قصة قصيرة
مختار مقطريزوجتي تصحو من النوم في الساعة السابعة،على رنين المنبه،تحضر لي الخبز والبيض والشاهي،وبعد نصف ساعة تصحيني،وتعود للنوم،لكنها لم توقضني هذا الصباح،صحوت من تلقاء نفسي،قبل أن يرن المنبه،معذورة،ليلة البارحة احتفلنا بعيد زواجنا العاشر،وسهرت معي إلى ما بعد منتصف الليل كان احتفالاً يليق بالمناسبة دعونا الله أكثر من مرة أن يرزقنا بالولد.نظفت أسناني واغتسلت وارتديت ثيابي،لكن رأسي ظل مصدعاً من أثر السهرة وعيناي حمراوان وكما توقعت،لم أجد الخبز والبيض والشاهي،خرجت من البيت،والحاج سيف الذماري كعادته جالس على كرسيه الخشبي بجوار باب بيته يقرأ الصحيفة،لكنه اليوم لم يحيني،ولم يبتسم لي بمجرد سماعه صوت الباب،أنا أغلقه بقوة،ثم يقرأ لي عناوين الصفحة الأولى،وأنا أدعي الاهتمام لأني بدأت أكره السياسة منذ اندلاع الحرب الأولى التي انتصر فيها السلاح.تجاهلت الحاج سيف الذماري لكن هزاع اليريمي،صاحب البقالة لم يرفع يده ليحيني،ويهتف (صباح الخير) كما تعودت منه مع أنه كان يراقب بنات الثانوية بعينين جائعتين،وأنا أمر بالقرب منهن أمام البقالة،وبنت الثانوية المنقبة،لم ترسل إلى وجهي نظرتها الخاطفة السافرة بالإعجاب،كما عودتني،ومنذ أكثر من شهر،التقينا- أنا وهي- هي بالنظرة الخاطفة الجريئة،وأنا بإعجابها بوسامتي،فمنذ الحرب الأولى التي انتصر فيها السلاح،لم أعد أحفل بالحب تم تلاشت رغباتي،كأني الرجل الوحيد الذي هزمته الحرب،أنا الذي كنت محط إعجاب كل النساء اللاتي عرفتهن،حتى علاقتي الحميمة مع زوجتي صارت مجرد تأدية واجب.تجاوزت (الحافة طولي)،حييت كل الذين تعودوا أن يحيوني في كل صباح،رفعت صوتي،لكنهم تجاهلوني،عادل الزريقي صاحب الفرن،والسيد عبده السامعي إمام المسجد وجميل الحبشي الحلاق،وياسر الصلوي بائع الفاصوليا،وقاسم الشرعي صاحب معصرة “الرحمة”، وأفتاب خان صاحب كشك “التمبل” وحميد الصبري صاحب مغسلة “الأمانة” ومصطفى الوهطي الذي يعترض طريقي كل صباح ليسمعني نكتة سياسية، فأجامله بضحك كاذب، حتى مسك الشحاتة لم تطلب مني عشرة ريالات مثل كل صباح.ماذا فعلت؟! وما هذا الذي يحدث؟!أقف حيث أقف كل صباح منتظراً باص المؤسسة، بجوار مكتبة “الهداية” لبيع الكتب وأشرطة الكاسيت الدينية في الشارع الرئيسي، وعلوي الكازمي هو الآخر تجاهلني، مكبر صوت مثبت بباب المكتبة، أسمع آيات قرانية يتلوها مقرئ صوته جميل، يتوقف عن التلاوة بعد كل آيتين أو ثلاث ويختنق صوته ببكاء مر، ورأسي لا يزال ثقيلاً نظرت في مرآة معلقة على باب محل لبيع الزجاج والبراويز، فرأيت عيني لا تزالان على احمرارهما سعيد القدسي صاحب محل بيع الزجاج والبراويز هو الآخر لا يشعر بوجودي ووقوفي أمام المرآة.باص المؤسسة قادم، اقتربت من الرصيف، سمير الكوري، سائق الباص، لا ينتظر من يتأخر ولو دقيقة، لكنه لم يوقف الباص لأركب وكأنه لم يرني.شعرت بالخوف يتجاهلونني، لا يرونني ولا يسمعون صوتي ولا يشعروني بوجودي، نتعت لحية شاب تتدلى إلى صدره، فتوقف وتلفت يمينا ويساراً وسمعته يتعوذ من الشيطان الرجيم، ثم أخرج من جيب قميصه عود مسواك غليظ، وحشره داخل فمه بعصبية واضحة، التقطت حجراً من الأرض وهشمت بها المرآة فاندفع سعيد القدسي وخرج من المحل، ليضرب مجنوناً نصف عارٍ، كان واقف أمام المحل ينظر بتركيز غريب إلى صورة ملونة كبيرة لحصان جميل في برواز ذهبي أنيق، معلق داخل المحل، “تخشت” صومالية “عجوز” لها مؤخرة ضخمة، فصاحت وأمسكت بخناق بائع صحف متجول وصفعته في وجهه، اعترضت طريق رجل يمشي على عجل، ثم انحرفت في اللحظة الأخيرة كي لا أصطدم به، فهل سأصطدم به؟ لا أدري، وقفت في طريق سيارة مهرولة، ثم ابتعدت عن طريقها في اللحظة الأخيرة، كي لا تصدمني فهل ستصدمني؟ لا أدري.أنا غير موجود، لست طيفاً ولا شبحاً ولا نسمة هواء، لست من الملائكة ولست من الجن، أنا الآن لست ضوءاً ولا ظلاماً، ولست حشرة أو فيروساً، أنا لم أمت، فلست في قبر، ولست في الجنة،ولست في جهنم،أنا أتنفس وأشعر بحرارة الشمس ويضايقني الغبار،أنا أسمع وأرى وأفكر،أنا أسمع دوي انفجار قنابل،وزئير طائرات حربية تحوم في سماء المدينة،طار بقية (الشراب) من رأسي،الناس يهرولون من الذعر في كل اتجاه فإلى أين أهرول؟وأين أختبئ،القنابل العمياء لن تستثنيني،والطائرات المجنونة سترصدني كما ترصد كل أهدافها،فأنا موجود ومعي (بيت) يجب أن أظمئن عليه،فلا تتمكن زوجتي- هي الأخرى- من أن تراني وتسمعني لكني سأكتب لها في ورقة:(أنا زوجك وأنت زوجتي منذ عشر سنوات،ولم ننجب الطفل الذي نتمناه،أمس احتفلنا! وهاهي الحرب الثانية قد بدأت،لكنها لن تقتلنا،كما لم تقتلنا الحرب الأولى،فدعينا نحتفل الآن مجدداً،وأنا واثق بأنك سوف (تحبلين) هذه المرة،وسيكون معانا الطفل الجميل الذي ننتظره منذ عشر سنوات.