العمى والخيال (3-3)
يعد (بشار) مرحلة من مراحل التطور الطبيعي للقصيدة القديمة إذ على يده شهدت الصورة الشعرية تحولاً نوعياً سواءً في مفهومها أو في مثيرها ولم تعد عملية نقل لمحسوس يشاغب النظر دون أن يتصل بالقيمة النفسية للأشياء بل أصبحت (الصورة) أداة الخيال الفاعلة ومضماره الرحب الذي يمارس فيه نشاطه وبه يختبر قدراته وذلك حينما شغل به (بشار) عوضاً عن النظر ليزداد خياله توهجاً فكان أن تحررت الصورة من قبضة المحاكاة وسطوة المثال لتجوب عوالم الخيال ..[c1]لعمري لقد هذّبت قولي ولم أدع مقالاً لمغتاب ودعوى لمن لحاومن كان ذا فهم بليد وعقله به علة عاب الكلام المنقحا..(1) [/c]إن باعث (بشار) للتجديد هو عماه, الذي أوحى له بمعان وصور مبتكرة, أحدثت تحولاً واضحاً في القصيدة القديمة؛ فغالباً ما كان بشار في غزله يلجأ إلى تقديم صور سمعية حظيت بالانتشار ونالت استحسان المجتمع :-[c1]يا قــوم أذني لبعض الحي عاشقــة والأذن تعشــق قبل العـين أحياناقالوا : بمن لا ترى تهذي فقلت لهم الأذن كالعين تؤتي القلــب ما كانا[/c]البيتان من الجمال والطرف؛ ما جعلهما حديث إشادة النقاد لعصور متأخرة ومنهم (عبدالله بن المعتز) الذي وقف ممتدحاً البيت الأول لما فيه من ".. معنى بديع لم يسبق إليه أحد " (2), وعلى مثال ذلك توالت صور بشار السمعية المبتكرة التي لو لا (آفة العمى) ما كانت لتظهر, وتحتل مكانة متميزة في تراثنا الشعري.. إن عمى بشار دفعه إلى شحذ خياله, والكد في تأليف صوره؛ وهنا نرى كيف أن اقتران عماه بشاعريته, قد أثمر صوراً سمعية جديدة لم تعرف من قبل :[c1]فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللبوما تبصر العينان في موضع الهـــوى ولا تسمــع الأذنان إلا من القلــب[/c]إن أثر وتأثير آفته واضح بجلاء في صياغة البيتين السابقين, أكان من حيث المعنىأو الصورة. فبشار الأعمى يقدم البصيرة على البصر, ويحل الأذن محل العين.. وغالباً ما كان بشار يؤكد تلك المعاني ويكررها في معظم غزلياته, حيث يجعل البصيرة أو الحس والشعور طريقاً إلى الحب وليس العين, فربما تخدع العين بزيف الظاهر المرئي, لكن القلب صادق لا يخدع صاحبه :[c1]قالت عقيل بن كعب إذ تعلقهــا قلبي فأضحى به من حبهــا أثرأنى ولم ترها تصبو, فقلت لهم إن الفؤاد يرى ما لا يرى البصر[/c]بيتان فيهما من جمال الصوغ, وجدة المعنى, وروعة التصوير ما فيهما, وبهما أصاب بشار كبد الحقيقة, حينما جعل القلب مصدر الحب, والمشاعر الصادقة التي لا يمكن أن تراها العين مهما حاولت.على الرغم من نقد المجتمع لبشار, وهجومهم المتواصل عليه, إلا أن بشاراًً استطاع انتزاع إعجاب مجتمعه, بما قدمه من جديد المعنى وطريف الصورة, فإذا بالصورة تنطق بمعاناته كشاعر أعمى, وتجسد وسائل تواصله الاجتماعي والعاطفي مع محيطه, فكانت صورة السمعية هي إحدى تلك الوسائل :-[c1]لقـد عشـــقــت أذنــــي كلامـــاً رخيماً وقلبي للمليحة أعشقوكيف تناسي من كأن حديثه بأذني وإن غيبــت قرط معلـق [/c]غير أن أمر اقتران عماه بجديده الشعري, لم يقف عند جانب الصور السمعية, بل جاد – أيضاً – بصور ليلية جميلة, احتوت الكثير من معاني وصور متاعبه النفسية الناشئة عن فقدانه نعمة البصر.. ودون شك أن بشاراًً لم يكن الشاعر الأول أو الأخير, الذي مثل