[c1]محمد زكريا [/c]اجمعت كتب التاريخ ، أن عدن شهدت حركة تجارية واسعة ، وازدهارا اقتصاديا عريضا في عهد بني زريع ، والأيوبيين ، والرسوليين و تحت مظلة حكم الدولة الطاهرية التي بزغت في سماء اليمن ( 858 ـــ 933 هـ / 1453 ــ 1527م ) وتحديداً في عهد سلطانها عامر بن عبد الوهاب ألطاهري المقتول سنة (922هـ / 1517م) بلغ ميناء عدن ذروة النشاط التجاري . فقد كان يشرف السلطان ( عامر ) بنفسه على حركة ميناء عدن في موسم الرياح . وكانت عدن كما تذكر المصادر همزة وصل بين مصر والهند أي بين الغرب والشرق وبعبارة أخرى أن عدن كانت جسراً تجارياً بين الغرب ( مصر ) والشرق ( الهند ) وكانت البضائع والسلع التجارية من الشرق والغرب تصب فيها ، وكان تجار الشرق ، وتجار الغرب يلتقون فيها فتعقد بينهم صفقات تجارية ضخمة. وكان من نتيجة ذلك أن طفت على وجه المدينة أسواق هامة ومختلفة ومتنوعة ذاع صيتها وطبقت شهرتها الآفاق . [c1]عدن وأشهر أسواقها[/c]وفي الواقع أن تلك المعلومات عن رخاء عدن الاقتصادي في عهد الدول المركزية التي تعاقبت على حكمها جعلتني أطرح سؤالاً وهو ما هي أهم الأسواق المشهورة التي انتعشت وازدهرت في المدينة ؟. ولقد أجابت بعض المصادر التراثية على بعض سؤالي هذا والبعض الآخر أحجم عن الإجابة ، فقد حددت بعض المصادر الأسواق الهامة التي كانت تمور بالنشاط التجاري وهي سوق البز ( القماش ) والذي كان يضم أشكالاً ، وأنواعاً من الأقمشة الحريرية الخالصة القادمة من الصين ، والهند ، ويقال أن البعض من تلك الأقمشة باهظة الثمن لا تجلب إلا للأميرات أو أصحاب الثراء العريض لكونها كانت مطرزة بخيوط من الذهب والفضة ، وهناك القماش الدمشقي أي الذي كان يصنع في دمشق و الذي كان يأخذ العين أخذا بألوانه الزاهية وقماشه الناعم واللين الملمس ، ويقال أن الذي بنى سوق ( البز ) هو الزنجيلي عامل توران شاه الأيوبي على عدن وفي هذا الصدد يقول الدكتور عبد الكريم الشمري " وقد جعله الزنجيلي وقفاً على مسجده المعروف باسمه يصرف منه على المسجد ما يحتاج وما زاد على ذلك كان يصرف على المسجد الحرام بمكة " . ونستنتج من ذلك أن سوق البز كان يدر أرباحاً كبيرة لدرجة أنها تصرف منها على الحرم المكي ــ كما أشرنا سابقاً ــ .[c1]سوق الطعام و الكدر[/c] وإلى جانب سوق ( البز ) . كان هناك سوقاً يأتيه الرزق من كل مكان من شتى أنحاء المعمورة وهو سوق ( الطعام ) ــ أي سوق الحبوب بمختلف أنواعه ــ وفي أسواقها كانت تعرض أنواع البهارات المتنوعة والتي كانت تباع بأسعار باهظة الثمن في أوربا ، وكذلك كانت تباع أجود أنواع التُمُور في سوق (( الكدر )) القادمة من بلاد الرافدين (العراق) ، وعُمان ويقال أن التُمُور العمانية كانت من أجود الأنواع وأغلها ثمناُ . وعلى أية حال مازال ( سوق البز، والطعام ) ماثلان للعيان في مدينة عدن القديمة ( كريتر ) وإن تغيرت الكثير من معالمها الأصلية والأصيلة ولم نعد نشتم منهما رائحة عبير مدينة عدن الإسلامية التي بلغت العصر الذهبي في العصور الوسطى وذلك بسبب زحف رمال الأيام ، والشهور ، والسنيين ، وتعاقب الليل والنهار ، وإيقاع الحياة العصرية السريعة ، وعبث أيدي العابثين والجاهليين بتراثنا اليمني الأصيل ، حيث فقدتا أهميتهما وبريقهما.