حاورته/ نادرة عبدالقدوس - تصوير / عبدالواحد سيفمَن هو ؟ كان واحداً من الشباب السوداني المثقف الذي فتنته عدن منذ وطأت أقدامه ترابها ، فاستطاب العيش في ربوعها واندمج بأهلها .. امتزج عرقه بعرقهم .. شاركهم بناء الإنسان والوطن .. لم يتبرّم ولم يكل .. ولم يفكر يوماً بتركهم .. أو ترك مدينتهم التي لفحته شمسها الحمئة .. أوجعته الكثير مما أوجعها .. أما أبناؤها فقد كانوا وما زالوا هم أهل التسامح والحب والقناعة ، فأحبهم وقرر العيش اللانهائي بينهم . هو الأستاذ الدكتور مبارك حسن الخليفة أو « عاشق عدن « ، كما لقبه أبناؤه / طلابه / في سنوات قدومه الأولى مدرساً في كلية التربية بعدن قسم اللغة العربية . حدثنا الكثير عن تجربة عيشه بعيداً عن وطنه الأم ، في دردشة تأملية لم تتعدّ الساعة في بيته الرحب الجميل الكائن في مدينة خور مكسر الساحلية الهادئة تعرفتُ خلالها على شريكة حياته أم ماجد .. التي تشاركه أيضاً عشقها لعدن والعدنيين وكما قالت لي بلكنتها السودانية « والله ناس عدن طيبين ما شفنا منهم غير كل خير « . [c1]سِحرُ عدن بعد الخُرطوم :[/c] في بدء الحوار الهادئ سرد لي عاشق عدن سبب قدومه إلى مدينة عدن ، بمقدّمة مختزلَة ، وكيف طاب له العيش فيها ، رغم الظروف الصعبة التي عاشتها هذه المدينة السخية بعطائها .. الصامدة.. المتحدية صروف الزمن : « بعد تخرجي من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1958م عملت مدرساً في مدارس الثانوية في السودان .. بعد أن استكملت الماجستير التحقت في معهد المعلمين العالي عام 1974 م ، ولكن بسبب الظروف السياسية في السودان هاجرت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وعملت هناك مدرساً في ثانوية دبي لمدة ثلاث سنوات . وفي نهاية أغسطس من عام 1976 م أرسل لي صديقي محمد الأمين ودوده رسالة من عدن ، حيث كان يعمل مدرساً في دار المعلمين وحالياً يعمل مدرساً في كلية التربية في جامعة الحديدة ، يخبرني بأن كلية التربية في عدن بحاجة إلى مدرس ومحاضر في الأدب والنقد العربي ، ولم أصدق .. وبكل شغف قدمت إلى عدن وتم التوقيع في جامعتها على عقد العمل في الأول من سبتمبر عام 1977 م» . ومنذ ذلك التاريخ كانت عدن ولم تزل المدينة الثانية بعد الخرطوم التي هام بها الخليفة عشقاً .. يقول لنا : « وجدت في عدن ما يدفعني إلى البقاء فيها .. ووجدت الناس فيها كما يقول الإنجليز (ريليفينج) « reliving “ ، فهم أناس مثقفون وحضاريون والتعامل معهم رقيق جداً .. أقول لك بأنني خلال ثلاثين عاماً لم يحدث أن اختلفت مع أحد لا في الجامعة ولا في الكلية ولا في الحي السكني ... “ قاطعته : “ ربما لأنك طيب بطبعك ..” ارتسمت ابتسامة عريضة على محياه مؤكداً : “ الناس بعدن يجبرون الآخرين على احترامهم وعلى البقاء معهم ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أنا لم أكن معزولاً عن المجتمع ، وإنما انفتحت على الحياة