له الليل كل معاني الحزن والهم, وشعور الغربة والوحدة, فتراثنا الشعري حافل بالشعراء الذين صالوا وجالوا في هذا الميدان, وجادت قرائحهم بأبيات من وحي لياليهم, إلا أن ليل بشار ليس كليلهم, وعلة شكواه غير علتهم؛ فليله لم يكن ليل عاشق ملتاع يشكو بين أحبته, إنما هو ليل دائم لا يعقبه صباح؛ ليل أبدي؛ ابتلع في جوفه نور عيني بشار, وصادر حقهما في إدراك سحر الألوان ودلالاتها, ولم يبق منها غير لونه الحالك السواد, الذي حال دون رؤية ضوء الشمس. لذلك كانت صور بشار الليلية أكثر عمقاً وأجمل صياغة, لكونها جسدت ليله الدائم الذي لا ينتهي ولا يتزحزح :[c1]خليلي ما بال الدجى لا تزحزح وما بال ضوء الصبح لا يتوضحأضل الصباح المستنير سبيــله أم الدهــر ليـــل كله ليــس يبـــرحكأن الدجى زادت وما زادت الدجى ولكــن أطـــال اللـــيـــل هـــم مبـــرح[/c]ـبفضل عماه – إن كان للعمى من فضل – تصدر بشار قائمة الشعراء في مجال وصف الليل, فصوره الليلية كانت محل استحسان الآخرين, ولم لا؟!.وهو من كان لليل رفيقاً ملازماً ولم ير سواه مذ عرف الحياة.. فالليل جزء أصيل منه, بل هو قدره, لذا أدرك بشار محكم سره, وكشف جوهر أمره, وبرع في تجسيد أثره :[c1]تثاقـــل ليـــلــــي فمـــا أبــرح ونام الصبـــاح فــمــــا أصبـــح[/c]وقف معاصروه بإعجاب أمام صوره الليلية, لما فيها من ابتكار المعنى وجمال الصورة وربما استهوتهم تلك الصور والمعاني, فألحوا على ذكرها في أكثر من كتاب دون سائر أبيات القصيدة, كقوله :[c1]أقــــول وليلتـــي تــــزداد طـــولاً أمــــا لليــل بعدهـــم نهـارجفت عيني عن التغميض حتى كأن جفونها عنهـــا قصار[/c] إن جمال صوره الليلية وحسن تقديمه لها يدفعنا إلى الاعتراف بشاعريته وعلوها, وبخاصة تلك التي قالها بفعل تداعيات طبيعته, والضغوط النفسية والجسدية التي فرضتها عليه آفة العمى, فجسدت تلك الأبيات كل أشكال معاناته من ذلك الظلام, الذي تجذر في عينيه ولم يتزحزح.. فصوره دلت على ثراء وفاعلية خياله, الذي مكنه من إبداع أبيات ذاعت بفعل معان وصور نسجت من طبيعته كشاعر مكفوف, تدخل عماه وبقوة في خلقها من خلال استنفاره واستفزازه لطاقة بشار التخيلية؛ فكان خياله المستنفر المستفز هو من ميزه عن سائر شعراء عصره, وهو أيضاً من أتاح له ".. الانتقال بالصورة الشعرية إلى مرحلة فيها جدة فنية ورقة موضوعية.." (3), لذلك, فلا غرابة إن هو تفوق في مجال الصورة, آتياً بألوان طريفة من الصور الشعرية التي لا تصدر إلا عن شاعر أصيل؛ ولعل هذا ما يفسر لنا – مثلاً – شغف بشار بالتشخيص, وهو في هذا الجانب يكون قد انتقل بالصورة من مجرد إطار تجمع فيه جزئيات المنظور المحسوس دون ارتباط بأية قيمة نفسية أو علاقة عاطفية إلى طور أعلى وأرقى, فيه تمنح الحياة للمدركات المحسوسة لتكتسب قيمة نفسية وعاطفية تمكنها من إقامة علاقة تأثيرية مع ذات الشاعر, تتسم بالحيوية والتفاعل لا علاقة ظاهرية غرضها النقل والمحاكاة؛ لذا غالباً ما يعمد بشار إلى خلق تلك العلاقة من خلال إكساب صوره صفات إنسانية لتجسيد أفكاره ومعانيه, وكأنه – أي بشار – يسعى إلى (أنسنة) كل شي :[c1]طال الثواء على تنظر حاجة شمطت لديك فمن لها بخضاب[/c]نجد بشار قد استعار للتعبير عن حاجته الواقفة دهراً عند باب الممدوح بالمرأة العجوز الشمطاء, التي تقادم عليها الزمن حتى ملها, فإذا بها في حاجة إلى خضاب تستر به شيبها الواضح..