النسوية والصوفية والشيوعية والتمييزالعنصري أبرزاهتماماتها
القاهرة/ 14أكتوبر / خالد محمد غازي: جاء الإعلان عن منح نوبل للآداب لعام 2007 للشاعرة والروائية البريطانية “دوريس ليسنغ” ليحيي من جديد الاتهامات للأكاديمية السويدية بتسييس اختياراتها، فالكاتبة التي أنتجت أكثر من خمسين رواية وكتابا على امتداد سنوات عمرها الثماني والثمانين بلغت ذروة مجدها الأدبي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يوم كانت أعمالها ترتبط بالقضايا الإنسانية المعاصرة، لكنها منذ ذلك الحين سلكت طريق الهبوط وباتت شهرتها وشعبيتها الواسعتان جزءا من الماضي.فهل هناك علاقة بين تكريم ليسنغ بالأجندة السياسية العالمية التي تضع تمكين المرأة بين أولوياتها ؟ هذا أمر لم تخفه الأكاديمية السويدية في إعلانها عن منح ليسنغ الجائزة، إذ جاء في الإعلان أن الاختيار قد وقع على هذه الأديبة كونها كاتبة ملحمة التجربة النسوية، التي أخضعت بالتشكيك والنار والقوة الرؤيوية المدنية المنقسمة على ذاتها للانتقاد، كما وصف الإعلان كتابات ليسنغ بأنها عمل طليعي ينتمي إلي تلك القلة من الكتب، التي أثارت رؤية القرن العشرين للعلاقة بين الذكر والأنثى.ويرى بعض النقاد أن العمل الذي أوصل “ ليسنغ” إلى الجائزة ، روايتها “ الدفتر الذهبي” الصادرة في عام 1962، وذلك استنادا إلى ما جاء في الإعلان عنها هذه الرواية التي استحقت منذ ظهورها صفة “إنجيل الحركة النسوية”، وأنه على الرغم من أنها تنقلت بين مدارس أدبية شتي وكتبت أنواعا مختلفة من الروايات تراوحت بين الواقعية والمغامرة وروايات الخيال العلمي والخيال التاريخي ، إلا أنها حافظت عبر كل هذه المسيرة علي اهتمامها النسوي محاولة في كل عمل جديد، اكتشاف عنصر آخر من عناصر التجربة النسوية.[c1]مئوية نوبلية[/c]وجاء فوز ليسنغ بالجائزة بعد قرن كامل من واقعة أول حصاد بريطاني لجائزة نوبل فقد نالها الشاعر العنصري، العبقري “رديارد كبلنغ” صاحب الصيحة الشهيرة: “ الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا”، ومن عام 1907 “كبلنغ” الى عام 2007 “ليسنغ”، حصد الإنجليز تسع جوائز من فئة نوبل ، “كبلنغ”، ثم “جورج برنارد شو” الذي رفض الجائزة، يليه “جلزورذي” احد اساطين الواقعية الاجتماعية في المسرح، ثم “ت. س اليوت” الذي غير مسار الشعر العالمي ، وصولا إلى احد كبار فلاسفة العصر “برتراند راسل”، لتبلغ دهشة العالم ذروتها مع “ونتسون تشرشل”، رئيس حكومة بريطانيا الأسبق، السياسي الوحيد الذي فاز بهذه الجائزة على امتداد التاريخ.وعلى خلفية إشارة الأكاديمية السويدية إلى نسوية “دوريس ليسنغ” في إعلان منح الجائزة وكونها المرأة الحادية عشرة التي تفوز بهذه الجائزة الرفيعة من بين مجموع الفائزين الـ 104 الذين تلقوها على مر الأعوام ، تؤكد دوريس ليسنغ أنها تكره الحديث عن الأدب بصيغة الرجال والنساء، مشيرة إلى أنها ترجح الاعتقاد بأن السبب وراء اختيارها للجائزة ، هو كونها روائية أفكار ومثل، إذ يندر ان يكون هناك منهج فكري من المناهج، التي راجت في القرن العشرين لم تجد تعبيرا له في أعمالها، وأنها قد عالجت التمييز العنصري ، والشيوعية والنسوية، والصوفية، ومرحلة ما بعد الاستعمار.