ولكنهما سيظلان عبر الزمان معلمان من معالم أسواق عدن القديمة اللتين كانتا في يوم من الأيام ملء السمع ، والبصر ، والقلب .[c1]سوق الزعفران[/c] وإلى جانب هذين السوقين المشهورين ( الطعام ، و البز ) ـــ اللذين ذكرناهما ـــ كان يوجد سوق لا يقل شهرة عنهما وإن كان يفوقاهما من حيث موقعه التجاري الهام وهو سوق الزعفران القابع في عدن والذي كان يباع فيه الماء والحطب ، وكانت القوافل التجارية تأتيه من داخل بادية عدن من كل مكان . وكان يدر أرباحاً كبيراً على أصحابها مما كان يدفع بأمراء بني زريع إلى الاقتتال الضاري فيما بينهم للاستيلاء والسيطرة عليه . ويعلل المؤرخ عبد الله محيرز في كتابه ( صهاريج عدن ) أهمية سوق الزعفران في الحياة التجارية والاقتصادية ، بقوله : " وقد كان ــ ولا يزال ــ لهذا الموقع ( سوق الزعفران ) أهمية اقتصادية بالغة بالنسبة لعدن . فهو ملتقى لطرق المدينة ، ومجمع لأسواقها ولعله كان فيه أكثر من صهريج. إذ كان موقعاً لبيع الماء ، والحطب ، ومحطة لقوافل الجمال القادمة من بادية عدن . وينقل عبد الله محيرز عن لسان : ابن المجاور عن الصراع العنيف بين أحفاد بني زريع حول السيطرة على سوق الزعفران : ـ " وكان يجري بين القوم فتنة عظيمة لأجل الماء والحطب " .وإلى جانب سوق الزعفران ، وسوق البز ، وسوق الطعام ، وسوق ( الكدر ) ، كانت توجد عدداُ من الأسواق مثل سوق الليل ـــ ولكن المصادر لم تعطينا معلومات عن نوعية نشاط ذلك السوق ـــ و سوق الخزف ، وسوق الجواري ولكنها لم تكتسب شهرة واسعة مثل تلك الأسواق التي ذكرناها قبل قليل. ويعقب الدكتور محمد الشمري على تجارة الجواري في عدن بأنها كانت تجارة رائجة وازدهرت في عهد بني زريع والأيوبيين وسبب ذلك يعود إلى أن التجار في عدن كانوا في حاجة ماسة إلى العبيد لتحميل السفن وتفريغها من البضائع وبقية الأعمال ذات الصلة بالنشاط التجاري . [c1]سوق العطارين [/c]وتمدنا المصادر بمعلومات هامة عن سوق العطارين في عدن ، فتقول بما معناه : " أنه من بنى سوق العطارين هو السلطان طغتكين بن أيوب المتوفى سنة ( 593هـ / 1197م ) " . والجدير بالذكر ، أن ذلك السوق كان مسقوفاً ودليل ذلك وصف الدكتور محمد الشمري ، بقوله : " أنه ( أي طغتكين ) بنى قيصارية وهي كلمة تعني بالفارسية ( السوق المسقوف ) وهي جديدة للعطارين في عدن ، جميعها دكاكين ، ولها باب يغلق بالليل " . ويعقب الشمري على تخطيط ذلك السوق ، فيقول : "ويدلنا هذا البناء على تطور حضاري واهتمام كبير من قبل الدولة الأيوبية بالمؤسسات الاقتصادية " . ونستدل من ذلك أنه كان يوجد سوق للعطارة أو للعطارين في عدن ، ويبدو أن السلطان طغتكين وجد من الضرورة بناء سوق آخر للعطارين على طراز أسواق المدن الكبرى في الأمصار العربية مثل القاهرة ، ودمشق ، وحلب وغيرها . [c1]صناعة العطور [/c]يذكر الدكتور محمد الشمري إلى عدد من الصناعات التي أنشئت في عدن وطفقت شهرتها الأفاق وأهما على الإطلاق صناعة العطور والطِيب ، . وهنا ربما كان مناسباً أن نقتبس من كلامه حول تلك الصناعة في المدينة ، إذ يقول : " أخذت صناعة العطور والطيب في عدن مكان الصدارة ، فقد اشتهرت