بلقيس الربيعيناهدة الرماح أول فتاة عراقية تعتلي خشبة المسرح وتمثل بكل إبداع متحدية التقاليد يوم لم يكن المجتمع العراقي يتقبل أن تخوض هذا المضمار فتاة من عائلة كريمة ،ويوم لم يكن المسرح والسينما معروفين في العراق ، ونالت بجدارة لقب رائدة السينما والمسرح العراقي . وفي الأمسية التي أقامتها رابطة المرأة العراقية في ستوكهولم للفنانة المبدعة ناهدة الرماح أتيحت لي الفرصة لإجراء حوار معها .[c1]* حين تفتح ناهدة الرماح صفحات من حياتها العائلية وبداياتها الفنية ماذا تقول ؟[/c]- ولدت في منطقة الحيدر خانة في بغداد وترعرعت في كنف عائلة سعيدة والبيت الذي نشأت فيه كان يعج بالحياة السياسية ،فقد كان أخي أول نقيب لعمال المطابع في بغداد وكنت غير بعيدة عن الاضطهاد والتعسف الذي كان سائدا في العهد المباد ، فلازلت أتذكر مذبحة سجن بغداد وقد أثرت هذه الحادثة كثيرا على صقل شخصيتي . في طفولتي كنت اختلف عن باقي إخوتي، لم أكن أحب اللعب مع أقراني من الأطفال بل كانت تستهويني أحاديث الكبار وأصغي إليها رغم إني أحيانا لم أكن افقه منها شيئا . ومنذ طفولتي كنت أعشق التمثيل وضمن لعبي الطفولي كنت أغرق في أحلام اليقظة وأتقمص الشخصيات والأدوار المختلفة وكثيرا ما كنت اكلم نفسي وأخلق الحوارات وفي العطل المدرسية كنت أتابع أخبار الفنانين المصريين وأفلامهم من خلال مجلات الموعد والمصور وغيرها، منذ طفولتي كنت أتحسس معاناة أمي وهي بطبيعة الحال معاناة كل امرأة عراقية في ذلك الزمان . كنت أتمنى أن أصبح شيئا يسعدها ويبهج حياتها. تزوجت ولم أتجاوز الخامسة عشرة ولم أكن افهم ما هو الزواج والحياة الزوجية . في إحدى المرات مرضت فاصطحبتني أمي وأخي إلى الطبيب وهناك التقيت صدفة بالفنان إبراهيم الهنداوي الذي راح يحدثني عن شركة الأفلام التي أسسها عبد الجبار ولي العائد لتوه من أمريكا وبأن الشركة بحاجة إلى وجوه جديدة من بنات العوائل الكريمة للقيام بالتمثيل . وفجأة سألني :
[c1]* ناهدة هل تحبين أن تمثلي في السينما ؟ [/c]- ووقتها لم تسعني الدنيا من الفرح وأجبته على الفور وبدون تردد بأني موافقة . وأخذت موافقة أهلي وزوجي وبعد اختبار قصير تم اختياري للدور الأول في الفلم العراقي ( من المسؤول) عام 1957 ، وتجنبا للمشاكل التي تعرضت لها عائلتي بسبب قيامي بالتمثيل ، طلب أخي من مخرج الفلم أن تشارك عائلتي معي بالتمثيل. وفعلا مثلت أمي وأخي وزوجته وعمه فخري الزبيدي مما أضفى على الفلم مصداقية كبيرة لأن الشخصيات حقيقية وتمثل المجتمع العراقي، كما أنه طرح قضية حساسة وجريئة هي بكارة الفتاة ليلة الزفاف وفيه مثلت بعفوية وصدق. ولاقى الفلم نجاحا كبيرا وكانت الانطلاقة الأولى لي في عالم التمثيل كما كانت كلمات الإعجاب والإطراء أثناء عرض الفلم حافزا لي لمواصلة الطريق الذي اخترته. لازلت أتذكر الكلمات التي كان الجمهور يرددها بعد انتهاء العرض ( يا ناهدة أنت تاج العراقيين ...) وبعد هذا الفلم لم أتخلّ عن أحلامي في أن أكون ممثلة ، فكنت أقرأ كل ما يخص المسرح والسينما ومتابعة الأخبار الفنية في الكتب والمجلات.وتجدد أملي في العمل حين التقيت أستاذي ورفيق دربي سامي عبد الحميد الذي طلب مني أن امثل معهم في الفرقة ، وقمت بدور المرأة الخرساء مع سامي عبد الحميد في مسرحية ( الرجل الذي تزوج امرأة خرساء ) وهي مترجمة عن الفرنسية .[c1]* كيف كانت لحظات شعورك وانت تقفين لأول مرة على خشبة المسرح وتواجهين الجمهور وجهاًً لوجه ؟ [/c]- لقد كانت لحظات عصيبة أحسست بأن جسدي يرتعش وبأني لا استطيع أن أنطق حرفا واحدا وحين رفعت الستارة أصابني ذهول وشرود وترددت بالكلام ، لكني صحوت على صوت إبراهيم جلال يأتيني من خلف الكواليس (خذي نفسا عميقا يا ناهدة) وأخذت نفسا عميقا ورفعت رأسي وأبهرتني أنوار المسرح وأعطتني دفعة قوية لتأدية دوري بشكل بارع . وبعد انتهاء العرض خرجنا لتحية الجمهور وكانت فرحتي لا تضاهيها فرحة حين شاهدت أمي تصفق وتزغرد مع الجمهور ودموع الفرح في عينيها وتشق طريقها بين الجمهور وهي تردد ( هذه بنتي ..هذه الممثلة بنتي ) وشعرت وقتها بأني حققت الحلم الذي كان يراودني منذ الطفولة وهو إسعاد أمي.