وعن رؤيتها في ضرورة أن تولي الرواية الحديثة اهتماما اكبر بالسياسة، ترى أنه ليس من الضروري أن تبدي الرواية الحديثة أهمية تذكر للسياسية، موضحة أنها لم تسع إلى أن تكون أيقونة نسوية، لكن أن تكون امرأة وأن تكون لديها عقل يفكر, لأنههذا يلزمها بأن تكتب بنفس نسوي، وإلا فإن كتاباتها سوف تكون خارج العصر الذي تعيش فيه.وعن نشأتها، تقول ليسنغ: ليس بوسع غيري من الروائيين أن يحصلوا علي تجربة أفضل من تجربتي، التي جمعت بين البريطانية المفرطة التي مثلها الوالدين، والعين الأخرى التي زودها بها النشوء في أفريقيا، وإذ كنت مولعة بالتجول في الأدغال والمساعدة في أعمال الحقل أثناء تواجدي مع والدي في زيمبابوي, لأني كنت في الوقت نفسه قارئة نهمة في بيت تقول عنه انه كان مليئا بالكتب، التي تصل من لندن بطلب خاص من أمي.وتضيف: تلك المرحلة المبكرة من حياتي كانت لدي حياتان مختلفتان، ما كنت اقرأه وما كنت أراه من حولي، إذ كان لك ان تنشأ في روديسيا - زيمبابوي- فسوف يكون بوسعك أن تقرأ ديكنز وأن تعقد بعض المقارنات، إذ لا يوجد فارق كبير بين اوليفر تويست (بطل الرواية الشهيرة لتشارلز ديكنز) وبين أي طفل أسود لا يحصل على كفايته من الطعام.ولدت دوريس ليسنغ في إيران يوم 22 أكتوبر عام 1919 من أبوين إنجليزيين، حيث كان والدها يعمل كضابط في الجيش البريطاني ، ما لبثا ان انتقلا إلى روديسيا - زمبابوي الآن - لتمضي طفولتها في إحدي المزارع الكبيرة في زمبابوي، عندما كانت دوريس في سنتها الخامسة، وهكذا يمكن القول أن نشأة دوريس ليسنغ الأولى والمؤثرة في حياتها اللاحقة كانت في أفريقيا.وعندما كانت طالبة في المدرسة الداخلية وهي ابنة الحادية عشرة ، أعلنت ليسنغ عن رغبتها في أن تصبح كاتبة، وهي في سن الرابعة عشر غادرت المدرسة في إجازة مرضية ، ولم تعد إليها مرة أخرى، إلا أنها حصلت من القراءة على ثقافتها الذاتية، اختتمت مسيرتها بالحصول على جائزة نوبل، رغم أنها لم تتلق أي تعليم أصولي، ومن ثم لم يكن لديها أية مؤهلات علمية.وبعد ترك المدرسة بسنوات قليلة ، هربت من بيت العائلة لتصل كمأمورة مقسم في مدينة “سالز بوري” وتنغمس في حياة صاخبة انتهت باقترانها بزوجها الأول “فرانك وزدوم”، فلم تكن الحياة الزوجية الهادئة، ولا أمومتها لطفلين صبي وبنت الطموح الذي كان يحركها ، حيث تقول دائما عن تلك الفترة من حياتها: “ما من ضجر يعادل ضجر امرأة ذكية تنفق اليوم كله بصحبة طفل صغير”.وكان هروبها الثاني إلى مجتمع المهاجرين، الذين تدفقوا على “سالزبوري” هربا من الاضطهاد النازي، هذا المحيط الذي انغمست فيه وكان غالبية أفراده مثقفين، ومن ثم كان لهم تأثير عظيم عليها، ولهم يرجع الفضل في إكسابها الثقافة وكانت في ذلك الوقت قد بلغت الرابعة والعشرين، عندما طلقت من“وزدوم”؛ لتتزوج من “غوتفريد ليسنغ” اللاجيء والشيوعي الألماني، الذي حملت اسمه واعتنقت مبادئه وانخرطت في الحزب الشيوعي تحت تأثيره، ولكن رغم ان انتسابها للحزب الشيوعي لم يدم طويلا ، إلا أنه لون مزاجها باللون الأحمر وأهلها لأن تكون واحدة من الكاتبات القليلات اللاتي ارتبط نتاجهن بـ “الجيل الغاضب” في سنوات الخمسينيات.وكتبت ليسنغ في مذكراتها عن هذه الفترة مؤكدة أن الحزب الشيوعي كان الحزب المحلي الوحيد في روديسيا، الذي يدعو إلي إنهاء حكم الأقلية البيضاء، ومن ثم كان انجذابها إليه بفعل تعاطفها مع أبناء البلاد من السود، إلا ان تركها للحزب خلف لديها معاناة مؤلمة جعلتها غير قادرة على الانخراط بنفس الدرجة من الحماس في الحركات السياسية والثقافية الأخرى.ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، قررت درويس ليسنغ أن ترحل عن روديسيا، خاصة بعد تأكدها أن الزواج ليس من بين مواهبها ، حسب ما ورد في مذكراتها, فغادرت أفريقيا متوجهة الى البلاد، التي كان والداها يدعونها على الدوام “الوطن” وهي بريطانيا، وفي لندن نشرت روايتها الأولى “العشب يغني” عام1950، التي كانت كتبتها في أفريقيا، وهي رواية تتحدث عن علاقة محرمة بين امرأة بيضاء وخادمها الأسود في روديسيا العنصرية.وتبع صدور هذه الرواية صدور سلسلة “أبناء العنف”، التي ضمت خمس روايات تتابع نمو وعي البطلة “مارثا كويست” وهي تتفتح علي ملابسات الحياة الأفريقية، إلا أن الرواية التي صنعت مجدها جاءت عام 1962، وهي رواية “الدفتر الذهبي”، التي تميزت بطرحها الجريء لحياة المرأة الجنسية وعلاقتها بالعمل المنزلي، حيث سعت الروائية ليسنغ من خلالها الى تعريف المقصود بعبارة “المرأة الحرة”، واعتمدت الحركة النسوية الرواية كبيان لأهدافها، وبفضلها كرست صاحبة الرواية كاتبة نسوية من الطراز الأولالكاتبة النسوية الأولي هي صفة ظلت تلاحق ليسنغ حتي وقت تكريمها، وعن ذلك أشارت إلى أن رواية “الدفتر الذهبي” التصقت بها، كما تلتصق العلامة التجارية بالمنتج، ودفعتها إلى البحث عن وسائل للخروج من ظلها عن طريق معالجة العديد من المواضيع مثل الماركسية والتمييز العنصري, والشيخوخة، والإرهاب والصوفية ، وغيرها، إلا أن الارتباط بينها وبين تلك الرواية صار محتوما في ذهن القراء والنقاد على حد سواء.وأكدت مرارا أن هذه الرواية تحولت إلى ما يشبه العبء عليها، لأن النقاد صاروا يطالبونها بكتابة الرواية نفسها بصيغ مكررة وإعادة كتابتها مرة بعد أخرى، موضحة أنها اتجهت مدفوعة بالرغبة في تجاوز “الدفتر الذهبي” إلى الكتابة في مجال جديد وهو الخيال العلمي، وبالفعل بدأت في كتابة سلسلة من روايات الخيال العلمي ضمت خمس روايات ظهرت تحت عنوان “كانوباس في ارغوس.”خلال هذه الآونة ، حاولت دوريس ليسنغ أن تنجز ما يجعلها تتجاوز “الدفتر الذهبي”، وبالفعل بدأت تجربة الكتابة الصوفية، وكانت أعمال عديدة مثل “المدينة ذات الأبواب الأربعة” عام 1969، ثم “مذكرات احد الناجين” عام 1974، وحاولت أن تصف علاجا لموضوع الارهاب قبل ظهوره علي الساحة السياسية في روايتها “الإرهابية الطيبة” عام 1985، ثم كتبت في الخيال التاريخي روايتها الأخيرة “الصدع”.ويمكن تقسيم سيرة ليسنغ الإبداعية إلى ثلاث مراحل ، مرحلة الأربعينيات، والخمسينيات تسمي المرحلة الشيوعية، حيث اتسمت كتبها ونشاطاتها بمحاربة الاستعمار، والإمبريالية، والحروب العدوانية ضد شعوب آسيا وإفريقيا ، أما مرحلة الستينيات والسبعينيات فتسمي المرحلة النفسية، حيث تناولت كتبها الحالة النفسية، والمشاكل الاجتماعية، والمعاناة الشخصية، كما انشغلت في مرحلة التسعينيات بكتب الخيال العلمي.و سر تنوع البيئات في رواياتها يرجع إلى كونها قد عاشت متنقلة بين دول وقارات مختلفة، وعايشت نضال الإنسان في كل مكان أقامت فيه، فقد ولدت في إيران، ومن ثَم انتقلت إلى روديسيا في إفريقيا، وفيما بعد انطلقت إلى أوروبا، وفي كل الحالات وعلى امتداد تلك الدول والقارات لم تتوقف عن النضال المباشر وغير المباشر ضد الذين يحاولون قهر حريات الآخرين من الضعفاء والمغلوبين علي أمرهم.