بها شهرة واسعة . وقد صف المرزوقي تلك الصناعة ومهارة أهل عدن بها ، فقال : " وكان طِيب الخلق جميعاُ بها يعبأ ، ولم يكن أحد يحسن صنعه من غير العرب حتى أن تجار البحر لترجع بالطِيب المعمول تفخر به في السند ( باكستان حاليا ) والهند وترتحل به تجار البر إلى فارس والروم ... ". ويعقب الدكتور الشمري على كلام المرزوقي ، فيقول : " وهذا النص يوضح لنا شهرة أهل عدن وتخصصهم بصناعة الطيب ، وتصديره إلىَ بلاد فارس ، والروم ، والهند ، والسند ، فطفقت شهرته الآفاق ، وفي ذلك دلالة على حذق وذكاء أهل عدن الذين تخصصوا بتلك الصناعة " .[c1]سوق الفضة[/c]وكيفما كان الأمر، فإن من الأسواق الشعبية والمشهورة والمرتبطة بالحياة الاقتصادية بعدن التي لم يذكرها المؤرخون القدامى والمختصون بتاريخ عدن كالمؤرخ بامخرمة المتوفى (947 هـ / 1540هـ ) وهي سوق الفضة أو سوق الصاغة أو بمعنى أخر أماكن صناعة مصوغات وحلي الفضة بمختلف أشكالها وأحجامها ، وأنواعها. ومن المحتمل أن صناعة حلي الفضة شهدت رواجاً كبيراً سواء في عهد الدولة الرسولية ( 626 هـ / 858 هـ / 1228 ـــ 1454 م ) حيث كانت امتداداً للدولة الأيوبية في مصر أو وفي عهد الدولة الطاهرية. بل أن الأمر، لم يقتصر على بيع حلي أو مصاغ الفضة بل تعدىَ الأمر، أن صارت عدن من أشهر الأسواق في صناعته وصياغته . فقد تفنن الصائغ اليمني بإخراج أشكال فنية أو قل إذا شئت تحف فنية في غاية الجمال والرواء . وهذا ما أكده المؤرخ عبد الله محيرز بأن البعثة الصينية التي زارت عدن في عهد السلطان الملك الناصر ألرسولي ( 826 هـ / 1423 م ) وصفت رقي صناعة حلي الفضة المتنوعة في عدن بأنها بلغت شأناً عظيماً ، وأن صناعتها طبقت شهرتها الآفاق و لا يجاريها أحد في تلك الصناعة في العالم . وفي هذا الصدد يقول ( ما هوان ) رئيس البعثة الصينية لعدن : " يصنع كافة صائغي الفضة والذهب وجميع الحلي في هذه البلاد ( أي عدن ) أجمل المصوغات وأكثرها ابتكار، وتفنناً، ويفوقون ــ بحق ــ سواهم من الصناعة في العالم ". [c1]بنو زريع[/c]والحقيقة أن عدن في عهد بني زريع 532 ــ 569 هـ / 1137 ــ 1173م ) والذين حكموا عدن بصورة فعلية تقريبا أكثر من خمسين عاماً ، شهدت المدينة في عهد حكمهم تطوراً كبيراً في الحياة الاقتصادية وانتعاشا في حركة التجارة . وربما كان ذلك الانتعاش الاقتصادي سببه يعود إلى اهتمام بني زريع بعدن لكونها صارت مستقلة عن قبضة الصليحيين ، وأنهم شعروا بأنهم أصحاب البلاد الحقيقيين والفعليين وأن الصليحيين لا يزاحمونهم على مواردهم في ميناء عدن .وكان من الطبيعي أن يهتموا بها لأن حياتهم وكيانهم صارت مرتبطة بعدن. فقوتها الاقتصادي من قوتهم. وازدهارها التجاري من رخائهم. ولذلك عمدوا على تنشيط الحياة التجارية فيها وأعتنوا بها أيما اعتناء . وفي الواقع أن الاستقرار السياسي التي شهدته عدن في عهد بني زريع ( 532 ــ 569هـ / 1137 ــ 1173م ) انعكس ذلك إيجابياً على النشاط الاقتصادي والازدهار التجاري لعدن . وهنا ربما كان مناسبا أن نقتبس كلام الدكتور محمد كريم الشمري حول الاستقرار السياسي وأثره على حياة عدن الاقتصادية في عهد بني زريع ، إذ يقول : " نستدل من الإقبال على إنشاء الدور