محمد زكريامن المفارقات الغريبة أن يوحد العرب في تاريخهم الحديث ، شخصية ألبانية مقدونية سنحت لها الأوضاع الدولية الملتهبة أن تدفعها إلى معترك الحياة السياسية في مصر والوطن العربي دفعًا في فترة حكم السلطنة العثمانية التي كانت في طريقها إلى الاحتضار . فقد تغيرت مجرى الأحداث في تلك المنطقة الحساسة من العالم على يد أحد الضباط الذين أرسلتهم السلطنة من ألبانيا المقدونيا إلى مصر لمحاربة ( الفرنساويون ) الذين احتلوا ولاية مصر المحروسة في سنة ( 1212هـ/ 1798م) . وبفضل ذكاء ومثابرة وتصميم وإرادة ذلك الضابط الألباني تمكن أن يتقلد مناصب هامة في ولاية مصر. فأطلع عن كثب على خريطة الحياة السياسية فيها فأدرك أن القوة السياسية الحقيقة في مصر تكمُن في المصريين أو القوة الشعبية التي في قدرتها أن تقلب كافة الموازين لصالح من يتكئ عليها . وعلى أية حال ، استطاع أن يكسبهم إلى جانبه في جميع المعارك السياسية الذي خاضها ضد عناصر القوى الموجودة على الساحة المصرية, وأن يضرب بعضها ببعض أو الإيقاع بهم ، كالجند الأرنؤد والانكشارية , وأن يزيل المماليك عن المشهد المصري السياسي , وبذلك انفرد بحكم ولاية مصر التي كانت تحت مظلة السلطنة العثمانية في وقت كانت القوى الأوربية تتكالب على أجزاء من ممتلكاتها في الوطن العربي ، وعلى رأسها وفي مقدمتها إنجلترا . [c1]طموحاته السياسية[/c]ولقد أجمعت كتب التاريخ أن ذلك الضابط الشاب المقدوني وضع بصمات عميقة الأثر على خريطة مصر السياسية والبلدان العربية ومنها اليمن والذي نحن في صدد الحديث عن دوره فيها بل أثره أمتد كذلك إلى السلطنة العثمانية ذاتها وهو محمد علي باشا الذي عينه الباب العالي العُثماني واليًا على مصر وذلك بفضل دعم المصريين له والذي صار الحاكم الفعلي فيها وظل يحكمها لمدة 44 عاماً ( 1805 ــ 1849 م ) والتي شهدت مصر على يديه الكثير من النجاحات والإخفاقات . والحقيقة أن محمد علي لم يكن من نوع الحكام المغامرين أو المتهورين في إظهار خططهم البعيدة ولكن كان يرى الحقائق بواقعية ويعمل لها ألف حساب وبعبارة أخرى كان لا يقدم على عمل سياسي ( ما ) إلا بعد أن يضع الأسباب التي تحقق له النجاح الكامل لقد كان رجل دولة بكل معنى لهذه الكلمة . وتمكن محمد علي باشا في خلال سنوات حكمه أن يثبت أقدامه في العديد من المناطق الهامة وهي جزيرة العرب وأن يبسط نفوذه على مكة المكرمة , والمدينة المنورة ، والإحساء ، والقطيف وأن يكون له موضع قدم في سواحل اليمن ، وأن يمد نفوذه إلى الخليج العربي مثل البحرين , ومسقط وغيرهما في منطقة الخليج . وكانت تلك التحركات المصرية تراقبها إنجلترا سيدة البحار في العالم بعين الحذر. فقد كانت تخشى أن تظهر قوة فتية تقلقها وتنافسها في البحر الأحمر , و الخليج العربي لكونهما الطريقين الحيويين اللذين يصلان بها إلى الهند والشرق الأقصى . [c1]إنجلترا بالمرصاد[/c]والحقيقة أن إنجلترا منذ البداية كانت تسعى بصورة دائمة الوقوف ضد تحركات محمد علي باشا , وكانت ترى فيه خطراُ يهدد نفوذها السياسي ومصالحها الاقتصادية في الجزيرة العربية ، والخليج العربي , وعندما زحفت القوات المصرية بأمر من الباب العالي العُثماني إلى الجزيرة العربية لإخماد الحركة الوهابية زادت هواجس إنجلترا من قوة مصر الفتية على مصالحها المادية والسياسية في البحر الأحمر والخليج العربي ـ كما أشرنا في السابق ـ والغريب في الأمر ، أن إنجلترا كانت على علم بأن