نبض القلم
في عشية عيد الفطر، وفي آخر ليلة من رمضان عام 1414هـ اتصل بي وكيل وزارة الأوقاف والإرشاد فرع عدن وقتذاك المرحوم الشمسي، يخبرني بأن استعد لخطبة عيد الفطر المبارك، حيث سيتم نقل الخطبة والصلاة مباشرة عبر الإذاعة والتلفزيون، والتي سيحضرها نائب الرئيس حينذاك علي سالم البيض، والذي كان وقتها معتكفاً في عدن، فقلت في نفسي أنها فرصة سانحة للحديث عن الأخوة الإسلامية، والتذكير بأهمية الوحدة والحفاظ عليها، في الوقت الذي كانت الأزمة السياسية على أشدها، وكانت قوى الردة تتكتل وتنشط عن الوحدة قبل أن تفصح عن نواياها في الانفصال.ومما قلته في تلك الخطبة التي ألقيتها على منبر مسجد الهاشمي في الشيخ عثمان، وبحضور نائب الرئيس المعتكف، فأنصه :إن الإسلام في ج ملته وتفصيله هو دين الوحدة، وتتجلى هذه الوحدة في صورتها الكاملة في كل أصل من أصول عقيدتنا الإسلامية وفي كل مظهر من مظاهرها، وفي كل شعيرة من شعائرها. فوجدانية الله أساس وحدتنا الإسلامية، ولا إله إلا الله شعار هذا التوحيد، وهي الأساس الأول للعقيدة التي جاء بها النبي (ص) فإذا كان التوحيد أول ما حرص عليه النبي محمد، وأول ما أوحي به إليه، فإن الوحدة هي آخر ما حرص عليه النبي (ص) في خطبة الوداع، حين قال : “ أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من والفضيلة، وجاءت كذلك لتجمعهم على المبادئ السامية التي تنفعهم في معاشهم وتهيئ لهم أسباب السعادة والنجاح. ثم قلت :ولقد عمل الإسلام منذ بزغت شمسه الوضيئة على دعم الوحدة، وعمل على بناء صرح الأمة الإسلامية شامخاً يتحدى المعاندين من أعداء وحدتها، ولقد وحد الإسلام بين معتنقيه تجمعهم على عقيدة واحدة، وربطهم بدين واحد، وشريعة واحدة، فقضى على ما كان سائداً قبل ذلك من أسباب الخلاف والفرقة وتعدد الآلهة الباطلة. ومثلما وحد الإسلام معتنقيه في العقيدة وحدهم أيضاً في العبادة، ووحدهم في الغاية والهدف. ففي الصلاة يقف المسلم بجانب أخيه المسلم في الجمعة والجماعة والعيدين، فهم جميعاً يتجهون إلى قبلة واحدة، وخلف إمام واحد، معلنين الخضوع والطاعة لإله واحد، في صفوف متراصة منتظمة، يتساوى فيها الجميع بين يدي الله، من غير مراعاة للفوارق الطبقية أو الأوضاع الاجتماعية، يناجي الجميع رباً واحداً، في خشوع وتضرع، لا يشعر معها أي واحد منهم بالتميز أو الفردية، بل يرى كل واحد نفسه كجزء من كل، ويشعر كل واحد منهم أيضاً بأنه عضو في مجتمع إسلامي متكامل، مجتمع موحد في أهدافه موحد في مشاعره، موحد في آلامه وآماله، لا فرق بين الفرد والمجتمع، ولا تمايز بين أفراد المجتمع الإسلامي، ولا فواصل بين الناس من حيث الجنس واللون، أو من حيث الحسب والنسب، فالجميع في المجتمع الإسلامي متساوون في الحقوق والواجبات، والمفاضلة بينهم لا تكون إلا بالتقوى.وهكذا ظللت أعدد وأعدد مزايا الوحدة، وفضائلها إلى إن قلت واليوم أيها الأخوة ونحن نحتفل بعيد الفطر المبارك في ظل دولة الوحدة جدير بنا أن نقف وقفة إجلال وتقدير لوحدة بلادنا المباركة، وجدير بنا أن نشكر الله على توفيقه إيانا لإقامة هذا الصرح العظيم، وجدير بنا كذلك أن نعزز صفوف وحدتنا الوطنية، ونزيل كل عوامل الفرقة من نفوسنا، وجدير بقادتنا أن يصفوا قلوبهم ويلغوا نوازع الشر من نفوسهم، ويلموا شملهم، ويعودوا إلى رشدهم، حتى يرضى الله عنهم ويهديهم إلى سواء السبيل.قلت ذلك وأنا انظر إلى نائب الرئيس الحاضر في الجامع والجالس في الصف الأول بجوار رفاقه، فرأيته قد انقبض وبدا عليه الارتياح من كلامي الذي كرسته كله للحديث عن وحدة الصف ووحدة الوطن ووحدة القيادة إلى آخر ذلك.فقلت في نفسي : ما الذي يزعجه في الحديث عن الوحدة التي كانت له شرف الإسهام في تحقيقها؟ فمهما كانت سلبياتها ومهما عظمت أخطاؤها فليس ذلك مبرراً للارتداد عنها والتنكر لها، فما كان مني في هذه اللحظة إلا أن أصرخ بأعلى صوتي قائلاً :أيها الناس، إني أسمع أصواتاً نكرة تريد أن تعود بنا إلى عهود التشطير، وأسمع همسات خبيثة تحرض الناس للرجوع عن الوحدة، وأشم رائحة تحركات مشبوهة تجرنا إلى الخلف، وتعيدنا إلى الوراء سنوات إلى أيام الجري واللهث وراء رخصة السفر لزيارة الأهل والأحبة. فاحذروا تلك الأصوات الشاذة لا تصغوا إليها، إنها أبواق الفتنة التي من شأنها أن تشعل نيران الحرب.وقبل أن أنهي خطبتي رأيت النائب يتهيأ للقيام من مجلسه فما كان مني إلا أن أنهي الخطبة بالقول :فالوحدة الوحدة أيها الأخوة، عظوا عليها بالنواجذ، فلا حياة لكم إلا بالوحدة، ولا كرامة ليمني إلا بالوحدة، ولا تقدم لبلادنا إلا بالوحدة، ولا تقدم لبلادنا إلا بالوحدة، ولا أمن ولا استقرار إلا بالوحدة، ولا ديمقراطية ولا تعددية سياسية، ولا حرية للشعب إلا بالوحدة. فحافظوا على وحدتكم، ودافعوا عنها، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وكونوا عباد الله إخوانا.قلت ذلك في عام 1994م، قبل اندلاع الحرب بعدة أشهر محذراً من التمادي في زرع بذور الفتنة التي تشق الصف الوطني، وها أنذا أعيده على مسامع القراء ليحذروا دعاة الردة، وصانعي الأزمات، ومروجي الشائعات، الذين ما فتئوا يحنون إلى الماضي البغيض بكل مآسيه.❊ إمام وخطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)