والقصور ، ومن تنوع السكان وتعدد أجناسهم على استقرار الأحوال السياسية في عدن في عهد بني زريع " . وفي نفس السياق ، يقول الشمري : " كما كان لاستقرار الأوضاع السياسية بعدن أيام حكم بني زريع دور كبير في جلب كثير من التجار ؛ للعمل في المجال التجاري لهذه المدينة فدخلها وتوطنها الكثير من التجار وأصحاب الأعمال من العراق ومصر والهند والصومال وغيرها " . وفي عهد الأيوبيين شهد ميناء عدن ازدهاراً واسعاً ونشاطاً كبيراً . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " ومن المعروف أن الأيوبيين قد اهتموا بتنمية ميناء عدن بعد دخولهم إلىَ اليمن ، فارتفعت إيراداته إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه في العهد السابق عليهم " . [c1]في عهد الصليحيين[/c]وقبل ذلك حكمت الدولة الصليحية (439 ــ 532 هـ / 1047 ــ 1137 م ) اليمن والتي ارتمت في أحضان الدولة الفاطمية في مصر بسبب العلاقة المذهبية والعقائدية المشتركة بينهما وهي الإسماعيلية الشيعية. ولقد ترسمت الدولة الصليحية تقاليد ومراسيم نظام الحكم الفاطمي بمصر. وهذا ما دفع بالقاضي إسماعيل الأكوع أن يقول عن ارتباط الدولة الصليحية الوثيق بالدولة الفاطمية الشيعية : " ... أنها ( الدولة الصليحية ) من أقدم دول اليمن أخذاً بمراسيم المُلك وتقاليده، وعاداته وأنظمته، ذلك لأن دعاتها ترسموا عادات وتقاليد الحكام الفاطميين ( العبيديين ) بحذافيرها بسبب التبعية والولاء لهم في المذهب والعقيدة، فمنهم كانوا يستمدون سجلات ( مراسيم ) التعيين لهم، ومنهم كانوا يأخذون الألقاب الرسمية الممنوحة لهم، والتي يتعين على الناس إذا كتبوا إليهم أن يخاطبوهم بها ". ويمضي في حديثه ، فيقول : " فلا جرم إذا صاروا تبعا لهم يدورون في فلكهم، ويلتزمون بتعاليمهم، ويأتمرون بأمرهم، وينتهون بنهيهم، ويقلدونهم في شؤونهم كلها ، وما ذاك إلا لأنهم امتداد لنفوذهم ". [c1]عدن والتجار المصريين[/c]وتلك الصورة الدقيقة الذي رسمها مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع عن العلاقة الحميمة بين الدولة الصليحية والفاطمية . تعطينا دلالات واضحة بأن اليمن تأثرت بشكل كبير بالدولة الفاطمية في مصر روحياً وسياسياً ، فمثلما تأثرت الدولة الصليحية بالدولة الفاطمية في مصر في مجالي العقيدة والسياسة بالفاطميين ــ كما أشرنا سابقاً ــ فمن المحتمل ــ أيضاً ــ أن صناعة حُلي الفضة في اليمن تأثرت كذلك بصناعة الفضة في مصر ، وصار هناك تبادل تجاري ، وصناعي بين التجار اليمنيين والمصريين ، وقيل أن بعض صاغة حلي الفضة المهرة من المصريين جاءوا إلى عدن ليطلعوا على صناعة الفضة فيها ليتبادلوا المعرفة والخبرة فيما بينهم ، بل أن العديد من صاغة الفضة المصريين مكثوا واستقروا في مدينة عدن نظراً للنشاط التجاري الواسع والكبير فيها . وهذا ما أكده الدكتور محمد الشمري ، بقوله : " ازدادت أهمية بلاد اليمن وتوثقت العلاقات التجارية بين مصر واليمن، وذلك بعد قيام الصليحيين في اليمن وتأسيس دولتهم وارتباطها بدعوة الفاطميين، فأصبح اليمن جزءاً من دولة الفاطميين بمصر سياسيا " . [c1]الإبداع اليمني والمصري[/c] وعلى أية حال ، فإن العلاقة الروحية والسياسية