أضواء
في الوقت الذي يشهد فيه العالم قفزات هائلة في مجال العلم بميادينه كافة ومنها علوم الفلك، تتكرر الأحاديث نفسها في الأمة العربية والإسلامية لدرجة تبعث الملل في النفس ولا تكاد تتغير عن رؤية الهلال ليلة الأول من رمضان وليلة الأول من شوال وليلة الأول من ذي الحجة وكذلك ليلة تحديد غرة المحرم وهو الشهر القمري الأول في السنة الهجرية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ويتجدد الجدل حول إمكانية الاعتماد على الحسابات الفلكية ( وهي دقيقة جدا الآن ) أو الاعتماد على الرؤية البصرية فقط ( وهي متعذرة غالبا )، وكأن الأمة لا تعلم ولا تعرف أن هذه المواسم تتجدد إلى أن يرث الله الأرض ومن فيها، ويبدو أن هذه المسألة لن تقف أبدا طالما أن العلماء لم يتفقوا على رأي واحد أو أن السياسيين أصحاب القرار لم يتدخلوا لوضع حد لهذه المسألة التي أصبحت تثير الآن فتنة بين المسلمين هم في الأساس في غنى عنها لأن ما يحيط بهم من الفتن والانقسام يكفي، وأن الحطب لا يحتاج إلى زيادة حتى يشتعل أكثر وخير دليل على هذا الانقسام ما حدث في السلطنة في عيد الأضحى على مدى السنوات الثلاث الماضية وما أثاره من لغط وبوادر فتنة مذهبية إذا وقعت - لا قدر الله - ستأكل الأخضر واليابس كما هو حاصل في العديد من المجتمعات الإسلامية.والحقيقة تقول إنه لا يعرف قيمة الصحة أو قيمة السمع أو البصر أو الشبع أو الأمن والاستقرار وغير ذلك من النعم إلا من يفقدها، وفي تلك اللحظة يتمنى لو أنه عرف قيمة ما كان يملك ؛ وحمد الله وشكره واجب على كل مواطن عماني على ما تنعم به بلادنا من أمن واستقرار وهدوء، وبالتالي فإن الواجب يتطلب من الجميع العمل على الحفاظ على هذه النعمة لأجل مستقبل أفضل لنا ولأجيالنا الجديدة التي تحدق بها المخاطر من كل صوب ، ويتساوى في هذا الواجب الكل ؛ سواء من كان علي كرسي المسؤولية أو المواطن العادي رجلا كان أو امرأة إباضيا كان أو سنيا أو شيعيا أو من أي ديانة أخرى، لأن الوطن ملك للجميع وعندما تأتي كارثة - لا قدر الله - فإنها تصيب الجميع وبالمقابل فعندما يأتي الخير يجب أن يعم الجميع وفي الحالتين فإن نعمة الأمن والاستقرار والهدوء والطمأنينة تنال الكل.ليس معنى هذا أننا وطن الملائكة وأن التجربة العمانية مرت دون أخطاء أو عقبات وليس معنى هذا أن الشعب العماني شعب الله المختار، فمنا الصالحون ومنا دون ذلك ( وشبكة التجسس الأخيرة أثبتت ذلك ) ولكن المقصود بهذا الكلام هو أن الأمن والاستقرار اللذين نعيشهما من أجلّ نعم الله علينا لأن سمة الاعتدال والوسطية في كل شيء والتسامح كانت من أبرز صفات العمانيين وهذا بدوره أدى إلى الحفاظ على الهوية العمانية العربية والإسلامية وأدى بدوره إلى أن نكون مجتمعا متحابا تجمعنا عقيدة واحدة وهدف واحد ويجمعنا وطن واحد نعيش على خيراته ولا تفرق بيننا نعرات طائفية أو عرقية أو مذهبية أو قبلية بشهادة الجميع وهكذا تربينا وهكذا عشناولكن هل يمكن لنا أن نهدم كل ذلك بأيدينا تحت حجج واهية كفتنة الهلال مثلا ؟