نبض القلم
إنه مما لا شك فيه أن بلادنا قد شهدت خلال الثمانية عشر عاماً الماضية، وهي سنوات ما بعد الوحدة المباركة شهدت جملة من الإنجازات العظيمة التي لا يمكن إنكارها، كانتشار التعليم وزيادة عدد الجامعات وبناء الطرقات الحديثة، وتطوير وسائل المواصلات، وتوسيع الخدمات الصحية والاجتماعية، وتحسين خدمات المياه والكهرباء والصرف الصحي، وتحسين أساليب الزراعة والري والتوسع العمراني.. ولعل أعظم المنجزات لدولة الوحدة كانت الديمقراطية بما نتج عنها من تعددية سياسية، وانتخابات برلمانية محلية، ورئاسية، وها نحن اليوم نشهد عملية جديدة في الممارسة الديمقراطية، وهي عملية انتخاب أمين العاصمة ومحافظي المحافظات.إن هذه المكاسب الضخمة ما كان لها أن تتحقق لولا الوحدة المباركة التي خطت باليمن خطوات متقدمة في مجال الممارسة الديمقراطية.إلا أن هذه المكاسب كادت تفقد قيمتها، وأوشك أن تتضاءل أهميتها، بسبب عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وهو ما أدى إلى صعود عقليات متخلفة إلى مراكز اتخاذ القرار، أو المراكز القيادية المختلفة، وكان من جراء ذلك انعدام التوافق بين الفرد وعمله، وعدم تكيفه مع بيئته، وذلك لأن الأسلوب السائد في تعيين القيادات كان يعتمد على المؤثرات القبلية أو العشائرية أو الحزبية، أو الصلات والعلاقات الشخصية، فكان الفرد يكلف بوظيفة قيادية في وزارة أو مصلحة أو هيئة أو مؤسسة، ويطلب منه القيام بأعمال لا تتناسب مع قدراته وميوله، ومن غير أن يتم تدريبه أو تأهيله للقيام بتلك الأعمال، ومن دون النظر إلى قدراته وخصائصه وسماته الذاتية، يجد نفسه في المكان غير المناسب، وفي ذلك ضرر كبير يلحق به وبالعمل الذي يؤديه، فبالنسبة للفرد فإنه يتعرض لاضطرابات نفسية، لا قبل له بتحملها، وفي هذه الحالة يهبط مستوى إنتاجه، ويقل أداؤه، ما يضر بمصلحة العمل.ولقد اقتضت الإرادة الإلهية أن يكون الناس مختلفين بعضهم عن بعض في القدرات والاستعدادات، أي أنهم مختلفون في الفروق الفردية.. فلا يوجد اثنان متشابهين تماماً، وينعكس ذلك على حركة الحياة التي هي الأخرى تختلف في طبيعتها وتنوع أشكالها، وأساليب العمل فيها، فلكل عمل طبيعته الخاصة، ومتطلباته، ومستلزمات نجاحه.ولذا لا يجوز أن يكلف الإنسان بالقيام بأعمال لا يستطيع القيام بها، ولا يصح أن يطلب من الشخص انجاز أعمال لا قدرة له على أدائها لأن ذلك يتنافى مع الفطرة الإنسانية، ويتعارض مع التوجيهات الإلهية التي تقول:”لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”:”البقرة، 286”.وهو ما يفيد بضرورة مراعاة قدرات الفرد واستعداداته عند اختياره للقيام بعمل ما، ما يعني أن اختيار شخص ما ليكون محافظاً لأي محافظة هو أمانة في عنق من سيقوم باختياره أو انتخابه.وما دامت بلادنا تشهد هذه الأيام عملية انتخاب أمين العاصمة والمحافظين فإن مسؤولية الهيئة الناخبة عظيمة وخطيرة، مما يستوجب اختيار الشخص المناسب لهذا الموقع القيادي الهام، وحسن الاختيار ضرورة تحتمها طبيعة الموقع وأهميته، فموقع المحافظ يحتاج إلى رجل قوي ذي إرادة وهمة، مما يستوجب التحري وحسن الاختيار، اقتداء بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان شديد التحري في الشخص الذي يختاره لتولي وظيفة عامة.. وقد روي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني “أي توليني عملاً عاماً” قال: فضرب على منكبي ثم قال: “يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذ بحقها، وأدى الذي عليه فيها”.”رواه أحمد”.وعنه كذلك أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” من شهد على مسلم شهادة ليس لها بأهل فليتبوأ مقعده من النار” “رواه أحمد”.فنستدل من الحديثين أن مسألة انتخاب المحافظ ليست من الأمور الهينة كما قد يتصورها بعض أفراد الهيئة الناخبة، بل هي أمانة كبيرة في عنق كل واحد منهم، ولذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من تضييع هذه الأمانة أو التفريط فيها، في قوله:” إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة” قيل: وما إضاعتها يا رسول الله؟ قال:” إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة” “رواه البخاري”.ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحذير من عاقبة سوء الاختيار، بل إنه عد ذلك مخالفة لأوامر الله، وغشاً للمسلمين، فقال: “أيما رجل استعمل رجلاً على عشرة أنفس، وقد علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين” رواه أبو يعلى، عن حذيفة.وبلغ من حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسن الاختيار أنه كان يرفض تعيين القيادات وفقاً لمعيار القرابة والمحاباة، وقد نحا نحوه خليفته أبو بكر الصديق، فيما رواه يزيد بن سفيان حين قال: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام: يا يزيد، إن لك قرابة سعيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أخوف ما أخاف عليك، بعدما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة، فعليه لعنة الله، لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم” رواه الحاكم.ومعنى ذلك أن الذي ينتخب شخصاً لمنصب المحافظ محاباة، أو بدافع العصبية القبلية أو الحزبية، وليس لكونه أفضل المرشحين، فعليه لعنة الله، ولا يقبل الله منه فرضاً ولا نافلة، أي أن عباداته غير مقبولة عند الله.. ولذا فإن حسن اختيار المحافظين واجب ديني قبل أن يكون واجباً وطنياً. * إمام وخطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)