بين اليمن الصليحية ومصر الفاطمية . كان من الضرورة بمكان أن يكون لها بصمات واضحة على صناعة الفضة في اليمن أو بمعنى آخر أن الأشكال التقليدية في صناعة حلي الفضة اليمنية قد تشربت من أشكال صناعة الحلي الفضية المصرية وخصوصا في عهد الدولة الفاطمية التي ازدهرت فيها الحياة التجارية بين اليمن ازدهاراً كبيراً كما ذكرنا قبل قليل . واكتسبت بذلك صناعة الفضة في اليمن بصورة عامة وعدن بصورة خاصة خبرة عميقة من فن أو فنون صناعة الفضة المصرية . وكان من الطبيعي أن يبدع الفنان اليمني في تلك الصناعة الرقيقة ، فيضيف إلى ما تعلمه واكتسبه من تجارب الآخرين في صناعة حلي الفضة من روحه اليمنية الخالصة ، فامتزج الفن اليمني بالفن المصري مما زاد من صناعتها رونقاً ، وتألقاً ، وجمالاً أخاذا . فاكتسبت صناعة الفضة في اليمن بصورة عامة ، وعدن بصفة خاصة شهرة واسعة وعريضة في كثير من بقاع العالم حينئذ وهذا ما دفع رئيس البعثة الصينية الذي زار عدن في السلطان الملك الناصر ألرسولي أن يصف صناعة مصوغات الفضة فيها بأنها أجمل المصوغات ، ابتكارا وتفنناً كما أشرنا سابقاً .[c1]الفن اليمني الهندي[/c] ومثلما أكتسب الصاغة اليمنيون خبرة من الصاغة المصريين سواء في عهد الفاطميين بمصر أو الأيوبيين الذين جاءوا إلى اليمن سنة 569هـ / 1174م . فمن المرجح أن الصاغة اليمنيين تأثروا بالصاغة الهنود في طريقة وعملية شكل المصوغات والحُلي الفضية لكون العلاقة بين عدن بصفة خاصة واليمن بصفة عامة كانت علاقة تجارية وثيقة منذ الزمن البعيد . فقد كان تجار عدن الوسطاء بين مصر ، والهند وفي ذلك دلالة واضحة على متانة وقوة العلاقة التجارية بين عدن والهند . ومن يطلع على الجاليات في عهد الدول اليمنية المركزية كالدولة الصليحية ، وبني زريع ، والرسولية ، والطاهرية التي تعاقبت على حكم اليمن سيلفت نظره ضخامة الجالية الهندية في عدن بالنسبة للجاليات الأخرى مثل الجالية المصرية ، أو الشوام أو المغاربة وغيرها من الجنسيات المختلفة والمتنوعة . وعلى الرغم من تأثر الصاغة اليمنيين سواء بالصاغة المصريين أو الهنود ، فإنهم كانوا ينفخوا في أشكال المصوغات والحُلي الفضية روح الجمال والرواء المستمدة من طبيعة وبيئة اليمن الجميلة الأصيلة . [c1]الإمام الهادي[/c].وفي عهد الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي المتوفى ( 298 هـ / 910 م ) الذي أسس في صعدة أول دولة زيدية في اليمن والذي دخل في صراعات سياسية قاسية مع خصومه من أصحاب التيارات و المذاهب الدينية المختلفة أو بعض الحكام الذين كانوا يخشون على مصالحهم السياسية منه . وكان من جراء ذلك الصراع السياسي مع مناوئيه.أن فقد الكثير من مناطق نفوذه ومنها مناجم الذهب مما دفعه إلى ضرب الدنانير الفضية بدلا من الدنانير الذهبية . وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد بلعفير: " إلا أنه يظهر بما لا يدع الشك أنه اضطر ( الإمام الهادي ) إلى ضرب الدنانير الفضية في نهاية عهده إلى جانب الدراهم الصغار( السداسية ) بعد أن خسر في صراعه ضد خصومه من القوى اليمنية المعارضة له التي توجد فيها مناجم الذهب، أو بسبب نقص أو انعدام التموينات من هذا المعدن، وبرهاننا