاولت أن تخرج من شرنقتها الذاتية لتواجه الحياة بكل ما تحمل من تأزمات وهموم ذاتية، كشف رجل تعرفت به لأول مرة النقاب عن طبيعة هذا الوهم في لحظات قصار “: لا أكاد أصدق، لا يمكنني التصديق، فكيف يتسنى لرجل يلتقيني للمرة الأولى أن يكتشف ما لم اكتشفه في نفسي طوال حياتي؟!” (14).بهذا الاستهلال بدأت الكاتبة قصتها، لقد كشفت الراوية عن أزمتها الحادة حينما قبلت دعوة حضور عيد ميلاد أبنة إحدي زميلاتها، وهناك تكشف عن حقيقة ذاتها وعن مظاهر الوهم التي عاشته خلال هذه السنوات الطوال من عمرها، لقد كانت تؤمن بمشاركة الجن لحياتها، خلال حوار وجدل دار في هذا اللقاء حول العوالم الغيبية، وجدت نفسها تشارك في الحوار دون تحفظ، أو سابق معرفة، تدلي بدلوها من خلال ما تؤمن به وما تشعر به من أحاسيس حيال هذا الموضوع المعقد الشائك.ويتدخل الرجل الذي تعرفت به منذ لحظات في الحوار، ويشير عليها بالتوجه إلى طبيب نفسي لعلاجها من الوهم المسيطر علي ذاتها، وهناك يكشف الطبيب النفسي عن وقائع متجذرة في ذاتها منذ الطفولة هي التي سببت لها هذه الأوهام وهذه العزلة التي اكتنفت حياتها.وفي قصة “لم يعترف” تجسد الكاتبة أيضا بعدا قد يبدو مألوفا في علاقة الرجل بالمرأة، هذه العلاقة التي يأخذ كل منها ما يراه مناسبا لواقع حياته، المرأة تريد الاستقرار مع شريك حياتها، وبناء بيت تهنأ فيه وتمارس حياتها كما ينبغي أن تمارس، وتنظر إلى واقع حياتها من خلال هذه النظرة الاحادية الموقف، والرجل يريد أن يأخذ من الحياة ثنائيتها زوجته وما يرتبط بالمرأة بوسائلها المشروعة وغير المشروعة، الراوية تحدد وقائع المشهد النصي في هذه القصة من خلال إحساسها بأنوثتها تجاه زوجها وإحساسها بمحاولة مشاركة الآخرين لها في جذب اهتمام الزوج، هي بأعوامها الأربعين تحاول الإمساك بخطوط الزمن، وتحاول بشتي الطرق رأب هذا الصدع الحادث في حياتها الزوجية والمتسبب فيه عوامل الزمن، استعانت بطبيب جراح لإجراء عملية تجميل لاستعادة زوجها من جديد، نجحت هذه العملية وعادت إليها سنوات عديدة من عمرها، لكن كان لهذا الفعل والتحول في الشكل والمضمون رد فعل عند الزوج والابنة والابن، عندما يرافقها زوجها تشعره بأنها إحدي بناته، وكانت ابنتها تغار منها وتعاملها معاملة الند للند، كما كان ينظر أصحاب الابن إليها بشبقية أثارت غيرة الابن، تحولت الحياة داخل الأسرة إلى جحيم لا يطاق انتهى بالطلاق، وانتهت القصة بهذا التساؤل “:هل سعيت بنفسي إلى هذا الخراب؟ هل كان زواجنا سيستمر لو أنني لم أقدم على تلك العملية؟. (15).لقد ألقت الكاتبة المسئولية على الزوج في نهاية النص فهو لن يعترف بخطئه . وانحازت الكاتبة انحيازا تاما إلي بنات جنسها، في حين أن الإشكالية لها أوجه أخرى كثيرة يطرحها النص في بعض جوانبه، فالحفاظ على الزوج بهذه الطريقة قد أوجد ردود فعل ليست على مستوى الأسرة فقط ولكن ربما تكون أيضا على مستوى المجتمع الذي لا يرحم في مثل هذه الظروف. وفي قصة “كان معي” تمزج الكاتبة بين الهاجس الذاتي وظاهرة ما وراء الواقع في هذا النص المتماهي في نسيجه وموضوعه حيث تستهل النص بهذه العبارة “:كان ذلك الهاجس الذي أفعم نفسي خوفا منذ ساعات النهار الأولي نذير شؤم لحدث ما بت أتوقعه، قضيت يومي أطوي ساعاته بصبر نافذ حتى انطفأ نور النهار، وحل الليل بصحبة سحابات تحمل خيرا لأرض عطشي”. (16).تستخدم الكاتبة الحلم والرؤية الذاتية لتجسيد عالم ما وراء الواقع، في هذا النص فمن خلال الحلم تري الساردة أباها وقد عاد شابا، ويدور بينهما حوار تشعر منه الابنة من أبيها بأن هناك شئاً غير طبيعي وغير مألوف يحدث على مستوى الواقع، “: انتفض جسدي وانتابتني رعشة برد، لم أكن على يقين بأن الحديث الذي دار بيني وبين أبي كان حقيقيا أو حلما”.