[c1]شفاء منصر[/c]في خضم عالم متغير صاخب وصعب، تصدعت على أرضه أيديولوجية التعددية القطبية، وصعد على أنقاضها نظام وحيد القطب بدا للوهلة الأولى باهراً بالمسمى الذي أطلق عليه (النظام العالمي الجديد).ثم اتضح أنّه عهد ثقيل الوطأة استحوذت عليه سلطة متغطرسة واحدة لا تنازعها سلطة أخرى حسمت صراعها الشرس واللاأخلاقي مع أعدائها الشيوعيين بعد حرب باردة امتدت زمناً وجرت آخر فصولها الدامية والمكلفة على أرضنا العربية بإشعالها فتيل حرب الخليج الثانية التي دفع ثمنها العرب من مقومات القوة والحيوية والوجود لديهم، ومهدت نتائجها القاسية والمريرة الطريق لما يسمى بالشرق الأوسط الجديد ولمرحلة جديدة من الهيمنة الإسرائيلية على هذا الشرق الجديد.واتضح جلياً أنّ حلم العرب بالتغيير الذي سيؤسس له ذلكم النظام الجديد مجرد وهم حيث بقيت المصلحة القذرة والقوة المتغطرسة تتحكم بأمنهم ومستقبل أجيالهم.لقد تغير الوضع العربي متأثراً بالمتغيرات الدولية لكنه تغيير المستسلم للخيارات المهلكة والاملاءات الخارجية الخانقة التي تريد له خيراً ولا نهوضاً حضارياً.فمنذ “خطيئة” اختلال الكويت وتدمير العراق (لم يُعد الطرح الوحدوي واقعياً وبدأت السياسات القُطرية تتكشف وتُعلنُ عن تحالفاتها مع الغرب ومع العدو الصهيوني، دونما اعتبار للصراع العربي – الإسرائيلي ومتطلباته وثوابته وأهدافه، وبدأت على أرضية الخلافات العربية – العربية البحث عن الحماية في ظل الغرب..) وعلى ضوء ذلك الواقع المأزوم أصبح أمل العرب في التوصل إلى تحقيق تقدم على أساس امتلاك قوة محررة ضعيف جداً في الواقع الراهن لاسيما في مجالات العمل العربي المشترك.ولكن كيف يمكننا تغيير المعطيات الموجودة للوضع العربي الراهن، ومن ثم تقديم صورة أخرى جديدة لعالم أو لنظام مغاير لنتخلص من صور الإلحاق والإذلال والعجز والارتهان للأجنبي ونتحرر من التسلط الذي تمارسه الأنظمة القمعية على شعوبها المُستلَبَة.إنّ تغيير المعطيات الحالية لن يتم إلا بدور مؤثر للوعي وللفكر.والمثقف هو الذي يمكن أن يلعب دوراً في ذلك الواقع المتغير، ليعيد تشكيل صورة العالم من حوله إذا تخلص من “تأثير المصلحة والرغبة في السلامة الذاتية”.إنّ للعمل الثقافي قدرة خلاقة على “مواكبة التغيرات وعلى اكتشاف ما ينفع الناس ويحفظ الأصالة والهوية الشخصية ومقومات الوجود والتمايز في اللحظات ا لصعبة”.عندما يشتد التراجع في الجبهات المختلفة للأمة ويصبح العمل الثقافي كما يقول المفكر محمد جابر الأنصاري :“خط الدفاع الأخير بل يتحول إلى جبهة مواجهة وإثبات وجود في وجه الاختراقات المضادة، الأمر الذي يسمح بالافتراض أنّ العروبة والهوية العربية الواحدة تقف أو تسقط في نهاية المطاف باعتبارها ثقافة ومسألة انتماء ثقافي قبل أي اعتبار”.فهل سيحقق المثقف العربي رؤية خاصة به إزاء كل ما يجري من حوله أم أنّه لا يستطيع الخروج عن ذلك الدور الذي ترسمه له السياسة؟