على ذلك أنه لم تعرف بعد أية نقود ذهبية من عهدي أبنيه المرتضى والناصر". [c1]اليهود وصناعة الفضة[/c]على أية حال ، كانت المعادن في كثير من مناطق اليمن منتشرة انتشاراً واسعاً ومنها الفضة مما دفع بكثير من اليمنيين الاشتغال في ذلك المعدن أو بعبارة أخرى الاشتغال في صناعات الحرف التقليدية كصناعة الخناجر والسيوف ، وصناعة حُلي الفضةـــ كما ذكرنا سابقا ـــ . وفي سنة 1763 م ، زار الرحال الألماني كرستن نيبور اليمن . ولقد لفت نظره صناعة الفضة والذي كان يعمل بها غالبية اليهود . إلى جانب عدد من الصناعات التقليدية الدقيقة مثل صناعة الخناجر ، والسيوف وهذا الأخير اشتهرت بها اليمن اشتهاراً عريضاً والذي كان يطلق عليه بالسيف اليماني والذي كان مقبضه أحياناً مطعم بالفضة ، وكذلك الخناجر اليمنية المتميزة عن الخناجر العربية الأخرى باليمن بـ (الجانبية ) . والجدير بالذكر أن الخنجر يسمى في الصعيد المصري (بالجنبية ) ، ونستشف من ذلك نزوح القبائل اليمنية المختلفة إلى الصعيد أثناء فتح مصر سنة ( 21هـ / 642م ) التي مكثت واستقرت فيها ، وضعت بصمات مفردات كلماتها المحلية على السنة أبناء الصعيد في الزمن البعيد، والحقيقة أن تناول تاريخ سوق الصاغة أو الفضة في عدن ، يعد ناقصاً إذا لم نتحدث عن طراز وبناء عمارته أو بعبارة أخرى هل كان هذا السوق الذي نتحدث عنه هو نفس مكان السوق الذي توجد فيه بعض المحلات المتواضعة المتناثرة والمتباعدة والقابعة في حي الحسين بعد القديمة ( كريتر ) والتي تزاحمه العديد من المحلات ليست لها علاقة بسوق الصاغة أو سوق الفضة. أم أن السوق الذي كان مشهوراً للداني القريب والقاصي البعيد والذي كانت تأتيه السفن من كل مكان من شرق أفريقيا و الهند ، والصين هل هو في مكان آخر ، وإذا كان هو في مكان آخر ، فأين يكون ؟ . و كيف كان طراز وشكل عمارة السوق هل كان سوقاً مفتوحاً أم مسقوفاً ؟ . وهل أقتصر السوق نشاطه على بيع مصوغات الفضة أم كان بجانبه نشاط تجاري آخر . [c1]الأسواق المسقوفة في عدن[/c]ما هو معروف أن عمارة المدينة الإسلامية نشأت وتطورت وبلغت ذروة نضوجها في القرن الرابع الهجري ( القرن العاشر الميلادي ) ، وصارت لها ملامحها الخاصة بها حيث شكلتها عقيدتها الإسلامية الحنيفة وكان مبدأها ( جلب المنافع ، ودفع المضار ) . ولقد وضع الفقهاء عدداً من الشروط الضرورة توافرها في أسواق المدينة الإسلامية وهي أن يجد الناس حاجاتهم في سهولة ويسر ، وكان من الأهمية بمكان أن تكون الأسواق متقاربة فيما بينهم وليست متباعدة ، ومتفرقة. وأكبر الظن أن مدينة عدن لم تخرج عن قواعد وأسس المدينة الإسلامية في طرز عمارتها فهي مثلها مثل أية مدينة إسلامية في العصور الوسطى الإسلامية. وعلى ضوء هذا نستطيع تقريب صورة أو صور الأسواق في ثغر عدن التي كانت عليه تحت ظل حكم الدول المركزية التي تعاقبت على حكمها كالدولة الصليحية ، وبني زريع ، والرسولية ، والطاهرية . وهناك مسألة هامة ــ أيضاً ـــ تتحكم بطراز عمارة الأسواق وهي عامل الجو ، فعدن كما هو معروف عنها مدينة حارة معظم العام ، وهناك بعض السلع والبضائع يجب العناية بها عناية خاصة مثل القماش ، وخصوصاً الحرير منه ومن أجل حمايته