محمد علي باشا سيزحف على الجزيرة العربية في نجد , والحجاز والدرعية مركز آل سعود التي تبنت الحركة الوهابية ,بمعنى أوسع كان هناك تنسيق بين إنجلترا والسلطنة العثمانية ومصر على ضرب الحركة الوهابية أو بعبارة أخرى ضرب محاولات سعود الانسلاخ عن جسد السلطنة العثمانية. وعلى الرغم من أن إنجلترا كانت تفهم الهدف أو الأهداف من تحركات القوات المصرية إلى الجزيرة العربية إلاَّ أنها كانت تخشى من محمد علي باشا التي كانت قوته تنمو شيئاً فشيئاً . فكانت تضع أمامه العراقيل الواحدة تلو الأُخرى بهدف إخراجه من المنطقة وبالرغم من محاولة الأخير بذل كل الوسائل والسُبل ليطمئنها بأنه جاء إلى نشر الاستقرار والأمن في الجزيرة العربية أو في اليمن والبحر الأحمر , والخليج العربي . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، إذ يقول : “ وقد أزعج بريطانيا كثيرًا وجود محمد علي في سواحل البحر الأحمر، وسواحل الخليج العربي , وهذا ما جعلها تستميت في القضاء على محمد علي في المنطقة , على أن تحتل عدن بوسيلة أو بأخرى في 1839 م , وكان محمد علي يستميت من جانبه في استرضاء بريطانيا وتطمينها دائمًا بأن وجوده على سواحل البحر الأحمر أو سواحل الخليج لا يهدد تجارتها وخطوط مواصلاتها “ . ويضيف قائلاً : “ ولكن كان محور سياستها ( أي إنجلترا ) تجاهه ( أي محمد علي ) باستمرار هو أنها تكره ظهور قوة فتية في المنطقة ، وأنه من الأفضل لها الإبقاء على كيان الشيخ المريض فيها ( أي السلطنة العُثمانية ) “ . [c1]عدن ومحمد علي باشا[/c]ومن يطلع على الرسائل المتبادلة بين الساسة والعسكريين الإنجليز حول وجود القوات المصرية في اليمن كانت غالبيتها تشيد بدورها على نشر الأمن والأمان وتثبيت دعائم الاستقرار فيه من خلال حسن تنظيم الإدارة المصرية في موانئ اليمن كميناء المَخَاء , اللُحية ، والحديدة. وهذا ما أكده (( كامبل )) ممثل حكومة إنجلترا في مصر في رسالة موجهة لوزير خارجيته بالمرستون , كتب فيها “ أن من مصلحة إنجلترا ... أن يسود الأمن في بلاد اليمن ، خاصة وأن محمد علي قد عرض صداقته للإنجليز وأبدى حرصه على مصالحهم “. ولكن وزير خارجية إنجلترا كان له رأي آخر وهو أن قوة مصر النامية في البحر الأحمر تعد تهديدًا صريحًا وصارخًا لمصالح إنجلترا السياسية والاقتصادية في المنطقة وخصوصًا عدن التي كانت قاب قوسين أو أدنى من احتلالها في سنة 1839م . ولذلك كان يراقب تحركات قوات محمد علي في تلك المنطقة وخصوصًا في تهامة اليمن بعين اليقظة والحذر . ولقد كان يكن الحقد على محمد علي باشا بسبب بسط نفوذه على سواحل البحر الأحمر ، وعلى وجه التحديد في تهامة اليمن بصفة خاصة وصنعاء بصفة عامة . ولقد وبسط نفوذه أيضًا على عدد من إمارات الخليج العربي مثل البحرين , وعُمان وغيرهما .[c1]الخطوط الحمراء [/c]ومما يثير الدهشة من تصرفات إنجلترا إزاء محمد علي باشا بضرورة إبعاده وإزاحته عن مسرح الجزيرة العربية بصفة عامة ، واليمن بصفة خاصة نجدها في نفس الوقت تستعين به في حل العديد من القضايا العالقة بينها وبين المسئولين في اليمن وذلك دليل على سيطرة محمد علي على مجريات الأمور فيها . وهذا ما أكده الدكتور فاروق عُثمان أباظة ، فيقول “ وعلى الرغم من أن بريطانيا اشتدت مخاوفها من سيطرة محمد علي على ميناء مخا ( المَخَا ) اليمني بعد ذلك بوقت قصير ، فإنها كانت تستعين به في بعض الأحيان للعمل على حل بعض المشكلات التي تواجه رعاياها