طفرة اقتصادية ضخمة، واستثمار حكومي كبير في مشاريع التنمية، وثورة كبيرة تشهدها سوق الأسهم، ومع كل ذلك نعجز عن توفير الأوعية الاستثمارية القادرة على تنمية مدخرات المواطنين وتحسين أوضاعهم المالية. أعاد مصرف الريان القطري بعض مشاهد الحزن والأسى التي كنا نشاهدها عبر المحطات الفضائية والصحف اليومية خلال فترة طرح شركة دانة غاز للاكتتاب العام. إعادة مؤلمة لسيناريو الحدث مع اختلاف المكان. الأبطال هم السعوديون الذين يتحملون الصدمات تلو الصدمات من أجل تحسين أوضاعهم المالية. أصبحوا مادة دسمة للإعلام ووسيلة ناجعة لتصفية الحسابات، وصيدا سهلا للمحتالين. من أجل الاستثمار يشد المواطنون الرحال إلى دول الجوار معرضين أنفسهم لأخطار السفر والحوادث القاتلة، راضين بتحمل المضايقات، المقصودة وغير المقصودة، عبر المنافذ، ومن خلال طوابير الاكتتاب المهينة، باحثين عن فرص استثمارية واعدة افتقدوها في محيطهم الاستثماري الرحب. أسرة في الشرقية فقدت معيلها الوحيد، بعد الله سبحانه وتعالى، وهو في الطريق إلى دولة خليجية مجاورة، ذهب من أجل تحسين وضع أسرته المالي فلقي حتفه، ومثله آخرون قضوا نحبهم جراء حوادث تعرضوا لها، بأمر الله، ثم بسبب تلك الاكتتابات المشؤومة. حوادث مميتة وقصص مؤلمة تدمي القلوب والعيون تعرض لها السعوديون وهم يبحثون عن وسيلة شريفة يستثمرون فيها قليل أموالهم من أجل أبنائهم وأسرهم. أولئك الموتى، غفر الله لنا ولهم، ربما سألنا الله عنهم يوم القيامة لتقصيرنا في إشباع حاجاتهم الاستثمارية وحرمانهم من استغلال الموارد المتاحة التي كفلتها الدولة لهم. الدولة، رعاها الله، لم تدخر جهدا في دعم المشاريع الاقتصادية والتنموية، ولم تأل جهدا في تشجيع الاستثمارات وتنمية القطاع الخاص، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع تقمص أدوار الآخرين. أليس من المضحك أن يبدع بعض العاملين الآسيويين في جمع واستثمار أموال مواطنيهم، وممارسة أنشطة مصرفية غير مشروعة داخل البلاد وخارجها في الوقت الذي نعجز فيه عن إشهار بنك جديد لمواجهة الطلب المتنامي على الخدمات المصرفية؟ أو أن نعجز عن طرح شركات اتصالات جديدة في وقت استطاع فيه ممررو المكالمات الدولية تحقيق أرباح غير مشروعه تقدر بمئات الملايين؟ ألسنا أحق بتحصيل أرباح مقاولات البناء الخيالية من خلال شركات مساهمة بدلا من أن تذهب إلى عمالة يتستر عليها المخالفون؟ كيف يستطيع بسطاء العمالة الوافدة من خلق الفرص وتحويل رمال هذه البلاد إلى ذهب ولآلئ تدر مليارات الريالات غير الشرعية، ونعجز نحن عن استغلال ثرواتنا المتاحة التي حبانا الله بها، وشجعتنا الدولة على استثمارها؟ هناك خلل واضح في إدارة واستثمار الفرص المتاحة التي تنتهجها بعض القطاعات الرسمية، وشبه الرسمية وبعض من رجال المال والأعمال. لا أحد يريد أن يتحمل المسؤولية فكل طرف يلقي بمسؤولية التقصير على الطرف الآخر، والخاسرون هم الوطن والمواطنون. لا يمكن أن نحصر جميع الفرص المتاحة وغير المستغلة في اقتصادنا السعودي بسبب كثرتها وتشعبها، وهي فرص تراكمت على مر السنين دون أن تستغل، ثم ازدادت قوة وجاذبية جراء الوضع الاقتصادي المتنامي الذي تشهده السعودية هذا العام. السعودية تشهد وضعا اقتصاديا استثنائيا نتيجة ارتفاع أسعار