في الوقت الذي يعتقد فيه بعض العلماء والمفكرين وغيرهم من المهتمين بمشكلات التحديث والتطوير وأثرها على التنمية الاقتصادية وما سيؤدي إليه ذلك بالضرورة من حدوث تغيرات ثقافية جذرية قد تختفي من جرائها بعض الملامح الأساسية للمجتمع التقليدي، يرى آخرون أن القيم الثقافية والاجتماعية لها قدرة هائلة على الصمود في وجه عوامل التغيير ومقاومة التحديث بصورة مستمرة يدفعها إلى الاحتفاظ بالمقومات الأصيلة المتوارثة لكنها تبقى أحد أهم أسباب التفاوت والتباين بين المجتمعات. وفي بلدان العالم الثالث يثير عمق واتساع نطاق المتغيرات التي تتعرض لها ثقافاتها قلق الكثير من المفكرين خشية أن تختفي أنساق القيم الأخلاقية المتوارثة جراء تسارع حركة التقدم المذهل في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد دون أن تحل محلها أنماط أخلاقية جديدة متكاملة تسد الفجوات الناشئة بين مختلف فئات المجتمع وتتمكن من حفظ التوازن الثقافي الداعم لتماسك المجتمعات بهوياتها المتمايزة خاصة أن للتقدم العلمي خاصيتي الهدم والبناء في آنٍ واحد ويعمل على رفع الحواجز والعوائق التي كانت تفصل بين المجتمعات وبدلاً من ذلك فالتقدم العلمي قادر على التقريب بينهم وإن كان على حساب ثقافتهم وقيمهم الخاصة والمتغلغلة في نسيج حياتهم التي يكشف عنها الشارع العادي والمثقف العادي غير المبرمج برمجة رسمية وهذا كله تعكسه أوضاع الواقع.إن مشكلة انحسار الثقافات التقليدية تدريجياً أمام هذه المتغيرات الجديدة كانت قد بدأت في الظهور منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي ولكنها لم تحظ حينذاك بما تحظَى به من اهتمام في الوقت الراهن، لكن الذي يخشى منه أن تحل مبادئ أخلاقية دنيوية أو علمانية مستمدة من حقائق الحياة الواقعية محل الدين بالمعنى المعروف للكلمة وترسم قواعد السلوك وتتولى تنظيم العلاقات بين الناس، لأن مطلب توفير الكرامة الإنسانية ومراعاتها أصبح من المطالب الأساسية التي يتردد ذكرها بكثرة في المحافل الدولية وبخاصة في الندوات والمؤتمرات التي تعقدها منظمة اليونسكو وما خلصت إليه من أن أخلاقيات المستقبل سوف تقوم على التعاون من أجل السلام وتحقيق الأمن والتنمية وتحديد المسار نحو الديمقراطية والقضاء على الفقر والتهميش اللذين يزدادان بدرجة ملحوظة، ليس فقط في بلدان العالم الثالث بل أيضاً في الكثير من الدول القوية، وأن كوكب الأرض يعاني كثير من المواقف المتفجرة والأوضاع القابلة للانفجار ما يدعو إلى التركيز والإلحاح على الدور الفكري والثقافي والأخلاقي للمنظمة باعتبارها الضمير الإنساني للشعوب الفقيرة.في ضوء التقدم غير المحسوب في مجالات العلم والتكنولوجيا تفرض مشكلة البحث عن أخلاقيات للمستقبل نفسها على الكثير من العلماء والمفكرين ببعدها الإنساني يتضاءل أمامها كل ما يمكن لهذا التقدم تحقيقه من فوائد ومكاسب مادية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية ما جعل الجانب الإنساني يحتل مرتبة ثانوية في الكثير من المدن على الأقل أمام الزحف العلمي والتحديث التكنولوجي المتواصل والميل المتزايد نحو اتجاهات العلمانية والتفكير العقلاني الوضعي الرشيد.إن المستقبل يضع أمام الحاضر الكثير من التحديات المتعلقة بنوعية التوافق والتناسق التي يجب أن تسود المجتمع الواحد، حيث تتوقف نتائج مواجهة هذه التحديات على تصرفات البشر أنفسهم وسلوكياتهم والعلاقات القائمة بينهم والقيم التي يتمسكون بها الموجهة في الأصل لهذه العلاقات.لذا فإننا نجد أن أهم ما يميز أشخاص الشعوب الفقيرة في البلدان الإسلامية من المستوى الثقافي والاقتصادي المتوسط ويسترعي الانتباه هو إعطاء أولوية مطلقة لقيمة الصدق بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالقدر الذي يتجاوز العلاقات الشخصية ومستوى التعامل بين الأفراد حيث تحتل قيمة الصدق بينهم المركز الأول ويعد بعدها على الترتيب قيم التعاطف بالمسؤولية فالحرية فتقديس الحياة فالعدالة والإنصاف فاحترام الذات فالمحافظة على البيئة فقيمة التسامح فالسخاء والعطاء ثم التواضع فالتجانس الاجتماعي فالشرف فالإخلاص واحترام كبار السن الذي يأتي في ذيل القائمة.وفي السياق نفسه نجد البلدان التي سوف يبلغ فيها النمو العلمي والتكنولوجي مستوى لم يعرفه تاريخ الإنسانية من قبل فإن ذلك قد يؤدي إما إلى الفوضى والخلل والتفكك والحروب وانتشار المجاعات والأوبئة إلى الدخول في عصر من التعاون الإنساني والتنمية والتقدم والسلام، حيث أن ذلك يتوقف إلى حد كبير على نوع القيم التي سوف يختارها البشر أنفسهم ويعملون على تنميتها واستمرارها وترسيخ مشروعيتها مما يتعين على الناس أن يحسنوا اختيار القيم التي يرون أهميتها بالنسبة لمستقبل مجتمعهم الإنساني ككل وأن يتم ذلك الاختيار بطريقة عقلانية واعية ومتعمدة وهادفة.إن تكنولوجيا الاتصالات في تلك البلدان سوف تلعب دوراً مهماً في التقريب بين شعوبها ومجتمعاتها وتوفير فرص التفاهم والمتبادل وإدراك المعنى العميق لقيمها وأخلاقياتها وثقافاتها المختلفة من ناحية، وقد تؤدي في الوقت ذاته إلى اختفاء كثير من القيم والمعايير الأخلاقية التقليدية الخاصة والمتوارثة لدى كل شعب من هذه الشعوب حتى يتمكنوا من توفير أرضية مشتركة من القيم والأخلاقيات الكوكبية العامة.إن ما يحدث اليوم يعطينا دافعاً قوياً للتفكير في نوع العلاقات التي ينتظر أن تسود مجتمع الغد والمبادئ الأخلاقية التي سوف تحكم هذه العلاقات ومدى اختلاف هذه المبادئ عن الأسس التي تقوم عليها الروابط الإنسانية في الوقت الراهن وتقدير مدى اتساع الفجوة الثقافية التي سوف تفصل إنسان الغد عن الأجيال الحالية التي تكافح من أجل الصمود أمام تيارات التغيير الجارفة وتعمل جاهدة على توريث قيمها ومبادئها الأخلاقية والدينية للأجيال الصاعدة في محاولة مستميتة للإبقاء على هويتها الثقافية والاجتماعية من الضياع والاندثار.
أخبار متعلقة