هناك “ . ويبدو أن إنجلترا وجدت أن القوة المصرية الفتية التي أخذت تتشكل ملامحها في منطقة البحر الأحمر قد تجاوزت الخطوط الحمراء وذلك بعد ما تمكنت من إجهاض الحركة الوهابية في الجزيرة العربية في مهدها في وقت قصير , واستولت وسيطرت على مقاليد الأمور في اليمن . فكان على إنجلترا أن تعمل بشتى الوسائل والطرق إخراج محمد علي من تلك المنطقة أو بعبارة أخرى أن إنجلترا كانت في الإمكان أن تنظر إلى حكم محمد علي باشا في مصر بعين الرضا ولكنها لن تتسامح في أن يبقى في منطقة البحر الأحمر لأنه الشريان البحري الحيوي الذي يربطها بالهند دُرة التاج الإنجليزي ــ كما أشرنا ـ “ ولهذا حذرت الحكومة الإنجليزية محمد علي من البقاء في اليمن أو الاستمرار في التوسع عندما أرسل (( بالمرستون )) إلى (( كامبل )) في الرابع والعشرين من مايو سنة 1838 رسالة يطالبه فيها بإبلاغ والي مصر أن حكومة إنجلترا يسرها أن ترى القوات المصرية تغادر اليمن ، ليتفرغ محمد علي لإنشاء نظام إداري ممتاز في المنطقة التي يحكمها فعلا بدلا من تكريس جهوده وثروات الممالك التي يحكمها في الحملات التوسعية في المناطق المجاورة “ . ويلفت نظرنا أن في ثنايا تلك الرسالة فيها سكوت إنجلترا عن حكم محمد علي باشا بمصر ، وفي نفس الوقت فيها تحذير واضح وصريح لوالي مصر بعدم التدخل في منطقة البحر الأحمر واليمن التي تعتبرها إنجلترا من المناطق الحيوية والاستراتيجية لها أو عبارة أدق الخطوط الحمراء التي لم ولن تسمح حكومة صاحبة الجلالة الملكة فيكتوريا تجاوزها .[c1]محمد علي وروسيا القيصرية[/c]ومن الأوضاع السياسية الدولية التي فرضت على سياسة إنجلترا الحفاظ على ممتلكات الرجل المريض ( السلطنة العثمانية ) وعدم إبعادها عن الساحة الدولية هو خشيتها الشديدة من التنافس الحاد بينها وبين القوى الأوربية على ممتلكاته وأهمها فرنسا عدوتها اللدود التقليدية ، وروسيا القيصرية التي كانت تسعى سعيًا حثيثًا إلى الوصول إلى مياه البحر المتوسط الدافئة ، والخليج العربي . ورأى بعض الساسة الإنجليز أن محمد علي باشا في إمكانه الوقوف نظراً لقوته الفتية في وجه مخططات روسيا القيصرية في الخليج العربي بخلاف السلطنة العثمانية التي فقدت قوتها وقدرتها وتوازنها على مقاومة روسيا القيصرية في المنطقة . [c1]الطائر العربي قادم[/c]ولكن ذلك الرأي القائل بأن محمد علي في قدرته مواجهة روسيا القيصرية في الخليج العربي أزعج كثيرًا وزير خارجية إنجلترا (( بالمرستون)) الذي كان من وجهة نظره أن إفساح المجال لقوة محمد علي باشا الناشئة ليلعب دورًا حيويا وهامًا في المنطقة هو في حقيقة الأمر الإجهاز على النفوذ العثماني في تلك المنطقة الحيوية من العالم وهي الجزيرة العربية والخليج العربي من ناحية ومما يؤدي إلى التنافس والصراع بينها وبين الدول الأوربية من ناحية أخرى التي كانت تتربص بسقوط الدولة العثمانية في أية لحظة . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور فاروق أباظة : “ غير أن اللورد (( بالمرستون )) لم يتقبل وجهات النظر هذه لأنه كان يخشى أن يؤدي الضعف المتزايد للدولة العثمانية إلى خطر وقوع الحرب بين القوى الأوربية التي ستتنافس بطبيعة الحال للسيطرة على المناطق التابعة للعثمانيين في أوربا وآسيا “. ومن الأسباب الأخرى التي دفعت وزير خارجية إنجلترا إلى رفض فكرة محمد علي والي مصر أن يلعب دورًا متميزاً على المسرح الدولي هو خشيته أن يقع الطريقين البحريين