في روايتها ( العشب يغني ) التي صدرت عام 1950 تلقي من خلالها بنماذجها البشرية المتكونة علي ايقاع التفرقة العنصرية والتباعد الطبقي بين المرأة البيضاء والرجل الأسود ، الأولى متزوجة تقع في حب جنوني بالثاني الذي يعمل في مزرعة زوجها تغرم به وتحتقره في الوقت عينه، والأرجح أنها راحت تبغض نفسها حتي الموت لأسباب نابعة من واقع موضوعي ليس من اختراعها.و تسلط الكاتبة في هذا العمل الذي يضع الانسان، أسود أو أبيض، عارياً أمام نفسه، أضواء فاقعة على قوى اجتماعية سياسية تهيمن على حركة الانسان، حيث هو، جاعلة منه خرافة سخيفة وأضحية مجانية لا قيمة لها ، و ينطوي مضمون الرواية على سيرة ذاتية لنماذج انسانية تذهب الى حتفها بقرار ذاتي منها، تصعد إلى الهاوية لتلقي بنفسها إلي الأسفل السحيق حيث يبدو الموت عقاباً تستحقه بامتياز، صحيح ان هذا الكتاب يعزى الى المرحلة الماركسية التي كانت ليسينغ لا تزال تدور في فلكها، في تلك الاثناء، غير انه في مغزاه الانساني الأبعد يتجاوز هذا التصنيف المتعسف الى الكشف عن طبيعة النزاع العنيف بين الانسان وذاته، وبينه وبين الآخرين ، والكتاب هو الأشهر من بين مؤلفات ليسينغ، يمثل ملحمة للانسان المعاصر، قدره ان ينهزم على الدوام، ان يقع فريسة لموت لا راد له.أما روايتها “المفكرة الذهبية” فكانت الأكثر تعبيراً علي الاطلاق- من خلال مؤلفاتها - عن التداعيات والانكسارات والنجاحات والفشل التي شهدتها ليسينغ في حياتها الحافلة، ترفع الستار بالكامل عن هذه المشاهد المقتلعة من عمق المعاناة التي خبرتها في حياتها المعقدة. تروي ليسينغ هذه الوقائع من داخل التجربة في ابعادها الذاتية المحضة ومن ثم في فضاءاتها الانسانية البعيدة. تنسج ليسينغ أحداث هذه الرواية المؤثرة بلسان الشخصية الرئيسية فيها، واسمها انا وولف، وهي تمتهن الكتابة. ثمة تماثل واضح بين المؤلفة وهذه الشخصية، علي الأقل في التصدعات الداخلية، ومن ثم استعادة القدرة على النهوض والمقاومة من جديد..وهذه الرواية على الأرجح تطوير ذهني لرواية “ العشب يغني”، على الأقل من ناحية الاعتناء المركز بإيقاع الذات وهي تسعي إلى التفلت من مآزقها المستفحلة، إن ليسينغ وهي ترقب هذه الشخصية، من بعيد، تحتفظ لنفسها بمساحة واسعة من النقاط تفاصيلها الدقيقة ومعايشتها من كثب..و تتناول ليسينغ نفسها بلسان الآخر ، تفسح له في المجال ليغوص في أعماقه، وكأنه يتسرب الى أعماقها هي. تتيح لها هذه التقنية الذكية ان تخرج من ذاتيتها الضيقة الى ذاتها الأوسع مدى ، فالمرأة في روايات ليسينغ معاكسة للصورة النمطية للأنوثة، امرأة لا تتجنب المواجهة ولا تحتمي بجناحي الرجل بل تستخدم أجنحتها الغضة للتحليق فوق الهاوية في أحيان كثيرة، المرأة عندها ضحية للرجل بل رفيقة له في مواجهة ما يواجهه كلاهما من غبن المجتمع بقوانينه، وتسلط ضمير المجموع لينفي ضمير الفرد. وتعتقد ان أخذ المرأة موقفا عدائيا من الرجل وتوجيه أصابع الاتهام كلها له هو شكل معاكس للنمطية التي تحاصر بها وتشكو منها المرأة نفسها ، إنها تناصب العداء كل أشكال التعسف ، حتي حسن النية منها، ولذلك نجدها شخصية مثيرة للجدل حتي في أوساط من يظن المرء للوهلة الأولى أنهم رفاقها.