ومن صوره التشخيصية المتصفة بالطرافة قوله :[c1]أحلت به أم المنايا بناتها بأسيافنا إنا ردى من نحاربه[/c]إذ جعل الشاعر من الموت شخصاً (أم المنايا), كما جعل للموت بنات (بناتها) هي الميتات المختلفة المتشعبة.أو في قوله : [c1]ثــــم قالـــت نلقــــاك بعـــد ليـــال والليــالي يبلين كل جديــــدعندها الصبر عن لقائي وعندي زفرات يأكلن قلب الجليد[/c]في البيت السابق نراه يخلع على الليالي والزفرات صفات إنسانية, حيث أعطاها قدرة على ان تبلي وتأكل.. ودون شك أن براعة بشار في التشخيص إنما مرجعها عماه الذي دفعه إلى تفعيل خياله – كما أسلفنا – والكد فيه, وصولاً إلى صور شعرية مبتكرة, تفوق بها على شعراء عصره, وربما قبل وبعد عصره, أقر بذلك معاصروه والمتأخرون ومنهم (عبد القاهر الجرجاني) حيث امتدح براعة بشار وقدرته في هذا الجانب, بل وقدمه على سائر الشعراء في موازنته بين بيت (بشار) :[c1]وكأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه[/c]وبين بيتين أولهما لشاعر متقدم هو (عمرو بن كلثوم ) :[c1]تبنى سنابكها من فوق أرؤسهم سقفاً كواكبه البيض المباتيـــر[/c]والثاني لشاعر متأخر هو ( المتنبي) :[c1]يزور الأعادي في سماء عجاجة أسنته في جانبيهـــا الكواكـــب[/c]يقول (الجرجاني) :" التفصيل في الأبيات الثلاثة كأنه شيء واحد, لأن كل واحد منهم يشبه لمعان السيوف في الغبار بالكواكب في الليل, إلا أنك تجد لبيت بشار من الفضل ومن كرم الموقع, ولطف التأثير في النفس ما لا يقل مقداره, ولا يمكن إنكاره, وذلك لأنه راعى ما لم يراعه غيره, وهو أن جعل الكواكب تهاوى فأتم التشبيه, وعبر عن هيئة السيوف وقد سلت من الأغماد وهي تعلو وترسب, وتجيء وتذهب, ولم يقتصر على أن يريك لمعانها في أثناء العجاجة, كما فعل الآخران, وكان لهذه الزيادة التي زادها حظ من الدقة التي تجعلها في حكم تفصيل بعد تفصيل. "( التفصيل) سمة غالبة على صوره, فإذا به متفوق في تأليف الصورة الشعرية, التي هي بنت خياله الشرعية, لا بنت النظر والمحاكاة, فاستحق الإعجاب, ونال التقدير, حينما سأل : ".. من أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولا شيئاً فيها.. " أجل إن بشاراً قد (.. أتم التشبيه..) فملك صهوة الخيال, ليجوب عالم التصور والصور, بكد وولع بالتفصيل, ناشداً الإفصاح عن مكنون خياله, كيما يمارس وظيفة تأليف صور لم يرها رؤية عين, إنما رآها توهماً, ليعيد صياغة محسوس لم يبصره قط, فكان أن توهج خياله وتألق في ظلام عينيه, ليجود بصور شعرية رائعة, ربما تطرف في بعضها وربما سقط, غير أن ذلك لا ينفي مكانته كشاعر أصيل أحدث تحولاً نوعياً, في جانب الصورة الشعرية, فأدهش من حوله إعجاباً ليقال عنه :" وهذا أعمى أكمه, ولم ير هذا بعينه قط, فشبه حدساً فأحسن وأجمل "..[c1] المصادر والمراجع :[/c]1. ديوان بشار بن برد : شرح : حسين حموي, دار الجيل, بيروت, 1996م, ص 504..2. عبدالله بن المعتز : طبقات الشعراء, تحقيق : عبد الستار أحمد فراج, دار المعارف, القاهرة, الطبعة (4), 1981م, ص 29..3. مصطفى الشكعة : الشعر والشعراء في العصر العباسي, دار العلم للملايين, بيروت, الطبعة (3), 1979م, ص 23..