الرئيسيين للمواصلات بين إنجلترا والهند والشرق تحت نفوذه “ وهما طريقي الخليج العربي والبحر الأحمر ، وأن يخضعا لسيطرة حاكم واحد وهو محمد علي “. والحقيقة أن (( بالمرستون )) كان يدرك تمام الإدراك أهداف إستراتيجية محمد علي باشا وهو العمل على تكوين إمبراطورية عربية في المستقبل بعد أن يشتد ساعده ، وتقوى شكوته . فيرى أن الأوضاع الدولية ملائمة لتطفو تلك الدولة العربية الموحدة على السطح الدولي. وفي هذا الصدد , يقول ا فاروق أباظة : “ وقد أعتقد (( بالمرستون )) بأن طموح محمد علي كان يتركز في تكوين إمبراطورية تضم كل الممالك التي تتكلم اللغة العربية ... ولكن ذلك سيؤدي إلى عزل السلطنة العثمانية عن المنطقة وهو الأمر الذي لا يمكنه الموافقة عليه “. والحقيقة أن بعض المؤرخين المحدثين أكدوا أن والي مصر محمد علي باشا . قد وضع إستراتيجية لسياسته بعد أنّ ارتفعت قامته السياسية في المنطقة الجزيرة العربية هي إقامة دولة عربية قوية موحدة تنافس السلطنة العثمانية التي نعتها قيصر روسيا بأنها “ ورق من نمر “ والبعض نعتها “ الرجل المريض “ . وشبه هؤلاء المؤرخين المحدثين بالدولة العربية بطائر ضخم يكون جسده في مصر وجناحه في بلاد الشام والأخر في السودان . وعلق الكاتب السياسي Nilsson Ajar المعاصر لمحمد علي باشا والي مصر بما معناه” بأن الطائر العربي الضخم قادم “ ويقصد بالدولة العربية التي ستخرج إلى حيز النور على يد والي مصر القوي محمد علي باشا . وهذا دليل أنّ مشروع إقامة دولة عربية على يد محمد علي باشا ، كان يزعج كبار الساسة والعسكريين الإنجليز على السواء . وهذا ما فع بإنجلترا على ضرب كافة مخططاته إدراكا منها أنّ إقامة مثل تلك الدولة العربية المترامية الأطراف تحت لواء حاكم قوي كمحمد علي باشا سيهدد نفوذها السياسي ، ومصالحها الاقتصادية في جزيرة العرب ، والخليج العربي ، والبحر الأحمر الذي يربطها بالهند . [c1]تحجيمه [/c]والحقيقة أن إنجلترا كان شغلها الشاغل , وهمها الأول في سياستها هو القضاء على نفوذ القوة الفتية التي نبعت من مصر ـ كما قلنا سابقًا ـ على الرغم أن محمد علي بذل قصار جهده ليطمئن إنجلترا بأن مصالحها السياسية والاقتصادية لن تمس من قريب أو بعيد . ولكن إنجلترا خشيت من انطلاق الدولة العربية الحديثة من وادي النيل مصر التي قد تعيق مخططاتها في البحر الأحمر ، والخليج العربي أو بعبارة أدق تحد من طموحاتها في تلك المنطقة الهامة والحساسة من العالم . وكان من الطبيعي أن تعمل إنجلترا على إزاحته من طريقها بشتى الوسائل والطرق أو على أقل تقدير تحجيمه في مصر فقط لأنها تعتبر تلك المنطقة حدود حمراء لا يجب تجاوزها ـ كما قلنا سابقًا ـ .. ولقد شرح فاروق أباظة الأسباب التي فجرت الموقف بين محمد علي والي مصر وإنجلترا وهي أن الدولة العربية أخذت تتشكل ملامحها على وادي النيل مصر والسودان من ناحية والانتصارات الرائعة التي أحرزتها القوات المصرية في بلاد الشام على قوات السلطنة العثمانية من ناحية ثانية . وتسلل نفوذ محمد علي باشا في البحر الأحمر والخليج العربي من ناحية ثالثة وأخيرة . وربما يكون مناسبًا أن نقتبس فقرة من كلام فاروق أباظة : “ على أن قيام محمد علي بتحركاته العسكرية التي انتهت بتكوين الإمبراطورية في البلاد العربية . قد أحدث صدامًا مروعًا بينه وبين مصالح إنجلترا في الشرق ، خاصة وأن (( محمد علي )) أصبح مسيطرًا على البحر الأحمر من ناحية الغرب والخليج