لقد كتب الزميل محمد بن علي البلوشي مقالا في جريدة الشبيبة يوم السبت 2008/12/13 تحت عنوان (المذهبيون الجدد ..صنم يعود من جديد) حذر فيه من المذهبية لأنها مدمرة للأمة والأجيال، وهو في حقيقة الأمر تناول نقطة مهمة عندما قال في مقاله ذلك ( المذهبيون الجدد - وتحقيقا لأطماعهم الرخيصة - يمكن أن يقفوا أمام باب أي دولة أخرى ليصرخوا بأنهم مظلومون وأنهم يقتلون وأنهم لا يتلقون العلاج ولا يحصلون على الوظائف والمناصب وأن أبناءهم لا يلتحقون بالجيش أو المدرسة )وأهمية هذه العبارة تعود إلى أن هناك من يلقب نفسه بشيخ يزعم أنه خبير بالأديان والمذاهب ملأ ضجيجا في شريط مسجل به محاضرة تم تداولها عبر الهواتف النقالة، كلها افتراءات وأكاذيب عن السلطنة لا تستند إلى أي شيء حقيقي وواقعي وكأنه مكلف بالتحدث عن مجموعة من العمانيين هم السنة الذين كانوا أول من تبرأ من تلك الأكاذيب والافتراءات التي وصلت إلى حد الزعم بأن من يتكلم عنهم لا يجدون حتى مساجد يقيموا فيها شعائر الجمعة ولا يجدون مدارس ليتعلم فيها أبناؤهم ، وكثير من الترهات التي يترفع الإنسان عن ذكرها لأنها بكل بساطة هي كذب محضولو أن هذا الشخص كلف نفسه بالبحث وزار السلطنة سيكتشف أن من زوّده بتلك المعلومات كان مخطئا إلا إذا كان عنده حكم مسبق ففي هذه الحالة فإن الزيارة لن تنفع ولن تغير من موقفه شيئاإن الأمانة تقتضي أن يقول الإنسان الحقيقة ولا يتجاوزها إلى تقديم افتراءات قد تجد بعض القبول من ضعاف النفوس من المذهبيين الذين أشار إليهم محمد البلوشي وما أكثرهم الآن ، هذا في وقت نجد فيه أن سياسة الدولة هي سياسة التسامح ليس بين أبناء الدين الواحد فقط بل حتى مع الأديان الأخرى.الحصيلة النهائية لفتنة الهلال في السلطنة تشير إلى أن الدولة تتحمل جانبا كبيرا من المسؤولية في ذلك ولست أدري هل من خطّط لذلك كان على علم بما سيجره ذلك التخبط من فتنة أم لم يكن يدري ؟ وفي الحالتين فإن الأمر مصيبة.لقد كانت السلطنة على مدى التاريخ تتبع رؤيتها الخاصة، والناس راضون بذلك ومقتنعون، فإذا بالدولة تقرر أن تتبع تقويم أم القرى فجأة وتتخلى عن تقويمها، وقد استمر ذلك سنوات ورضي الناس وتعودوا، وفجأة إذا بها تقرر أن تتبع تقويمها مرة أخرى وتتخذ الحزم ضد كل من يخالف ذلك التقويم حتى وصل الأمر إلى تدخل الأمن، وقد أعطت الدولة كل ثقلها وراء الأمر وصدر بيان من مجلس الوزراء يؤكد صحة التقويم وصحة إتباع الحسابات الفلكية الدقيقة وركزت وسائل الإعلام العمانية على الإشادات العالمية للسلطنة في أسلوبها وإتباعها للنهج العلمي في إثبات الأهلة، وصدر بيان من مجلس الشورى يؤيد هذا الاتجاه، وظهر سماحة الشيخ المفتي في برنامج خاص قدمه د. كهلان الخروصي باسم ( ويسألونك عن الأهلة ) وأعيدت الحلقة في الإذاعة والتلفزيون أكثر من مرة، وكأنّ الأمر انتهى ولا عودة فيه، وتقبل الناس الفكرة ، ولكن لم تكد تمر سنة واحدة إلا وتتراجع الدولة عن قرارها بطريقة غير مقنعة أبدا، إذ اجتمعت اللجنة ونقل الاجتماع على الهواء والكل قال ما عنده وصدر بيان بعدم ثبوت الرؤية مثلما هو متوقع ورضي الناس بذلك ، فإذا الأمة كلها تتفاجأ بأن الدولة تغير من تاريخها مرة أخرى وتتبع تقويم أم القرى بعد مرور 4 أيام كاملة وكأننا كنا نشهد فصلا مسرحيا ونحن نتابع النقل التلفزيوني عن الأهلة، ولم نعد نعرف أين الخطأ هل في علمائنا أم في حكومتنا أم في علم الفلك نفسه !