نص
ينهمر المطر بغزارة، يغسلُ مساء المدينة المتعبة، فتلاقيه الأرض بتوق وولهٍ عارمٍ، بشوقٍ عزيز طال انتظاره، يباغتها في العتمة متلمساً بأصابعه الندية، جبينها المسكون بالحمى والجفاف، فتمد له يديها المحروقتين من لفح الهاجرة والعطش لائذة برذاذ غيماته.يأخذها بين ذراعيه وينغمسا في عناق لا يفتر، يمتص حرارة جسدها المضطرمة والمتأججة من حمى الصيف اللاهبة، فتستسلم لانهماره اللذيذ، الذي يبعث في عروقها الذابلة دماء الحياة والخصوبة. فيتضوع من لحظة التواصل الجامح بينها رائحة التراب الندي (رائحة المطر) التي تعبأ المدى الرحيب بالطيب، والشذى الأخاذ.تجلس خلف نافذتها، تراقب قطرات المطر المنسابة في العتمة تعبرها سهام البرق الخاطفة، فتطرق مسمعيها أصوات صخب وفرح الناس في الشارع، تفتح زجاج النافذة، لتشهد الزخم الطافح بالنشوة بعد نهار قائظ ورطب، فتبلل وجهها زخة منعشة من رذاذ المطر المتطاير فتنسرب إلى عظامها برودة راعشة، توفظ في خاطرها ذكريات بعيدة، ينعكس الفرح الآتي من الشارع على أطفالها فتشيع في المنزل، موجة من اليقظة والفرح العارم، كأنّما نفض المطر النوم عن عيونهم، فتراكضوا نحو النوافذ المفتوحة يرحبون بقدومه، ويرقصون مبتهجين من الرذاذ المشاكس الذي يبلل أيديهم ووجوههم، وحينما ينال التعب والإعياء من أجسادهم الصغيرة الواهنة يستسلمون للنوم والأحلام السعيدة.تسهر وحيدة منصتة لوقعه الناعم، تذود النعاس عن عينيها المتعبتين ولا تنام، وحينما تنزاح غلالة العتمة وينبثق نور الشمس تهرع لملاقاته على سطح دارها العالية، فتجده قد أنهى منادمته للشجر والحجر وعصافير الدروب المفتونة بالتلاقي والغناء، ومضى بعيداً نحو السماء يهيئ غيماته الجديدة ليهديها للأرض كلما اقتحمها الجفاف وعصف بها الشوق لملاقاته.فيذهلها مشهد الأرض، التي خرجت لتوها من حمام المطر ريانه نظرة، وبهاء المدينة التي غسل المطر شوارعها وأرصفتها.. وسطوح منازلها، ومسح ما علق بأشجارها الحزينة واليابسة من غبار الأيام القائظة (التي عرتها من الألوان والظل)، فأعاد لها المطر خضرتها وفتنتها الزاهية.وقبل أن تفوتها طراوة الهواء الصباحي النقي، الذي صفاه المطر بمصفاته البلورية طوال الليل تملئ رئتيها منه قدر ما استطاعت مستمتعة بطراوته المنعشة مندغمة بالسكينة والهدوء الشامل الذي يبعث على التأمل (والاغتسال الروحي) ويوحي بالشعر فتجد نفسها تردد أبيات موحية من قصيدة لمحمود درويش :مطر في خريف بعيدوالعصافير زرقاء زرقاءوالأرض عيدولا تكمل الإنشاد فبقية الأبيات لا تناسب جمال تلك اللحظة المبهجة، تلتزم الصمت، محدقة بالسماء التي اصطبغت باللون اللازوردي الفاتن، وبأشجار الدفلى والحنون التي تعانق الريح، وتسبح في فيض من الألق الساحر، من خلف أسيجة المنازل المجاورة.فبدت المدينة في أحضان الصباح الباكر ومن خلفها سلسلة الجبال الرمادية عند الأفق لوحة باهرة استرجعت ألوانها ورونقها بفرشاة المطر السحرية كأنما حررها المطر من حصار الكآبة والغبار فتألق كل ما فيها من موجودات بالسحر والبهاء والنضارة.