العربي من ناحية الشرق ، فصار بذلك مُتحكمًا في أهم طريقين لمواصلات إنجلترا إلى الهند وبلاد الشرق بوجه عام “ . وكان من البديهي أن تجهض إنجلترا مشروع محمد علي باشا وهو إقامة الدولة العربية الحديثة في الوطن العربي تحت لوائه ودليل ذلك أنها تمكنت في أخر المطاف من تحجيمه في معاهدة لندن ( 1840م ) والتي من نصوصها “ أن يترك لمحمد علي باشا ولايات مصر والشام له ولذريته “ . لقد كانت معاهدة لندن الضربة القاصمة التي قضت على أحلام مشروع محمد علي باشا في تأسيس دولة عربية موحدة قوية مترامية الأطراف. تكون مصر قلبها وجناحها الغربي بلاد الشام وشرقها السودان .[c1]الفرنسيون في اليمن[/c]ومن الأمور التي زادت من مخاوف إنجلترا من تصرفات والي مصر محمد علي باشا هو استعانته بفرنسا عدوتها اللدود على تأسيس دولته الحديثة . وكانت تنظر إلى تلك العلاقة بينه وبين فرنسا بعين الشك وعدم الرضا . وربما يكون مناسبًا أن نقتبس فقرة من كلام الدكتور سيد مصطفى سالم : “ ولم يبعدها ( أي فرنسا ) فشل حملتها على مصر ( سنة 1798م ) عن الاهتمام بالبحر الأحمر أو المحيط الهندي حتى الصين واليابان شرقًا ، بل غرس العلماء , الخبراء الفرنسيون أنفسهم في مصر في عهد محمد علي وفي عهد خلفائه ، وقيل إن نفرًا منهم كان في اليمن أثناء وجود قواته بها في الفترة الثانية التي انتهت عام ( 1840 م ) “ . [c1]في الجزيرة العربية[/c]قامت في الجزيرة العربية حركة دينية وهي الحركة الوهابية وكان صاحبها الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي قام بدعوته تلك في نجد والذي كان يدعو إلى العودة إلى منابع القيم والمبادئ الإسلامية الصافية الأولى . وكان لا بد لمؤسس تلك الحركة الوهابية أن يستند الى - قوة سياسية لنشر دعوته تلك بين قبائل الجزيرة العربية وكانت تلك القوة هو أمير الدرعية محمد بن سعود والذي وجد فيها كذلك أنها في الإمكان تحقيق مآربه المتمثلة ببسط نفوذه السياسي على العديد من مناطق جزيرة العرب . ولقد انتشرت الدعوة الوهابية في الكثير من مناطق الجزيرة العربية انتشار النار في الحطب . ولقد تمكن الوهابيون من الاستيلاء على الحجاز . وكان ذلك نذير خطر على وجود العثمانيين في تلك المناطق من الجزيرة العربية . ولقد تمكن سعود الثاني أن يفتح مكة في سنة 1803م ، وأن يدخل بعد عامين المدينة المنورة . وبذلك اهتزت الهيبة الدينية للسلطان العثماني أمام العالم الإسلامي بسبب فقدانه الأراضي المقدسة ( مكة والمدينة ) واللذين كانا بسببهما لقب بخادم الحرمين الشريفين . مما دفع بالسلطان العثماني سليم الثالث ( 1789 ـ 1892 م ) أن يطلب من والي مصر محمد علي تصفية الحركة الوهابية التي جاهرت العداء للسلطنة العثمانية بالخروج عنها, وأعتبرها السلطان سليم الأول “ حركة انفصالية خطيرة ينبغي القضاء عليها “ . ولكن لم تسمح الأوضاع في تلك الأوقات أن يلبي محمد علي باشا نداء السلطان العثماني لإخماد الحركة الوهابية في الجزيرة العربية . [c1]مكاسب سياسية [/c]وفي سنة 811 م ، أمر السلطان العثماني محمود الثاني ( 1808 ـ 1839م ) محمد علي باشا والي مصر بتجريد حملة عسكرية ضخمة لإسكات صوت الحركة الوهابية في الجزيرة العربية من خلال القضاء على الوهابيين . والحقيقة لقد رأى محمد علي أن الحملة على الوهابيين في الجزيرة العربية فرصة سياسية ثمينة ستحقق له العديد من المكاسب الهامة على الصعيد السياسي وسترفع من قامته السياسية بين الشعوب