، وهل القرار سياسي أم ديني أم عاطفي ام أن هناك اختراقا ما الآن في الحكومة نفسها لجهات أخرى! أي أننا أصبحنا الآن في شك في كل شيء وفي كل أحد ولا يمكن أن نلام في ذلك لأن أمامنا مثلا صارخا حول الاختراق!( وعندما سأل الشيخ سيف الهادي في برنامج سؤال أهل الذكر سماحة الشيخ المفتي عن سبب تغيير التاريخ، لم يكن جواب سماحته مقنعا أبدا بل رد في ثوان على السؤال بأن هناك إمام مسجد شاهد الهلال، مع ابتسامة غامضة لا أدري هل كانت موجهة لسيف الهادي أو للمشاهدين أو مجرد إقناع النفس بأن سماحته على حق !)وقد استمرت القصة حتى العام الحالي حيث أُعلن عن اجتماع لجنة الأهلة، لكن فجأة صدر إعلان بأننا نتبع تقويم أم القرى مما يعني أن شهر ذي القعدة كان 28 يوما فقط وهو ما يتنافى تماما مع الشهور الهجرية ومع الحسابات الفلكية لهذا العاموقد أثارت مسألة الهلال هذه لغطا كبيرا وانقسم الناس ما بين مؤيد ومعارض مما يشير الآن - وبكل أسف - أن هناك أصابع تلعب في الخفاء لإثارة مجتمع متماسك موحد وآمن، مما يطرح أسئلة تحتاج إلى أجوبة ليس مني كفرد مسكين لا يملك من أدوات الثقافة أو السياسة أو القوة أو النفوذ أو الرأي شيئا - لكن استطيع أن أدعي بكل أمانة وتواضع أني أملك الغيرة و الإخلاص وأتمنى أن يكون موطني موطن الملائكة - بل من كل غيور على الوطن ووحدته ومستقبل أمنه وسلامته وسلامة أجياله وإذا كان علم الفلك قد تطور بما لا يدع مجالا للشك، فلماذا لا نعتمد الفلك ونترك غير ذلك ؟ثم لماذا تصر فئة أن نتبع السعودية فقط سواء أصابت السعودية أو أخطأت؟إن من يعيش على أرض عمان وهو مواطن عماني يجب أن يكون ولاؤه لعمان لا لغيرها أبدا، ومهما يكن أظن أن طاعة أولي الأمر واجبة إذا كان العصيان سوف يؤدي إلى فتنة تأكل الأخضر واليابس ، ونعوذ بالله من شر الفتن، وفي الحقيقة فإن علماء السعودية أنفسهم يفتون بجواز اختلاف الأهلة والمطالع مثل المشايخ ابن بار وابن عثيمين وعبد الله بن حميد رحمهم الله ولا حرج في ذلك ، بل إن سماحة الشيخ أحمد الخليلي مفتي عام السلطنة له كتاب حديث صدر مؤخرا بعنوان ( ويسألونك عن الأهلة ) يورد فيه آراء أئمة المذاهب الأربعة التي تجيز الاختلاف في المطالعإن الحل هو اعتماد الحساب الفلكي وأن تجتمع لجنة الأهلة شهريا كما هو حادث في المملكة المغربية التي يضرب بها المثل في الدقة في هذه الناحية وقد زادت الإشادات بدقتها عن الإشادات التي كانت تكال للسلطنة في هذا المجال لأن السلطنة لم تنهج مؤخرا نهجا واضحا في هذا المجال فهي تارة تأخذ بحساب أم القرى وتارة تعلن أنها تتبع الفلك مما أثار البلبلة كنا في الأصل في غنى عنها، مع التأكيد أن الحسابات الفلكية أصبحت دقيقة جدا وخير دليل على ذلك معرفة الكسوف والخسوف بدقة لألف سنة ماضية وقادمة ، والعالم كله يعتمد في صلواته الآن على الحسابات الفلكيةوالخلاصة