من الجو والشمس فمن من الطبيعي أن يكون سوق القماش وأسواق أخرى في عدن مسقوفة . وهذا ما أكده الدكتور محمد كريم الشمري ، إذ يقول : " ذكر لقمان ، أن الزنجيلي بنى الأسواق المسقوفة المعروفة بالقيصارية وكانت مخصصة لبيع المواد الطبية ، وفي اعتقادنا هي المواد النباتية والتوابل التي كانت تستخدم في الطعام ، وصناعة العطور وفي أستعملات طبية " . ولمزيد من الأضواء على الأسواق المسقوفة بصورة عامة في الوطن العربي والذي ينطبق على أسواق عدن المشهورة . نقتبس فقرة من كلام الدكتور محمد عبد الستار عثمان في كتابه (( المدينة الإسلامية )) عن تلك الأسواق المسقوفة ، إذ يقول : " وظاهرة تسقيف الشوارع التي تضم الأسواق على جانبيها ارتبطت بغرض حماية نوعية معينة من السلع كالحرير وغيره من الأقمشة ، وانتشرت هذه الظاهرة في كثير من المدن الإسلامية وعرفت (( بالسقائف )) ... وكان التسقيف للحماية من العوامل الجوية كالمطر والشمس حتى أن هناك من الشوارع التجارية ما غطى بأكمله في مكة المكرمة لاشتداد الحرارة ". وهذا ما ينطبق على سوق البز ( القماش) والأسواق المسقوفة الأخرى في عدن لحمايتها من الحرارة الشديدة ، والشمس ومن المطر الذي كان يسقط في فترة من فترات الشهور عليها بغزارة . ومن المرجح أن يكون سوق الصاغة أو سوق الفضة ، غير مسقوف نظراً لعدم تأثره بالعوامل الجوية كالشمس والمطر . [c1]مهنة يتوارثها الأجيال[/c]وهناك سؤال يطل برأسه وهو هل كان يوجد في عدن ، عائلات أو بيوت مختصة في صناعة وصياغة حُلي الفضة يتوارثها الأبناء عن الآباء ؟ . والحقيقة أن المصادر التراثية تصمت عن الحديث في ذلك الجانب، وربما أن تسجيل العائلات أو البيوت التي توارثت العمل في صناعة مصوغات الفضة لم يدونها المؤرخون القدامى بسبب أن هؤلاء المؤرخين كانوا يرصدون ويسجلون فقط الأحداث السياسية الهامة التي كانت تطفو على وجه سطح حياة عدن أو بمعنى آخر كانوا يدونون أعمال الحكام ، الأمراء ، وعلياء القوم، وكانوا إلى جانب ذلك يسجلون الظواهر الطبيعية أو الفلكية التي كانت تقع بين الحين والآخر. أما عن موضوع الأُسر ، والبيوت المختصة في صناعة حُلي الفضة في عدن فلم نعلم عنها أية شيء وهذا يحتاج إلى البحث والتنقيب عنها من مصادر أخرى وهي المصادر الشفهية التي تغوص في أعماق الحياة الاجتماعية للناس والتي تعوض عن نقص المصادر التاريخية التقليدية المكتوبة. وعلى المؤرخين المحدثين ، والباحثين الحاليين المهتمين بتاريخ عدن الاجتماعي تسليط الأضواء القوية والكاشفة على البيوت والأُسر التي توارثت صناعة حلي الفضة حتى وقتنا هذا. وأنني أكاد أجزم بأننا سنخرج بنتائج جد قيمة ، معلومات جديدة ومثيرة عن ذلك الموضوع الاجتماعي .[c1]الخلاصة[/c]وعلى أية حال ، فقد استعرضتا بإيجاز تاريخ سوق الفضة وكيف شهد رواجاً كبيراً في عدن في عهد الدول المستقلة التي طفت على وجه المسرح اليمني السياسي في العصور الوسطى؟