العربية والإسلامية من ناحية والسلطنة العُثمانية من ناحية ثانية ، ويبسط نفوذه السياسي ، ويحقق مصالحه الاقتصادية في اليمن من ناحية ثالثة وأخيرة . “ وقد رأى محمد على حينذاك أنه إذا نجح حيث أخفقت الدولة في القضاء على الوهابيين واستخلاص الأراضي المقدسة منهم ، والإسراع إلى نجدة إمام اليمن ومحاربة فلول الوهابيين في بلاده ، فضلا عن إعادة فتح طريق الحجاج عبر مصر إلى الحجاز . ذلك الطريق الذي أغلقه الوهابيون وكبدوا مصر بسبب ذلك خسائر مادية جسيمة ... فإن ذلك حتمًا سيؤدي إلى توطيد مركزه أمام السلطان ويسمو بمكانته في مصر ولدى الشعوب الإسلامية” . [c1]محمد علي باشا واليمن[/c]وعلى أية حال ، تمكنت قوات محمد علي من هزيمة الوهابيين بين عامي 1814 ـ 1819 م في شمال اليمن , وأعادت المناطق اليمنية التي استولى عليها الوهابيون إلى السلطنة العثمانية سنة 1820م . وبذلك عادت اليمن مرة أخرى إلى السلطنة بعد أنّ خرجت منها في سنة 1635م . وفي واقع الأمر ، أن القوات المصرية عندما دخلت اليمن للمرة الثانية ( 1836 ـ 1840م ) بسبب مطاردة أحد القادة المتمردين في جيش محمد علي باشا في الذي انسحب من جدة إلى الحديدة . كانت من أغراضها الاقتصادية هي احتكار تجارة البُن “ فقد رأينا أن قوات محمد علي باشا تعود إلى سواحل اليمن . بذريعة مطاردة قائده المتمرد الذي فرّ من جدة إلى الحديدة ، ولكنها بقيت فيها لاحتكار تجارة البُن في المَخَا حتى أجبرت على الانسحاب عند عقد معاهدة لندن عام 1840م . [c1]عدن والباب العالي[/c]وتروي رواية تاريخية أنه أثناء تواجد قوات محمد علي باشا في اليمن , كان الباب العالي العثماني يفكر بإرسال قوات مصرية إلى عدن للاستيلاء عليها وعلى عدد من مواني اليمن . والحقيقة أن تلك الرواية التاريخية لا يمكن الوثوق بها لأنها تقفز على الحقائق التاريخية بسبب أن إنجلترا كانت سيدة البحار في العالم حينذاك فقد وضعت خطوط حمراء لكل قوى تحاول المساس بعدن , والبحر الأحمر لأنه الشريان الحيوي والهام الذي يربطها بالهند بصفة خاصة والشرق الأقصى بصفة عامة . ولقد كان محمد علي الحاكم الذكي القارئ الجيد لخريطة الأحداث السياسية في المنطقة يدرك تمام الإدراك أن مسألة التفكير في تلك المسألة تعنى بالنسبة له انتحار سياسي والقضاء على مشروعه الطموح وهو تأسيس دولة عربية غربها بلاد الشام وشرقها وادي السودان , وقاعدتها مصر ـ كما أسلفنا ـ وأن يكون بديلاً للسلطنة العثمانية في الوقت المناسب التي أصابتها الشيخوخة . وكان يعلم علم اليقين أن إنجلترا بيديها كل المفاتيح السياسية في منطقة البحر الأحمر والخليج العربي ولذلك بذل كل قصار جهده ليطمئن الساسة الإنجليز أنه يعمل في تلك المناطق على استتباب الأمن ونشر الاستقرار والنظام فيها وأنه لا ينوي الاستيلاء عليها والاحتفاظ بها من ناحية وكان يعمل على تقديم كافة التسهيلات للسفن والتجار الإنجليز في مواني مصر واليمن من ناحية ثانية وكان يأمل أن يتم تحالف بينه وبين إنجلترا , وهذا ما أكده الدكتور فاروق أباظة ، فيقول : “ ولما كانت إنجلترا حينذاك هي الدولة البحرية الكبرى التي تمر أساطيلها وتجارتها عبر البحار المعروفة . فقد حرص التقرب منها ... ولا شك أن محمد علي كان يتمنى أن يعمل متعاونًا مع الإنجليز في إطار نوع من التحالف “ . ويضيف قائلا : “ لدرجة أن التجار الإنجليز في المراكز التجارية الموجودة في الإسكندرية ، وبغداد ، وبومباي كانوا يعتبرون أن شكوك (( بالمرستون )) ـ وزير خارجية إنجلترا ــ ومخاوفه من محمد على ليس لها ما يبررها لأنهم اعتقدوا أن ما يفعله محمد علي حينذاك سيشيع الطمأنينة والأمن ويساعد على رواج التجارة وازدهارها “ . والحقيقة أن محمد علي كان يدرك أن احتلال إنجلترا لعدن يعني تصفية الحكم المصري في اليمن وذلك ما حدث بالفعل . وهذا ما أكده أيضاً الدكتور سيد مصطفى سالم ، إذ يقول : “ وكان محمد علي باشا قد بدأ يشعر بأن استيلاء بريطانيا على عدن يعني إخراجه من اليمن بل ومن الجزيرة العربية كلها ، وهذا ما حدث فعلاً كما عرفنا “[c1]حضرموت ومحمد علي[/c]والحقيقة أن دخول القوات المصرية إلى اليمن كان مكسبًا كبيرا لليمن واليمنيين فقد شهد اليمن في حكمهم استقرار الأمن والأمان في ربوعه وازدهار الحياة الاقتصادية فيه بسبب عناية الإدارة المصرية بمحصول البُن من ناحية والاهتمام بالحركة التجارية في موانيه وأهمها ميناء المَخَا من ناحية أخرى . وهذا ما دفع بأهل حضرموت أن يطلبوا من محمد علي باشا أن تنطوي منطقتهم تحت لواءه وفي هذا الشأن ، يقول عثمان فاروق أباظة : “ كما اكتسب المصريون أصدقاء كثيرين من بين اليمنيين على نحو ما تظهره الرسائل التي وردت إلى محمد علي من منطقة حضرموت وغيرها يطالب أصحابها بالانضمام للإدارة المصرية التي أقامها إبراهيم باشا في اليمن . ومن أهم هذه الرسائل رسالة حضرموت ... يطالب أصحابها من محمد علي إرسال موظفين وجنود لتنظيم أحوال حضرموت وإعادة الأمن فيها “ . [c1]القوة المصرية الفتية[/c]لقد كان محور استراتيجية إنجلترا في البحر الأحمر , والخليج العربي هو عدم ظهور قوة في تلك المنطقتين اللتين تعتبران شريان إنجلترا الحيوي إلى الهند والشرق. ولقد قلنا سابقًا ، أن محمد علي باشا حاول مرارًا وتكرارًا أن يطمئن المسئولين الإنجليز على مصالحهم السياسية والاقتصادية في منطقة البحر الأحمر. ودليل ذلك عندما اشتعلت الفتنة الذي أشعلها محمد أغا الذي اشتهر باسم (( تركجه بيلمز )) في الحجاز . كان من الضروري أن تتحرك القوات المصرية على إخماد تلك الفتنة . وفر (( تركجه بيلمز )) من وجه القوات المصرية إلى الحديدة ولكنها طاردته إلى الحديدة حتى فر إلى الهند . ومكثت القوات المصرية في اليمن لمدة عامي ( 1834 ـ 1840م ) وكانت تلك الحملة الأخيرة لمحمد علي باشا على اليمن . وكيفما كان الأمر ، فقد رأى محمد علي بنظرته الثاقبة أنه من الضرورة بمكان أن يخبر إنجلترا بالأسباب التي اضطرته أن يرسل حملة عسكرية أخرى إلى بلاد الحجاز , وشرح للحكومة الإنجليزية أن التمرد الذي أحدثه الضابط (( تركجه بيلمز )) سيؤثر سلبًا على الأمن والاستقرار في منطقة البحر الأحمر , ويعرض السفن التجارية للخطر. وشرح أيضًا محمد علي باشا أن الوجود المصري في منطقة البحر الأحمر من شأنه أن يؤمن التجارة الإنجليزية في مواني اليمن وأهمها ميناء المَخَا . وعلى الرغم من الحجج الذي ساقها محمد على باشا لإنجلترا إلا أن وزير خارجيتها (( بالمرستون )) كان ينظر بعين الشك والحذر الكبيرين إلى تصرفات محمد علي باشا في منطقة البحر الأحمر بصفة عامة واليمن بصفة خاصة. ولقد أقتنع (( كامبل )) ممثل الحكومة الإنجليزية في القاهرة بالحجج الذي ساقها محمد علي له . وكتب إلى وزير خارجيته رسالة كالتالي : “ بأن من مصلحة إنجلترا أن يسود الأمن في بلاد اليمن ، خاصة وأن محمد علي قد عرض صداقته على الإنجليز وأبدى حرصه على مصالحهم . ويعقب فاروق أباظة بأن وزير خارجية