لا يجب أن تتدخل السياسة في أمور الدين وبالمقابل على أهل الدين أن لا يتدخلوا في أمور السياسة إذا كانوا غير مؤهلين ولا أظن أن لدينا مشايخ يملكون رؤية سياسية جيدةإننا نعيش ولله الحمد نعمة عظيمة ومنّة ربانية كريمة هي نعمة الأمن والاستقرار يستظل بها الجميع من شر الفتن ، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أكد على عظم منزلة نعمة الأمن عندما قال عليه الصلاة والسلام: ( من أصبح آمنا في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )فلنا أن نتصور ما وصل إليه الآخرون من فقدان الأمن وما وصل إليه الآخرون من الاقتتال باسم المذاهب وما وصل إليه الآخرون من البلاء والفتن والتباغض ، ونظرة واحدة فاحصة للأوضاع في العالم تجعل من الإنسان العاقل أن يتفكر ويتدبر ويخشى مصيرا كذلك المصير، فعندما يخرج الإنسان من بيته لا يعلم هل يصل إلى مبتغاه أم سوف يعاد إلى البيت وهو أشلاء.والولاء يجب أن يكون لعمان لا أن يكون لأي انتماء آخر سواء كان مذهبيا أو عرقيا أو حتى نفعيا مؤقتا ، ويجب أن يبقى ولاء وانتماء العمانيين لبلدهم مثلما كانوا دائما لا أن يكون ولاء وانتماء للسعودية أو للإمارات أو لإيران أو باكستان أو تنزانيا أو غيرها ، وقد عددت أسماء هذه الدول كمثال فقط وليس لها أي دلالة سياسية أو مذهبية أو عرقية ، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنني كتبت مرة في جريدة الشبيبة أنه لو افترضنا جدلا أن هناك عمانيين نصارى فهل يجب أن يكون ولاؤهم لبابا الفاتيكان ؟ ولو فرضنا جدلا وجود عمانيين أقباط فهل يجب أن يكون ولاؤهم للأنبا شنودة ؟ ولو فرضنا جدلا وجود عمانيين يهود - والحمد لله أنهم غير موجودين - فهل يجب أن يكون ولاؤهم لبيريز أو ناتيناهو ؟يجب على كل إنسان أن يبدأ بنفسه أولا وينبذ التعصب وأن يعرف قيمة الانتماء والولاء لوطنه لأن الخطر كل الخطر ممن لا ينتمي لوطنه حتى وإن كان يعيش من خيراته ، والخطر كل الخطر ممن لا يقدّر نعمة الأمن والاستقرار في وطنه ، والخطر كل الخطر ممن لا يشكر هذه النعمة في وطنه - أي وطن كان - فمعظم النار من مستصغر الشرر، وعلى ما يبدو فإن الشرر هذه الأيام من الكبر بمكان.قد يظهر من يقول إنني من المطبلين، فليكن ولا ضير في ذلك لأن البعض يظن - خطأ - أن الوطنية الحقة هي فقط أن تنتقد الحكومة، ولكن مهما يكن يجب علينا أجمعين أن نعمل على وحدة الوطن واستقراره وأمنه سواء أصابت الحكومة أو أخطأت، حتى وإن كان هناك البعض ممن خان الوطن وشوهوا سمعة الأجهزة التي يعملون بها وشوهوا سمعة زملائهم، وسواء هناك من استفاد من الوطن أو لم يستفد ، لأن النار عندما تضطرم سيكون البسطاء والفقراء والخلصاء هم أول وقودها ، ولنا في العراق ولبنان ومصر وباكستان مثل وأي مثل! ويجب أن لا يفسر الأمر أننا إذا اتبعنا تقويم أم القرى فإننا بذلك نقصد الإباضية وأننا إذا اتبعنا الفلك فإننا نقصد السنة لأن هذه النظرة قاصرة من الطرفين والحل كل الحل هو ( حان وقت إتباع علم الفلك : درءا للفتنة ) ، لأن ذلك سوف يبعد الناس من كيل التهم جزافا مرة لهذا ومرة لذلك.