النفط وزيادة الإنتاج وتسجيل ميزانية الدولة لفوائض قياسية غير مسبوقة. هذا الوضع الاستثنائي الذي يشهده الاقتصاد السعودي يجب أن يواجه بخطط استثنائية، غير طبيعية، تكفل للاقتصاد السعودي ديمومة النمو في حالة تغير تلك الظروف وتقلص واردات النفط مستقبلا. من غير المقبول أن تطبق نمطية إدارة واستغلال الموارد والفرص في حقبة الركود الاقتصادي على هذه الحقبة التي تشهد بداية الطفرة الجديدة للاقتصاد السعودي. لا يمكن للأوضاع الاستثنائية أن تبقى إلى ما لا نهاية، فهي أوضاع وقتية قد تزول في أية لحظة، والرابحون الحقيقيون هم الذين يتمكنون من اقتناص الفرص التي تتهيأ لهم في الظروف الاستثنائية. الاستثمار في القطاع المصرفي إحدى تلك الفرص المهددة بالزوال ما لم يعجل في اقتناصها وتطويعها لمصلحة الوطن والمواطن. البنوك الأجنبية بدأت في اقتناص الفرص قبل السعوديين، وهي ما كانت لتدخل السوق السعودية لو لم تتأكد من المؤشرات الإيجابية والمشجعة لدخول السوق المصرفية السعودية. لا يمكن للاقتصاد السعودي الضخم أن يركن إلى عشرة بنوك تجارية في الوقت الذي يزيد فيه عدد المصارف التجارية في إحدى الدول الخليجية الصغيرة على 20 مصرفا تجاريا. المصارف السعودية لم تعد قادرة على تقديم الخدمة المقبولة لعملائها، حيث إنها تعمل بأكثر من طاقتها الإنتاجية دون أن تسد الفجوة المتنامية في الطلب على الخدمات المصرفية. بعض المواطنين يتسولون البنوك من أجل فتح حسابات مصرفيه ثم يقضون الساعات الطوال قبل أن يتمكنوا من سداد فواتير الخدمات أو إنهاء إجراءاتهم المصرفية البسيطة. أعتقد أن السوق السعودية تحتاج إلى إشهار أكثر من عشرة بنوك إضافية لسد الفجوة الكبيرة التي حدثت خلال الأعوام الماضية. زيادة عدد البنوك العاملة في المملكة ستزيد من قوة الأداء المصرفي وستدعم الاقتصاد الوطني وستقدم خدمات جليلة للمواطنين وستمنحهم فرصة المشاركة في رساميلها، إضافة إلى ما ستقدمه من دعم مباشر لسوق الأسهم السعودية. التهافت الكبير الذي يشهده اكتتاب مصرف الريان القطري، خصوصا من المواطنين السعوديين، يمكن تجييره مستقبلا لمصلحة السوق السعودية إذا ما أحسنا التعامل مع الفرص المتاحة. مدخرات المواطنين لن تكون ذات جدوى اقتصادية ما لم يتم تنميتها والمحافظة عليها من خلال أوعية استثمارية مربحة تحول بينها وبين الهجرة أو الضياع. المصارف الإسلامية تعتبر أحد أهم الأوعية الاستثمارية ذات الجدوى الاقتصادية العالية، وأهمها على الإطلاق للسوق المحلية وللمستثمرين السعوديين. عودا على بدء، فمشاهد الحزن والأسى لن تتوقف ما لم تتخذ القرارات السريعة والحازمة لتفعيل قرارات التخصيص، وإشهار الشركات، وإنهاء إجراءات زيادة رساميل الشركات وتوفير الفرص الاستثمارية التي تشبع حاجات المواطنين وتدعم الاقتصاد الوطني. أخشى أن تمر الطفرة الحالية وتنتهي دون أن يستفيد منها المواطن البسيط الذي ينتظر من الهيئات المتخصصة ووزارات الدولة أن ترشده وتعينه في تحسين وضعه المالي من خلال طرح المشاريع التنموية والاستثمارية المناسبة. عندها لن نجد غضاضة في المطالبة بمحاسبة الذين قصروا بعد أن سمعوا التوجيه الملكي الحازم "لا عذر لكم بعد اليوم".
تفعيل قرارات التخصيص لإشباع حاجات المواطنين وتدعيم الاقتصاد الوطني
أخبار متعلقة