إنجلترا (( بالمرستون )) لم يقتنع بكلام الممثل الإنجليزي في القاهرة . وكان يرى أن محمد علي باشا يلعب لعبة غاية في الخطورة في البحر الأحمر الهدف منها هو إضعاف نفوذ إنجلترا السياسي وضرب المصالح الاقتصادية في تلك المنطقة الاستراتيجية الهامة , فيقول فاروق أباظة ـ معلقاً على وجهة نظر وزير الخارجية الإنجليزي : “ غير أن (( بالمرستون )) كان شديد الحقد ... على نمو القوة المصرية في منطقة البحر الأحمر مما جعله يترقب تطور الأحداث بكل يقظة واهتمام “ . [c1]محمد علي والدول الأوربية [/c] والحقيقة أن إنجلترا لم تكن الوحيدة التي سعت إلى تصفية قوة مصر الناشئة على الخريطة الدولية بل شاركتها في ذلك العديد من القوى الأوربية مجتمعة ومنها فرنسا صديقة والي مصر محمد علي باشا ـ كما أسلفنا ـ وذلك عندما رأت الأخيرة أنه قد تجاوز الخطوط الحمراء , حيث كانت قواته تدق أبواب الآستانة عاصمة السلطنة العُثمانية أو سلطنة الشيخ المريض وكانت تخشى أن يحل محلها قوى ناشئة فتية قوية محل السلطنة الضعيفة التي كانت تعاني من سكرات الموت بل أن روسيا القيصرية التي كانت تكن العداء والحقد الشديدين للسلطنة العُثمانية والتي دارت بينهما معارك طاحنة وطويلة . وقفت إلى جانب السلطان العثماني حتى لا يحل محله حاكم قوي كمحمد علي باشا ومن جراء ذلك ضربت أساطيل الدول الأوربية مجتمعة وعلى رأسها الأسطول الإنجليزي تحصينات قوات محمد علي في سواحل بيروت التي هدمتها وهزمت قواته في المدينة .وبذلك “ أجبرت الدول الأوربية الكبرى محمد علي ـ الوالي المصري ـ في عام ( 1256هـ / 1840م ) على التخلي عن مشروعاته التوسعية في شبه الجزيرة العربية “ . وكذلك التخلي عن مشروعه الطموح الكبير هو تأسيس دولة عربية فتية مترامية الأطراف تستطيع الوقوف في وجه الدول الأوربية وعلى رأسهم إنجلترا سيدة البحار في العالم التي كانت ترى دائمًا وجود محمد علي باشا خطراً صريحاً يهدد نفوذه السياسي ومصالحها الاقتصادية في البحر الأحمر وتحديدًا في اليمن وأيضا في منطقة الخليج العربي الذي بدأ نفوذه يتسلل إلى البحرين , ومُسقط بصورة ملفتة للنظر . [c1]الانسحاب من اليمن[/c]وكيفما كان ، فقد كانت معاهدة لندن سنة 1840م الضربة القاصمة التي ضربت أكبر أحلام مشاريع محمد علي باشا في تكوّين دولة عربية قوية تحل محل السلطنة العثمانية من ناحية وتقف ضد أطماع الدول الأوربية وعلى رأسها إنجلترا في المنطقة من ناحية أخرى . ولقد كانت من نتائج تلك المعاهدة انسحاب القوات المصرية من اليمن التي دخلتها في المرة الأولى سنتي ( 1818 ـ 1820م ) . وفي المرة الثانية والأخيرة سنتي ( 1834 ـ 1840م ) .[c1]الهوامش : [/c]محمد فريد بك المحامي ؛ تحقيق : الدكتور إحسان حقي ،تاريخ الدولة العلية العثمانية ، الطبعة الثانية 1403هـ / 1983م ، دار النفائس ـ بيروت ـ . الدكتور فاروق عثمان أباظة ؛ عدن والسياسة البريطانية في البحر الأحمر 1839 ـ 1919م ، سنة الطباعة 1987م ، الهيئة المصرية العامة للكتاب . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ البحر الحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية ، سنة الطبعة الأولى 2006م ، صنعاء دار الميثاق للنشر والتوزيع . جون بولدري ؛ العَمليات البحرية البريطانية ضد اليمن إبان الحكم التركي 1914 ـ 1919، ترجمة وتقديم : الدكتور سيد مصطفى سالم ، المطبعة الفنية بالقاهرة .
|
تاريخ
الحكم المصري في اليمن
أخبار متعلقة