(17).استخدمت الكاتبة أيضا عنصري البصر والبصيرة في التدليل على المعنى الذي وضعته داخل نسيج هذا النص عبر هذا اللقاء بين الأب الراحل والابنة التي تنتظر قدوم زوجها، علي مستوي الواقع والبصر رأت الابنة أباها في الحلم وقد عاد شابا على غير المألوف الذي تراه فيه، وعلي مستوي البصيرة شعرت في هاجس ذاتها بأن الأمر لا محالة ينذر بكارثة، فما حدث في هذا الحلم له دلالاته وحين يعود الزوج إلي المنزل تعود الحياة إلى ممارساتها الطبيعية ويخبرها زوجها بأن أباها قد رحل. ثمة قصة أخرى تجسد نفس التماهي ونفس الغربة الذاتية هي قصة “علي أعتاب العالم الآخر”، حيث استهلت الكاتبة هذا النص بهذه العبارة الدالة والتي تحدد واقعة وقوف عجلة الزمن عن الدوران، والبحث عن سر المجهول الذي لا يعرفه إلا من خلقه “:لست بحاجة إلي أن أمتحن ذاكرتي أو أضغط عليها لأتذكر ما حدث، فما حدث يمر أمامي كشريط سينمائي كلما أردت الرجوع إلي ذلك اليوم، بل إلي تلك الساعة الساقطة من عجلة الزمن”.(18).استخدمت الكاتبة أيضا نفس عنصر الراوي المشارك في رؤية هذه الأحداث المتماهية أمامها، تأصيلا لمشاهد الحدث وتجسيدا لرؤية الغوص العميق داخل الذات الرائية لأحداث شبه متماهية، كما إنها في نفس الوقت شبه واقعية، الحدث الرئيسي في النص يبدأ من هذا الجسد المسجي علي طاولة العمليات واليد الممدودة إلي طبيب التخدير، ثمة شابان جميلان لم يتجاوزا العشرين يصحبان الراوية إلي مكان مجهول، هي تحث الخطي معهما في ممرات طويلة ملتوية، تشاهد الراوية مشاهد أولية تصيبها بالخوف والرهبة والفرح والفضول، ولكن عند حد معين، وعند باب مغلق، تلتفت لتجد نفس الشابين يعودان بها إلي جسدها المسجي على الطاولة “: الآن تتملكني رغبة عارمة للعودة إلي ذلك العالم من جديد، لكي أعرف..ماذا وراء الباب المغلق؟!.(19) .إن التماهي في قصتي “كان معي”، و”علي أعتاب العالم الآخر” هي جزء من هواجس الذات في التفكير والتفكر في لحظات الوعي الغائبة والحاضرة داخل الذات والتي يربطها بالواقع خيط شفيف غير مرئي، لكنه من خلال حب الاستطلاع والفضول يصبح الأمر وكأنه حالة من حالات التماهي والاغتراب تعيشه الذات وتقف من خلاله علي مشارف فكرة الموت المتواجدة بكثرة في قصص المجموعة بصورة أو بأخرى. لقد شكلت مجموعة “إلى الوراء در” القصصية في وعي الكاتبة حالة من التوحد مع الذات الكاتبة، وكانت الحقائق المتواجدة في نسيج هذه القصص هي روافد متعددة مثلت للقصة العراقية المعاصرة حالة من حالات التواجد والتميز والتفرد في جميع نصوصها.[c1]الإحالات :[/c](1) مشكلة الحياة، د .زكريا إبراهيم، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت، ص 199(2) قصة “المشهد الأخير”، مجموعة “إلى الوراء دار”، سولاف هلال، وكالة الصحافة العربية، القاهرة، 2008 ص 8(3) قصة “إلى الوراء در”، المجموعة ص 115(4) المصدر السابق ص 118(5) المصدر السابق ص 120(6) قصة “اطمئن”، المجموعة ص 100(7) المصدر السابق ص 103(8) قصة “لصوص من نوع آخر”، المجموعة ص 13(9) المصدر السابق ص 14(10) قصة “صدقوني”، المجموعة ص 41(11) المصدر السابق ص44(12) قصة “ولدت مرتين”، المجموعة ص 10(13) المصدر السابق ص 11(14) قصة “عالم بلا عيون”، المجموعة ص 25(15) قصة “لم يعترف”، المجموعة ص 48(16) قصة “كان معي”، المجموعة ص 67(17) المصدر السابق ص 69(18) قصة “على أعتاب العالم الآخر”، المجموعة ص 109(19) المصدر السابق ص 113
أخبار متعلقة