مع الأحداث
الفقر كلمة مقيتة، كريهة تعافها النفوس، وتشمئز منها القلوب، وهو متفشٍّ في هذا العصر الظالم، عصر الثروات الهائلة والبؤس المزري، فبينما نجد أناساً يعيشون في ترف حياتي، يلعبون بالملايين وتقتلهم التخمة، نجد آخرين لا يكادون يجدون لقمة العيش وإن وجدوها كانت بشق الأنفس، يعيشون في أكواخ من الصفيح، بل وفي العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يمزق أحشاءهم الجوع، ويهدُّهم المرض، يتجرعون مرارة الحاجة، وتغص حلوقهم بذلة المسكنة.وقد بات مألوفاً منظر الملايين من البشر الذين تسقط عليهم إغاثات من الطائرات فتختلط الحبوب بالتراب فتلتقطه أيدي الجوعى الذين لا يكسو عظامهم إلا الجلود من الهزال، وقد هدَّ الجوع والمرض قواهم فلا يكاد أحدهم يستطيع أن ينهض من على الأرض من الضعف، إنه عدل الألفية الثالثة، عصر العولمة والتجارة الحرة، عصر احتكار الثروات من قلة من الحكومات والشركات الكبرى ورجال الأعمال الذين سيطروا على التجارة الدولية في الشرق والغرب، فأصبح الفقراء ضحية هذا العصر، عصر الثراء.إن للفقر أبناءً لا يقلون عنه مقتاً وكرهاً وبشاعة منهم الجوع والمرض والجهل وانحطاط الكرامة، وأن العالم الغربي المترف هو أحد أهم مسببات الفقر في الدول النامية، فهو الذي استعمرها ونهب ثرواتها وبث فيها أسباب النزاعات، وهو اليوم مطالب أن يحارب الفقر في تلك الدول لا أن يزيده بإشعال الصراعات وشن الحروب وأن لتلك الدول الفقيرة فاتورةً مستحقة على الدول المتقدمة فإن الغنى والبحبوحة التي تعيشها تلك الدول الغنية يرجع الفضل فيها - لحد كبير - إلى تلك الدول الفقيرة التي عاشت تُسرق خيراتها ردحاً من الزمن أيام الاستعمار.إن الفقر بوجوهه الكريهة يعم العالم عامة وان كانت أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا أصبحت موطناً رئيسياً له على وجه الخصوص، حيث انتشر بين معظم السكان كانتشار النار في الهشيم، حتى أصبحوا فريسة للجوع والمرض، ومما زاد الطين بلة الفساد الذي يعد أهم أسباب انتشار الفقر، وهذا شديد الانتشار للأسف في العالم العربي والإسلامي.الفقراء هم السواد الأعظم على وجه الكرة الأرضية في ظل العولمة المجنونة، بل إن الصورة تزداد قبحاً، حيث إن الفقراء يزدادون فقراً وأصحاب الثروات يزدادون ثراء، فنجد أن 20 في المئة هم الأكثر ثراء في العالم يحصلون على حوالى 84 في المئة من الدخل العالمي.من هنا، فإن ثلثي سكان العالم يعيشون على أقل من دولارين ونصف الدولار في اليوم الواحد، 1.6 بليون إنسان يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم، بليون إنسان يفتقرون إلى المسكن الصحي ولا يتوافر لهم إلا مساكن بدائية، 80 في المئة من سكان البلدان النامية هم من الفقراء، وبذلك فقد أضحت كل وعود الدول والمنظمات الدولية بتقليص عدد الفقراء في العالم مجرد سراب.هذا، على رغم القمم الدولية التي عقدت وفي مقدم أهدافها معالجة حالة الفقر في العالم، ومنها قمة الأرض الثانية التي انعقدت عام 2002، كما ناقشت تلك القمة معاناة 40 في المئة من سكان العالم نقص المياه الصالحة للشرب، وأكثر من 2.2 مليون طفل سنوياً من الدول النامية يموتون بسبب الأمراض، وأكدت القمة أيضاً أن التنمية المستدامة لن يكتب لها النجاح إلا إذا تمكن العالم من القضاء على الأمراض وتمكن من استئصال آفة الفقر باعتباره العدو الأكبر الذي يقف متحدياً للتنمية المستدامة في الدول النامية.