[c1]* كيف كنت توفقين بين عملك في البيت كزوجة وأم والوظيفة والمسرح ؟[/c]- في البداية واجهت بعض الصعوبات، فقد كنت مقسمة بين البيت والأطفال ووظيفتي في مصرف الرافدين وعملي في المسرح . حبي للتمثيل والمسرح ذلل تلك الصعوبات، فمثلا كنت لا اشعر بالتعب حين أقوم بغسل الملابس وإعداد مستلزمات أسرتي بعد أن أعود من المسرح حتى ولو كان بعد منتصف الليل.[c1]* قمت بأدوار عديدة ومتنوعة ،أي من هذه الأدوار يا ترى ترك بصمته على ناهدة ؟[/c]- بصراحة كل الأدوار التي قمت بتمثيلها تركت بصماتها عليّ ، لأنها كانت تعكس معاناة المرأة العراقية والاضطهاد الذي كانت تتعرض إليه وقد علمتني هذه الأدوار الصبر والشجاعة والقوة والصلابة وهذا هو حال المرأة العراقية ، فهي دائما تتحدى كل الصعوبات وتتغلب عليها وتبقى شامخة كالنخلة العراقية. [c1]* ما هي انطباعاتك عن الفترة التي تلت ثورة 14 تموز عام 1958 من خلال عملك في المسرح ؟[/c]- بعد ثورة تموز نشط العمل المسرحي والتلفزيوني بشكل كبير وقدمت العديد من المسرحيات الهادفة والتمثيليات الإذاعية التي لعبت دورا كبيرا في توعية وإسعاد الجماهير. وفي عام 1962 تأسست مصلحة السينما والمسرح في العراق وتم تعيين يوسف العاني مديرا لها ،وتشكلت الفرق المسرحية وتقرر إنتاج العديد من المسرحيات وكانت مسرحية(الخال فانيا) لتشيخوف من نصيب الفرقة التي أعمل فيها وكان لهذه المسرحية الفضل الكبير في صقل موهبتي الفنية .لكن بعد انقلاب شباط الأسود عام 1963 تدهورت أوضاع المسرح العراقي بسبب المضايقات التي تعرض لها الممثلون .وفي منتصف الستينات تحسنت الأوضاع نسبيا وقدمنا ثلاث مسرحيات ( مسألة شرف )،(عقدة حمار ) و (فوانيس ) ، كما قدمت مع الفنانة الراحلة رفيقة دربي الفقيدة زينب مسرحية ( النخلة والجيران ) للروائي الكبير غائب طعمة فرمان، وكان لهذه المسرحية تأثير كبير على المسرح العراقي لأنها عكست بحق ما تعانيه المرأة من ظلم واضطهاد واستطاع عامة الناس مشاهدتها ، كما واستخدم في العرض ولأول مرة المسرح الدوار . وتلتها مسرحية (المفتاح ) ولأول مرة ادخل الغناء والرقص على المسرح .[c1]* رغم أني لا أريد أن أثير ذكريات مؤلمة وأفتح الجرح من جديد ،لكن ما الذي حدث لك وأنت تؤدين دور زنوبة في مسرحية (القربان ) للروائي غائب طعمة فرمان ؟[/c]- في ليلة 1 / 10 / 1976 وقبل الذهاب إلى المسرح أحسست بصداع كبير في رأسي فذهبت إلى الطبيب الذي نصحني بمراجعة طبيب العيون .نصحني الطبيب بعدم الذهاب إلى المسرح وعلي بالراحة التامة لأن هناك انفصالاً في شبكية عيني. ورغم تحذيرات الطبيب و إلحاح المخرج فاروق فياض بتأجيل العرض، ذهبت إلى المسرح لتقديم العرض .وأنا على خشبة المسرح ومع كل مشهد كنت أحس بأن النور يتلاشى شيئاً فشيئاً وفي المشهد الأخير فقدت البصر وشعرت بأني أسير في ظلام دامس، لكن صيحات الجمهور (عيوننا فداك يا ناهدة ) بددت ذلك الظلام." تزداد نبرات صوتها حزنا وهي تتحدث عما حدث لها "وتوقف العرض لمدة أسبوع بعدها تمّ ترشيح الأخت إقبال محمد علي لتؤدي دور (زنوبة) في المسرحية . رغم إني فقدت بصري لكن صدقيني أن حب الجمهور هو نور عيوني وأحس قلبي متفتحاً من حب الناس وهذا يعطيني زخما لمواصلة العطاء.[c1]* وماذا عن معاناتك في الغربة ؟ [/c]- في شهر يناير 1979 اضطررت كغيري من الوطنيين الشرفاء الى مغادرة الوطن إلى دول الشتات هربا من القتل والإرهاب ، وتعددت بي المنافي وعانيت في الغربة كل أصناف المرارة والعوز وبدأت رحلتي المضنية مع المرض ، لكن كل هذه المعاناة لم تثنني عن مواصلة طريقي وحبي للمسرح .فقد كنت من مؤسسي المنتدى العراقي في لندن كما قدمت العديد من المحاضرات والندوات عن الفن والمسرح في معظم دول أوروبا وأمريكا والخليج . كم حاول الزمن أن يلويني لكني أنا لويت الزمن ، ورغم معاناتي لكني لم أفقد صلابتي ولازلت أشعر بأني أقوى من الحديد .وأخيرا ناهدة الرماح التي فقدت بصرها من اجل المسرح وقدمت الكثير منذ الخمسينات من القرن الماضي بحاجة إلى مساعدة كل من يؤمن بالحرية والتقدم أن يمنحها بصيصاً من النور الذي حرمت منه لم هذه السنوات .