، وكيف أن تلك الحرفة أو الحرف اليدوية التقليدية الشعبية اكتسبت إلى جانب الإبداع اليمني الأصيل من بعض الحضارات العريقة التي كان لها باع طويل في الفنون الشعبية المادية مثل الدولة الفاطمية في مصر والتي تأثرت بها اليمن في مختلف الجوانب السياسية والروحية ، والاقتصادية تأثيراً كبيراً وذلك في عهد الدولة الصليحية التي دارت في فلكها بسبب المذهب العقائدي الذي كان يربطهما ببعضهما البعض ارتباطا عميقا . وتحدثنا ــ أيضاً ــ عن تأثر الصاغة اليمنيين بالصاغة الهنود بسبب العلاقة الوثيقة بين الحضارتين اليمنية والهندية في الأزمنة البعيدة وفي العصور الوسطى تحديداُ . وتناولنا كذلك بأن صناعة الفضة كانت تزدهر في عهد الاستقرار السياسي والاقتصادي في عدن وذلك في عهد بني زريع ، والدولة الأيوبية ، وكلما كان هناك ازدهاراً اقتصادياً كان هناك رواجاُ في سوق الفضة وغيرها من الأسواق التي ذكرناها آنفاُ . [c1]الصفحة المفقودة[/c]فالحديث عن تاريخ سوق الفضة في عدن يعني الحديث عن تاريخ الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، والسياسية في عدن بصفة خاصة واليمن بصفة عامة أو بعبارة أخرى أن تاريخ سوق الفضة في عدن يمثل النافذة على الأوضاع الاقتصادية ، والاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في اليمن في تلك العصور الوسطى . وسلطنا الأضواء على أن صناعة الفضة الشعبية . كان من البديهي ان يتوارثها الأبناء عن الآباء ولكننا مع الأسف ـــ الشديد ـــ تصمت المصادر عن الكلام عن العائلات أو البيوت المختصة في صناعة حلي ومصوغات الفضة عبر الزمان والتاريخ ، وطالبت الجهات المعنية بتراثنا اليمني البحث والتنقيب عن تلك الصفحة المفقودة والهامة من صفحات تاريخ ثغر عدن المحروس .----------------------[c1]الهوامش :[/c]عبد الله أحمد محيرز ، صهاريج عدن ، المركز اليمني للأبحاث الثقافية والمتاحف ، عدن ، الجمهورية اليمنية ، 1987م.عبد الله أحمد محيرز، صيرة ، عدن في مايو 1991 ، الطبعة الأولى ، صدر في سبتمبر 1992م ، الجمهورية اليمنية. عبد الله أحمد محيرز ، رحلات الصينيين الكبرى إلى البحر العربي ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر 2000م. القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ، أعراف وتقاليد حكام اليمن في العصر الإسلامي، الطبعة الأولى 1994م ، دار الغربي الإسلامي ، بيروت ــ لبنان ــ . د. محمد صالح بلعفير، دراسة بعنوان : (( العملة والتداول النقدي بعدن في عصر الدولة الطاهرية )) ، مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عدن للفترة من 27 حتى 28 ديسمبر 2005م . الدكتور أحمد قايد الصايدي ؛ المادة التاريخية في كتابات (( نيبور )) عن اليمن ، الطبعة الأولى 1410 هـ / 1990 م ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ــ لبنان ـــ .أ.د محمد كريم إبراهيم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية 476 ـــ 627 هـ / 1083 ـــ 1229 م ، الطبعة الثانية 2004 م ، إصدارات جامعة عدن ــ الجمهورية اليمنية ـــ . الدكتور مُحَمد عبد الستار عُثمان ؛ المدينة الإسلامية ، عالم المعرفة ، العدد 128 ــ ذو الحجة 1408هـ ـــ أغسطس / آب 1988م .الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول 1538 ـــ 1635 م ، معهد البحوث والدراسات العربية ـــ جامعة الدول العربية ـــ القاهرة ـــ مصر ـــ سنة الطباعة 1969م.
|
تاريخ
سوق الفضة في عدن
أخبار متعلقة