وإذا كان عدد سكان العالم قد بلغ 6.4 بليون إنسان ويتوقع أن يبلغ 7 بلايين نسمة مع حلول عام 2012، فإن عدد الفقراء في العالم اليوم قد بلغ أكثر من 3.5 بليون إنسان على كوكبنا الأرضي، ومع ازدياد عدد السكان فإن الفقراء سيزداد عددهم ويكفي تدليلاً على ذلك أن من يعانون سوء التغذية بلغوا بليون إنسان هذا العام طبقاً لتقارير منظمة الأمم المتحدة الفاو.وفي العالم العربي بسكانه أكثر من 300 مليون إنسان هناك 100 مليون من الفقراء (أي 25 في المئة من السكان)، وأكثر من 15 مليون يعانون من سوء التغذية وأكثر من 17 مليون عربي عاطلين عن العمل، فالفقر قد استوطن بلاد العرب التي تملك ثروات طبيعية طائلة من النفط والغاز والمعادن النفيسة والمياه والأراضي الخصبة، هذا بجانب الموقع الاستراتيجي المهم حيث يمر من خلال بوابتها أكثر من 50 في المئة من تجارة العالم، ولكن الإدارة المتواضعة للثروات وانتشار الفساد زاد من حدة وقع الفقر وانتشاره.وجاءت طامة الانهيار الاقتصادي العالمي فزادت معاناة شعوبنا واهتز اقتصاد دولنا، فانهارت أسواق الأسهم في الوطن العربي، خصوصاً في منطقة الخليج العربي لتذهب أموال الطبقة المتوسطة مع الريح، فتحول السواد الأعظم منهم من طبقة ذات دخل متوسط إلى الفقر أمام ضعف الأجهزة المالية والإدارية المسؤولة عن إدارة الاقتصاد برمته، خصوصاً البورصات العربية الضعيفة أصلاً.ومما زاد الطين بلة انهيار أسعار النفط فبعد أن بلغت أسعاره 147.10 دولار إذا بها تهوي إلى أقل من 35 دولاراً، وبهذا فإن إيرادات الدول النفطية تسودها حال من عدم الاستقرار بعد السنوات السمان، وهذا سيترك أثره بلا شك في موازنات الدول ونفقاتها وينسحب أثره حتماً على طبقة «الغلابة» ليقع عدد أكبر من المواطنين في براثن الفقر المدقع الذي أصبح أثره مع ارتفاع أسعار كل المواد الغذائية مدمراً في هذه الشريحة الكبيرة المغلوبة على أمرها.اليوم لا يخلو مجلس أو ديوانية في العالم العربي، بل في معظم الندوات وغيرها عن التطرق إلى مناقشات التي تدور في تلك المجالس وبين الناس للقضايا السياسية والاقتصادية الساخنة في المحيط العربي، بل إن المناقشات الأكثر سخونةً وإلحاحاً تدور في طرحها العام حول القضايا التي تعد بالفعل أساسية، لأنها تمس الإنسان العربي في لقمة عيشه في هذا القرن المليء بالتحديات وفي مقدمها: قضايا الفقر التي خرج من رحمها جهل ومرض وتفكك اجتماعي خطير، حتى إن دولاً غنية منتجة للنفط مثل دول مجلس التعاون الخليجي بلغت نسبة الفقر في بعض مدنها الكبيرة حوالى 20 في المئة من سكانها، وفي دولة غنية أيضاً كمصر بلغ عدد الفقراء 16 مليون إنسان على ذمة دراسات صادرة عن البنك الدولي.المهم أن أعداد غفيرة في الوطن العربي شاء قدرهم أن يقعوا تحت وطأة الفقر، وعلى رغم أن قضية الفقر تعد من أعقد القضايا التي تواجه الأمة، إلا أن التغلب عليها إذا صدقت النيات وشحذت العزائم وتوافرت الإرادة يعتبر ممكناً إذا وجدت خطط مقاومة الفقر التخطيط السليم والقرارات الاقتصادية الصائبة التي تقوم على أساس مبدأ توزيع الدخل طبقاً لمبادئ العدالة، هذا لأن التفاوت الكبير في نسب توزيع الدخول هو أحد أهم أسباب انتشار الفقر بين المواطنين، وهنا تبرز أهمية تطبيق قوانين الزكاة تلك الشعيرة الإسلامية التي استهان بها الناس.[c1]*عن صحيفة «الحياة» اللندنية[/c]