أضواء
عمار تقيمنذ الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، والكثير من الدول العربية والإسلامية تشهد ارتفاعاً ملحوظاً وخطيراً لحالة الاحتقان الطائفي، وهذا الأمر يعود إلى سببين رئيسيين، الأول: أن تأجيج هذه الحالة يقع ضمن استراتيجية المحتل لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأهداف والمصالح. الثاني: اتساع رقعة الهجوم الذي يشنه أصحاب الفكر التكفيري على كل من يخالفهم في المذهب، وعلى رأسهم طبعاً يأتي المسلمون الشيعة، وهو ما سنتحدث عنه في مقالنا. حالة الاحتقان هذه، وبعد أن وصلت إلى مراحل متقدمة وخطرة، أدت إلى سفك الدماء، واستباحة الأعراض، وتكفير الآخر، والقتل على الهوية، دعت العديد من دول المنطقة وعلماء المذاهب الإسلامية، الذين استشعروا هذا الخطر الداهم من أصحاب هذا الفكر المنحرف، إلى التصدي لحال الاحتقان الطائفي، وذلك من خلال محاولة التخفيف من شدة وخطورة هذه الحالة، سواء عبر تكثيف المؤتمرات أو البيانات التي تدعو إلى الاعتراف بجميع المذاهب الإسلامية، ونبذ الطائفية واحترام الآخر. والمفارقة هنا أن جميع تلك المؤتمرات تبنتها دول عربية سنية، وذلك لإعطاء الحدث زخماً إضافياً، كما يراه المراقبون.البداية كانت مع «مؤتمر الدوحة لحوار المذاهب الإسلامية»، والذي ضم نخبة من خيرة علماء الأمة. وهنا استحضر كلام الدكتور محمود حمدي زقزوق، وزير الأوقاف المصري، الذي شارك في المؤتمر، وقال: «ان جوهر المشكلة بين المذاهب الإسلامية تكمن في قضية التكفير والتعصب». أما الدكتور أكمل الدين أوغلو الأمين العام لـ «منظمة المؤتمر الإسلامي» فقد شدد في كلمته خلال «مؤتمر الدوحة لحوار المذاهب الإسلامية» على «تحريم تكفير المسلمين، لأننا اليوم أمام منعطف خطير وواجبنا كبير نحو القضاء على الفتن المذهبية». بعد «مؤتمر الدوحة»، جاء «المؤتمر الإسلامي» الذي عقد في المملكة الهاشمية وشارك فيه نحو 180 عالماً ومفكراً من أربعين دولة إسلامية يشكلون مختلف المذاهب. وأبرز ما خرج عن ذلك المؤتمر، صدور وثيقة بإجماع المشاركين فيه نصت على: «إدانة وعدم جواز تكفير أتباع المذاهب الإسلامية وتحريم دمائهم وأعراضهم وأموالهم». إلا أن أكثر ما كان لافتاً في «مؤتمر عمان الإسلامي»، الكلمة التي ألقاها الملك الأردني عبد الله الثاني، والتي دعا فيها إلى «توحيد موقف أتباع المذاهب الإسلامية الثمانية، على مبدأ اعتراف كل مذهب من هذه المذاهب بصحة إسلام أتباع المذاهب الأخرى، وعدم جواز تكفير أي مسلم من أتباعها». ثم كان الموعد مع «وثيقة مكة» في المؤتمر الذي عقد في المملكة العربية السعودية، والذي شكل نقطة مهمة في تاريخ مؤتمرات التقريب بين المذاهب الإسلامية، سواء لجهة الدولة الحاضنة لمثل هذا المؤتمر، أو لعدد ونوعية علماء المسلمين من الشيعة والسنة الذين شاركوا في «مؤتمر مكة المكرمة». «وثيقة مكة» نصت على عشرة بنود أساسية نكتفي بالتذكير بالبند الأول والذي نص على أن: «المسلم هو من شهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه بهذه الشهادة يعصم دمه وماله وعرضه، ويدخل في ذلك السنة والشيعة جميعاً، وان الاختلاف بين المذهبين هو اختلاف نظر وتأويل وليس اختلافاً في أصول الإيمان ولا في أركان الإسلام، ولا يجوز شرعاً لأحد من المذهبين أن يكفر أحداً من المذهب الآخر». بعد ذلك، جاء «مؤتمر جدة لحوار المذاهب الإسلامية»، والذي عقد قبل نحو أسبوعين في المملكة العربية السعودية