الاجتماعية .. بمعنى إنني كونت علاقات مع الناس من خلال المنتديات الثقافية ومن خلال النشاطات الاجتماعية كالزيارات ومشاركتهم في المناسبات المختلفة والمجاملات في الأفراح .. وهذا الذي جعلني ابني علاقاتي ووجودي بناءاً عن معرفة للمجتمع اليمني الذي التحمت به .. كما أن علاقتي الجيدة بإدارة الجامعة وطلابي وطالباتي وزملائي المحاضرين كانت دافعاً للبقاء في عدن طوال هذه المدة الطويلة ...” ثم أضاف مستطرداً : “ أقول لك شيئاً ، أولادي تنفسوا جواً نقياً في عدن .. جواً ثقافياً علمياً نقياً .. وحتى الآن تخرج أربعة منهم من جامعة عدن .. اثنان من كلية الطب وآخر من كلية الحقوق ، وهو الذي حضرت زواجه مؤخراً في السودان .. وآخر درس في كلية الاقتصاد حتى المستوى الثاني ولكن بسبب ميوله الفنية سافر إلى السودان ليلتحق في معهد الموسيقى العالي .. ثم تخصص في علم الاجتماع..أما الابن الأخير وهو الخامس فقد تخرج مؤخراً من أحد المعاهد الخاصة المتخصصة بالحاسوب في مدينة عدن .. حتى زوجتي لها علاقات جيدة مع الجيران وبعدد من الأسر العدنية .. ومن الطريف أن علاقتي بطلابي لم تنقطع فأنا ما زلت أحتفظ بصداقة وطيدة بالبعض الذي درسته منذ السنوات الأولى من مجيئي إلى هذه المدينة حتى اليوم واعتز بهذه الصداقة .. وقد لُقبت في كلية التربية بـ “ عاشق عدن “ ( يضحك ) .[c1]المشهد الثقافي في عدن بين الأمس واليوم : [/c] كنتُ طلبتُ من الدكتور مبارك أن يعود بالقارئ إلى بعض ملامح المشهد الثقافي في الثلاثة العقود الماضية في مدينة عدن .. فلبى قائلاً : « كنت أتابع إبداعات الشباب بصورة جيدة .. وقبل أن أخوض في هذا الموضوع أحكي لكِ واحدة من المواقف الطريفة التي حدثت في نهاية السبعينيات ، حين كانت عدن تستقبل عدداً كبيراً من الأدباء والعرب كأودونيس ، ومحمود درويش ، والجواهري ، وحمود أمين العالم ، والطيب التيزيني وغيرهم ، الذين خلقوا جواً ثقافياً علمياً ممتازاً ، وكان الشباب الموهوبون مندفعين في إبداعاتهم ، ففي أحد الأيام ضمتنا جلسة ودية في بيت الأديب المثقف سالم بكير ـ رحمة الله عليه ـ بعدن ، حضرها الشاعر العربي الكبير أودونيس كما حضرها عدد من الشباب الواعد والمثقف ، وأنا بصراحتي المعهودة قلت لأودونيس أن هؤلاء الشباب يقلدون نظمك للشعر وإذا ما استمروا في هذا التقليد فإنهم لن يكونوا أودونيس ولن يجدوا أنفسهم ، ولابد من التخلص من ذلك .. ولم يغضب أحد وقبل الشباب ما قلته، وبالفعل تخلص هؤلاء الشباب من تقليدهم لشعر أودونيس وكتبوا وأبدعوا في شعرهم ، أذكر منهم الشعراء شوقي شفيق ، وعبد الرحمن إبراهيم ، ومجموعة أخرى من الشعراء المبدعين .. لقد شكل هؤلاء الشباب ثورة ثقافية إلى جانب وجود الصحف والمجلات التي كانت تهتم بالجانب الإبداعي والثقافي رغم قلتها . * إنها مفارقات عجيبة أن توجد اهتمامات ثقافية للشباب في تلك الفترة في ظل شحة وسائل الإعلام والاتصال ؟ - نعم .. المنتديات والصحف كانت قليلة .. وعلى قلتها كانت تقدم شيئاً جميلاً ، إضافة إلى أن الكتاب كان مدعوماً .. وهذه مسألة مهمة جداً ، لذلك كان القارئ يقتني الكتاب ، وهذا ساعد على نمو الوعي الثقافي .. وللأسف أقول إننا افتقدنا اليوم النشاط الثقافي الإبداعي في كلية التربية ، الذي كان يسهم في رفد المجتمع بالمثقفين المبدعين من الشباب ، فقد كانت هناك أسرة ثقافية في الكلية ، وكنت مشرفاً عليها .. وأنا أتحمل جزءاً من المسئولية وقسم اللغة العربية والطلاب أنفسهم في عدم وجودها اليوم .. إذ يبدو أن الطلاب في الكلية انصرفوا إلى الدراسة وتلقي العلم فقط فلم يهتموا بالثقافة أو التثقف .. وقد حاولت كثيراً استعادة روح الأسرة الأدبية في الكلية لكن دون جدوى .. * يخيل إليّ أن شباب الأمس كان مقبلاً على التثقف والإبداع الفكري والقراءة والإطلاع ، وكان شغوفاً على الفعل الثقافي وإعمال العقل عكس ما نراه اليوم بين أوساط الشباب والطلاب .. هل تشاطرني الرأي ؟ - في فترة معينة كان هناك وجود لشعراء مبدعين كالمرحوم محمد حسين هيثم ، محسن بن شملان ، جنيد محمد الجنيد ، عمر محمد عمر .. وبعضهم لم يدرسوا اللغة العربية كتخصص في كلية التربية ، فقد تخصص المرحوم هيثم في الفلسفة وبن شملان في اللغة الإنجليزية وكذلك جنيد ، ولكنهم شكلوا مجموعة رائعة من المبدعين الشباب في الشعر .. ولم أكن الوحيد المهتم بالجانب الثقافي وإنما كانا هناك د . جيلي عبد الرحمن ـ الله يرحمه ـ وقد احتضن عدداً منهم كهيثم الذي لعب دوراً كبيراً في الإبداع الشعري في اليمن ، رحمة الله عليه . أقول لك أن الإبداع نفسه غير موجود .. وأذكر على سبيل المثال ما حدث في العام الماضي ، عندما نظم اتحاد الطلاب أمسية شعرية في جامعة عدن ، وأحضروا لي قصائد لشعراء شباب لمراجعتها.. ولكني مع الأسف لم أجد فيها شعراً ! وقلت لهم بالحرف الواحد إنها لا تصلح للإلقاء .. إلا أن هناك عدد بسيط من الطلاب الذين أظهروا إبداعاً أدبياً ، وقدمتهم بنفسي للصحافة تشجيعاً لهم، مثل سارة الضراسي وسحر السكران وغيرهما .. وعودة إلى سؤالك فإن سبب ارتداد الشباب عن الفعل الثقافي ، في زماننا هذا ، يكمن في الوضع الاجتماعي والمعيشي الصعب الذي يعانيه الناس ، وانصراف الشباب إلى البحث عن لقمة العيش قبل البحث عن الكتاب والإبداع .. اليوم الطالب لا يتحصل على الإعانة الطلابية من الجامعة ، وهي عبارة عن حافز كان يمنح له شهرياً يعينه في حياته الدراسية ، ويساعده على الاعتماد على ذاته في شراء مستلزمات الدراسة من كتب ومراجع وطباعة البحوث وغير ذلك .. لكن اليوم الطالب يعتمد على أسرته ، بل ويدفع رسوم الدراسة في الجامعة ، فكيف سيتمكن من شراء الكتب للقراءة والاطلاع ؟! زد إلى ذلك فإن الهم يكبر لدى الطالب القادم من محافظات الجمهورية المختلفة للدراسة في عدن ، الذي يبحث عن مأوى له قبل الكتاب .. * ألست معي في أن المستوى التعليمي في الجامعة أيضاً أصابه التغيير ؟ فمعلمو اليوم ليسوا كمعلمي الأمس ، إذ أن معظمهم تقريباً يلقنوا الطلاب ولا يتركوا أي أثر تعليمي وتربوي في نفوس الطلاب ، كما إنهم لا يهتمون بالجانب الترويحي والترفيهي والإبداعي للطلاب ؟ - ليس معظمهم بل عدد قليل منهم ( يضحك ) .. نعم ، كلامك صحيح .. لذا فإنني أؤكد لطلابي دائماً بألا يكتفوا بما يقدم لهم في قاعات الدرس والمحاضرات ، وأن يسعوا دائماً إلى القراءة والاطلاع خارج ردهات الكلية .. وأؤكد لهم بأن قلبي مفتوح لهم وكذلك عقلي وبيتي ومكتبي في قسم اللغة العربية في الكلية وتليفوني في أي وقت .. والساحة والمكتبة مفتوحتان لهم ، وهذا هو نهجي من زمان . * ولكن ما هو دور الدولة ومؤسسات المجتمع المدني لحل هذه المعضلة ؟ - الدولة تتحمل دوراً كبيراً في إشراك الشباب ونهضته ودورها فاعل بالتأكيد .. والرئيس علي عبد الله صالح أثبت اهتمامه بالشباب المبدع من خلال تخصيصه جوائز سنوية للفائزين في مجال الإبداع الأدبي والفكري وفي الفن التشكيلي . كما إن لمؤسسات المجتمع المدني دور فاعل في هذا الشأن ، فمؤسسة العفيف الثقافية في صنعاء ، ومؤسسة السعيد الثقافية في تعز، تلعبان دوراً رائداً في نشر الوعي وفي استنهاض هِمَم المبدعين اليمنيين . * هناك أيضاً غياب دور النشر ، التي تسهم في انتشار الكتاب ، وفي خلق حالة من الإحباط عند الكتّاب .. كيف ترى ذلك ؟ - نحن في جامعة عدن لا نعاني من هذه المشكلة ، إذ توجد لدى الجامعة مطبعة ، ومركز للدراسات والبحوث يقوم بمهمة اختيار النصوص التي تستحق الطباعة والنشر والتوزيع . ولكن بالفعل الكتّاب يعانون من عدم الانتشار .. وإذا وُجدت فإن طباعة الكتاب يكلف كثيراً . وأأمل أن ينشط إتحاد الأدباء والكتّاب اليمني في هذا الجانب ، وكذلك وزارة الثقافة ، حيث نشطت في عام 2004 م فقط في موسم الإحتفائية بصنعاء عاصمة للثقافة العربية . وأؤكد على ضرورة وجود المكتبة المدرسية ، التي تلعب دوراً كبيراً تثقيف الطالب . وقد وجدتً إن بعض المدارس تتوفر لديها المكتبات ، لكنها بحاجة إلى التطوير والرعاية والاهتمام . كما إننا في الجامعة بحاجة إلى تطوير مكتبتها ،ورفد مكتبات الكليات في الجامعة بالكتب والمرجعيات الحديثة .. ولا أستثني في هذا المضمار المكتبة الوطنية في كريتر ، فهي الأخرى بحاجة ماسة إلى الرعاية والاهتمام والتحديث . * هل من كلمة تود أن توجهها في نهاية حوارنا ؟ - كنت من بداية الحوار الشيّق معكِ أود أن أشكر قيادة صحيفتكم الغراء (14 أكتوبر) التي فتحتْ صفحاتها لي منذ قدومي إلى أرضكم الطيبة ـ عدنـ على إصدارها ، مؤخراً ، ملحقاً ثقافياً ، وقد كنا ننتظره بفارغ الصبر .. لأنه مهم جداً جداً .. وأتمنى من زملائي الباحثين والمبدعين أن يساهموا بالكتابة فيه شعراً ونثراً ، وأنا أعد الملحق الثقافي ( روافد ) للمساهمة بما أمكن ، فأنا أحتضن ، دائماً ، أي مولود ثقافي جديد .
|
ثقافة
عاشق عدن .. وبحر حبها اللازوردي
أخبار متعلقة