“لقد أعلن الغرب أنّ القرن القادم سيشهد انهيار العروبة والإسلام” مستغلاً الانقسامات الشديدة التي حدثت بعد حرب الخليج الثانية بين الجماهير الشعبية (وأصبح هناك هجومامستمر على كل من يفكر تفكيراً قومياً أو وحدوياً وربما هناك ملاحقة لكل من يرفض الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العَلاقات معها)، وهذا الأمر يفرض نفسه على المثقفين العرب وسيضطرهم إلى مواجهة الأسئلة والرد عليها وإلى الوقوف أمام اختيارات واتخاذ مواقف تجاهها.“كموقف المثقفين جراء موقف الغرب والعدو الصهيوني من الثقافة القومية وثوابتها من توجهات الإسلام السياسي واتجاهاته ومن صراعات المثقفين العرب أنفسهم إزاء توجهات الثقافة العربية وهل ستأخذ تلك الصراعات منحىً داخلياً عربياً – عربياً أم عربياً – إسلامياً بين المثقفين أم أنّها سوف تتجه بهم إلى رؤيةٍ وواقعٍ جديدين، يتجسد معها الخطر الخارجي إلى الدرجة التي يتحتم معها مواجهته بأعلى مستوى من أي صراعٍ داخلي أو ثانوي فلا تكون المواجهة عند ذلك مع جذورهم الثقافية ومع عقيدتهم بل مع الخطر والغز والتآمر وأشكال الاستلاب الخارجي.وكيف سيكون تعامل المثقفين مع السياسة العربية أو سياسة بعض الأقطار العربية التي تسعى للتطبيع مع العدو وستحاول أن تفرضه، لأنّ هناك مثقفين مؤمنين بمسألة التطبيع، وهناك مثقفون يرفضون التطبيع بكل أشكاله، ويرون أنّ الثقافة العربية هي “الحصن الخير الذي يحفظ مواقف الأمة وثوابتها وحقوقها ولا ينبغي أن يُخترق هذا الحصن أبداً”.إنّ سؤال المثقف والسلطة يأتي في مقدمة الأسئلة لمن يبحث للثقافة العربية عن دور ورؤية في عالم متغير، عالم شرس تفرقت فيه بنا الدروب عندما لم نعتصم بركن مكين هو ثوابتنا وقيمنا و(نبع) ثقافتنا وحضارتنا وعندما شككنا بقدرتنا على التميز بين ما ينفعنا أو يضرنا فكان ذلك الاختيار العاجز والمتخاذل مجلبة للضعف والضياع والاستسلام، ولأنْ تتكالب علينا الأخطار من كل حدب وصوب، وتتحول أيامنا إلى هزائم متوالية ما زالت تتوالى فصولاً.. فهل نحن بحاجةٍ إلى مراجعة ثقافية جادة في مواجهة الهزيمة؟نعم نحن بحاجة إلى مراجعةٍ ثقافيةٍ لتصبح مسؤولية النهوض بالواقع العربي المتردي، كما يقول د . محمد جابر الأنصاري :“فرض عين” وهنا يبرز على نحوٍ خاصٍ دور المثقف العربي باعتباره ضمير أمته ولا يصبح أمامه سوى المفهوم الذي أسماه الرئيس التشيكي “فاتسلاف هافل” : ذات يوم “العيش في الحقيقة” والمقصود منه هو أن يتحدى المثقف الهزيمة ويبشِّر أمته بالنهوض أن يكسر الحلقة المفرغة لـ (المسكوت) عنه الذي هو الاستسلام والخنوع وأن يغلق حتى أمام نفسه كل طرق الهروب، بما في ذلك السعي إلى مُتَعْ الحياة اليومية الصغيرة”.المرجع : منشورات اتحاد الكتاب العرب 1997م
|
ثقافة
العيش في الحقيقة
أخبار متعلقة