أيضاً، والذي شارك فيه الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، رئيس مجلس الشورى السعودي، ونخبة من علماء السنة والشيعة نددوا جميعهم بالجرأة على التكفير وخلصوا إلى «أن جميع المذاهب الإسلامية تؤمن بالدين الإسلامي وأركانه، ولا يجوز تكفير أي مذهب للآخر». هذه المؤتمرات، توجتها المملكة العربية السعودية مجدداً بالمؤتمر الذي عقد قبل أيام على أرضها، والذي دعا إليه العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، والذي يهدف إلى التقريب بين الطوائف الإسلامية، وقد شارك فيه أكثر من 500 من علماء الدين الإسلامي يمثلون مختلف المذاهب الإسلامية.هذا الكم والنوع من المؤتمرات التي تدعو إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية، خصوصاً تلك التي جرت على أرض المملكة العربية السعودية، تعكس في واقع الأمر توجه العديد من الدول العربية تجاه محاولة تطويق حالة الاحتقان الطائفي في المنطقة، التي تأججت منذ الغزو الأميركي للعراق. وما يبعث على الراحة والطمأنينة أن المملكة العربية السعودية كان لها نصيب الأسد في عقد مؤتمرات التقريب بين المذاهب الإسلامية خلال الأعوام الأخيرة.لكن المشكلة أنه ورغم تزايد عدد المؤتمرات التقريبية التي تعقدها بعض الدول العربية لمحاولة التخفيف من حالة الاحتقان الطائفي، والتي شارك فيها كبار علماء المذاهب الإسلامية، لا يزال أصحاب الفكر التكفيري يصرون على رفضهم لأي محاولة للتخفيف من هذه الحال!ففي الوقت الذي استقبلت فيه الرياض «مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية» بدعوة كريمة من العاهل السعودي، خرجت علينا مجموعة من العلماء ببيان وقعه 22 رجل دين في السعودية يكفرون فيه الشيعة، ويعتبرونهم: «شر طوائف الأمة وأشدهم عداوة وكيداً وكفراً وخروجاً من الملة»!حقيقة لا أدري أين أضع بيان ما يسمون أنفسهم بالعلماء؟ فالعلماء كما نعرف يفترض بهم أنهم الأشد حرصاً على وحدة الأمة واستقرارها وسلمها، إلا أن هذا البيان لا يمكن لنا إلا أن نضعه في سياق تأصيل للمنهج التكفيري المنحرف، وهو يشبه تماماً العمليات الإرهابية والأحزمة الناسفة التي ينفذها أتباع أولئك العلماء في العراق! فلا فرق بين العنف اللفظي والعنف الجسدي، بل إن العنف الجسدي نتاج وانعكاس للعنف اللفظي!إن حال الاحتقان الطائفي في الكثير من دول المنطقة لا يمكن لها أن تهدأ مادام أصحاب هذا الفكر المنحرف يعيثون فساداً في الأرض من خلال بياناتهم التكفيرية التي تدعو صراحة إلى إعلان حرب مذهبية على الآخر! وعليه، لا بد من الوقوف ملياً أمام ظاهرة انتشار الفكر التكفيري المتعصب، ومحاولة إيجاد الحلول العملية، بعيداً عن التنظير، للحد من هذه الظاهرة الخطيرة قبل أن تستفحل أكثر وأكثر، عند ذلك فإن نار الفتنة الطائفية إذا اشتعلت، لا سمح الله، فإنها ستأكل الأخضر واليابس ولن تعرف من معها ومن ضدها! فما لم يتم احتواء وتحجيم أصحاب هذا الفكر المنحرف، فإن الأمور تنذر بأسوأ العواقب والتداعيات، خصوصاً في ظل وجود من يتربص العداء لهذه الأمة!لذلك أجد من الضروري أن يتم تركيز جهود الدول العربية وعلماء الأمة بشكل عملي على كيفية مجابهة هذا الفكر المنحرف، والحد من انتشاره قبل الولوج في مؤتمرات التقريب بين المذاهب، لأنه في حال نجحنا في الحد من ظاهرة الفكر التكفيري فإننا لن نحتاج إلى عقد مؤتمرات للتقريب بين المذاهب الإسلامية![c1]* عن / صحيفة (الرأي العام) الكويتية [/c]