إبراهيم نويري ـ الجزائر هناك ظواهر كثيرة متنوعة في عالم الفكر والأفكار ، يتوقف بإزائها القارئ والمفكر والباحث، بيد أن حسمها أو بناء موقف واضح أو واعي تجاهها ، يظلّ إما مؤجلاً أو مضبباً أو متسرعاً .. ومثال على ذلك مسألة ( المصطلحات ) التي تعد احدى أهم وأخطر أدوات التأسيس والتأصيل والضبط المعرفي والثقافي والمنهجي ، داخل أي نسق فكري ، أو مذهبية حضارية ، لاسيما في مرحلة البحث عن الخصوصية في منعطف التدافع بين النماذج والأنساق . ولعل من جملة المصطلحات التي بات لها حضور مميز وملفت في أدبيات الخطاب المعرفي العربي المعاصر ، مصطلح « الحداثة «.. والذي يجيء أيضا، أو يأتي (عند البعض) مرادفاً لمعنى التنوير أو المعاصرة أو التجديد ، أو ما يتماهى أو يقترب من هذه المدلولات والمعاني ... إن الاتجاهات الفكرية في العالم العربي و الإسلامي البعيدة عن أهم مكوّنات الذات الحضارية للأمة ، و بسبب الفراغ أو الغربة عن - الذات والجذور و الأصول- فإنها تقع غالبا في خطأ منهجي قاتل ، قد تتعدّد مظاهرُه واستعمالاته ، كما تتعدد كذلك صور أثاره في السلوك .. و لكنه مع ذلك واحد فحسب عند التأمل. هذا الخطأ هو ما يمكن أن نطلق عليه: «الاقتطاع التاريخي».. فمعظم هؤلاء، و بحكم مرجعيته الفكرية والثقافية، يلجأ إلى مساءلة التاريخ الغربي ، فيجزئ بعض أحداثه ، أو يقتطع منه مصطلحات و شواهد ومواقف ، ليتم توصيفها فيما بعد، أو جعلها واجهات للصراع الفكري .. ومع الأيام تتحول تلك المصطلحات و الرموز والأحداث إلى تحديات تشهر في وجه منابعنا الثقافية ، و أنساقنا الفكرية و السلوكية و الحضارية؛ وكأنها معيار ثابت للحكم على تجارب الآخرين ، و قياس مدى جدوى منجزات الأنساق الفكرية، على الصعيدين القيمي والعمل. هذا الأمر أو التعامل حدث فعلا مع مصطلح «الحداثة « ... فقد كانت الكنيسة في أوروبا، قبل الثورة الفرنسية ، تكبل العقل، و تتحكم في ضمائر الناس و اختياراتهم ، و أذواقهم ، بل و تمضي صكوك الغفران أحياناً ، و تحكم بالإعدام على كل مَنْ يعارض أو يسخّف مواقفها ورؤاها واجتهاداتها ، أو يبدي في العلن بآراء وأفهام واجتهادات تناقض «المعتقدات المقدسة «الموهومة.. وقد أعدمت الكنيسة بهذه المعتقدات الكثير من العلماء والمفكرين والمكتشفين والفلكيين وأحرار الفكر والعلم والضمير.. الأمر الذي أدى بالعقل الغربي إلى التمرد والانتفاضة والوقوف في وجه «الجحيم «الذي نصبته الكنيسة أمامه، مانعةً بذلك أيَّ تطور أو إبداع أو اجتهاد أو فهم يخالف معتقداتها و تصوراتها الجامدة المتحجرة، بل المصادمة تماماً للمعقول وتجارب العلم والمنطق .و هكذا برزت « الحداثة « كإفراز موضوعي طبيعي لاغبار عليه يجسد انتصار العقل الغربي على الوهم و الخرافة و احتكار الرأي و النظر والاجتهاد.. لتتحول مع الوقت ومعية المنجزات العلمية التي تحققت في الواقع الماثل إلى «منهج حياة « و إلى « نسق ثقافي « له مبرراته التاريخية وخصوصياته الفكرية والعقلية وارتباطاته الذاتية والموضوعية .. أما عندنا نحن فإن بعض الاتجاهات الفكرية ، اعتقدت في منعطف الارتطام بالفكر الغربي، والوقوع تحت طائلة التأثر والخضوع والركون، أنه لا مدخل لنا الى العصر، ولا سبيل لنا لتحقيق التنمية والنهوض والتغيير إلا بانتهاج الطريق الذي سلكه العقل الغربي، وتحقيق الانجاز ذاته على كافة المستويات.. وبدأت هذه الاتجاهات تروّج لمصطلح الحداثة، و كانت البداية بالأدب شعرا و قصة و نقدا وتنظيراً، لينتقل الحديث بعد ذلك، عن ضرورة وحتمية تحديث المجتمع و التعليم والمناهج و السلوك والعلاقات العامة.. لكننا عندما نتأمل في رغائب أصحاب هذا الاتجاه و تطلعاتهم وصياغاتهم الفكرية المعلنة، نجد أن مفهوم الحداثة الذي يؤمنون به، ويتبنونه تنظيرا وعملا في مختلف المجالات، هو سلخ الأمة عن هُوّيتها، وتهوين صلتها بمنابع عقيدتها وثقافتها ومرجعيتها التاريخية والحضارية، وإحلال النموذج الغربي في الحياة و السلوك والتربية و القيم والمناهج ... وكأنّ السياق التاريخي والاجتماعي الذي ظهرت فيه مفاهيم الحداثة و التنوير ، هو تاريخ أمتنا و ليس تاريخ أوروبا و تاريخ الكنيسة، أو بمعنى أكثر وضوحا : كأن الإسلام يقف في وجه الإبداع والاجتهاد الحر ، أو يتنكر لانطلاقات العقل و كشوفاته و منجزاته .. إن الاتجاهات التغريبية في العالم الإسلامي، التي تدعي الحداثة ، هي في الحقيقة ـ عند التأمل ـ إنما تعيش عصر ما قبل الحداثة في أوروبا ، بل إنها تحمل بعض أفكار الكنيسة الغربية ذاتها قبل الثورة الفرنسية ، إذ ما فتئت هذه الاتجاهات تنكر الحوار وسماع الرأي الآخر ، و تقف في وجه الأغلبية ، وتحبك المؤامرات، وتزعزع الاستقرار الاجتماعي ، وتشرف على تزييف الانتخابات وآليات اختيار الكفاءات ، و تقف ضد ثوابت الأمة و عوامل و جودها وقوتها وتكاملها وتضامنها .. وهي في ذلك لا تستند إلى أي مبررات منطقية وعلمية نابعة من الذات الحضارية لأمتنا، تقتضي تجديد التفكير ، أو تطوير أساليب العيش و التعامل بما يتماهى أو يتماشى و الفهم المقاصدي للإسلام و أطر الاجتهاد القائمة في هذا المنهج ، و إنما تلجأ إلى عملية « الاقتطاع التاريخي «..أو «استدخال الأحداث « غير النابعة من سياقاتنا التاريخية، أو واقعنا الخاص الذي يكون في الأصل منبثقاً عن كيفية تنزيل النصوص على الأحداث والواقع بواسطة تفاعل العقل المسلم و طرائق ارتباطه بتلك العناصر والمكوّنات . أمام هذا التحدي الذي يطال جانبا هاما من الواقع الإسلامي، فإنه يتوجب على دعاة «المرجعية الإسلامية «في الفكر والاجتهاد وضع قواعد و منطلقات جديدة تمكنهم من التعامل الجدي و البناء ، مع كل ما يثار من مسائل بمنأى عن أساليب ردود الفعل التي استبان عبر عدة عقود فشلها في تأسيس النهضة المنشودة. أما دعاة علمنة المجتمع الإسلامي ، فعليهم أن يقتنعوا بأنه ليس من حقهم إملاء أو فرض المناهج و الرؤى والأساليب التي يرونها كفيلة بتحديث مجتمعاتنا، وفق منظورهم المقتطع بطبيعة الحال من سياقات واقع و ظروف الآخر الثقافي و النفسي والحضاري. فمن المقطوع به أن المنهج الإسلامي ليس عاجزا عن مسايرة العصور ، و إيجاد الحلول المناسبة لكل المشكلات والمستجدات، فهو منهج له أدواته الخاصة في التجديد والاجتهاد والتكييف، وتأطير النظر و الانجاز وفق المقاصد والمآلات المرجعية المحكومة بالخصائص الذاتية للإسلام و أهداف شريعته . إن هذا الأمر يُعد من بدهيات المنهج الإسلامي، إذا نحن أردنا الإنصاف و إقراق الحقائق : فدعاة غلق باب الاجتهاد، عبر فترات متفرقة من تاريخنا، لم يجدوا الصدى المطلوب لدعواهم، و ما ذلك إلاّ لكون الإسلام إنما يعترف بالجدلية القائمة بين «الكائن» و«التغيير»، ويمكن تلمس هذه البديهية دون عسر في طرق و مناهج التجديد والاجتهاد في المنهج الإسلامي . غير أن المسألة المركزية التي ترد بهذا الخصوص ربما تمثلت في طرح هذا التساؤل : هل من حقنا تحديد الباب الذي ندخل منه إلى الحداثة في ظل صراع الأنساق الفكرية والمعايير الحضارية المعاصرة؟.. إن مشكلاتنا نحن المسلمين ليست مع الحداثة أو مع مستجدات العصر ، فليس ذلك مما يمكن أن يعترض - إلى حد الإقصاء- أمة متجذرة في تاريخ الإنسانية ، بما تحمله من تراث ورصيد فذ من المواقف و الانجازات و الأمجاد.. إن مشكلاتنا الأولى هي أننا لازلنا نعاني عجزاً ملحوظاً في فهم واقعنا و إدراك السنن التي تحكم الأنفس والآفاق، أي نشكو ضعفاً وضآلة في التفاعل المطلوب مع موارثينا التشريعية والفكرية، ناهيك عن عدم الاستفادة من المكتسبات الإنسانية. وإذا كان من حقنا أن نختار المدخل الذي يناسبنا إلى الحداثة، الذي يتناغم وخصوصياتنا الحضارية و هويتنا الثقافية ، فإن ذلك الاختيار يكون بلا معنى، إذا نحن لم نحدد بدقة أرضية انطلاقتنا ، و أغفلنا الاستعمال الموضوعي لأدوات ومناهج الاستيعاب والتوظيف الصحيح.. أما مواصلة السير على غير بصيرة، فهو جهد ضائع، أو تلفيق لن يكتب له النجاح في تحقيق الإستنهاض البصير الراشد، حتى لو توافرت بعض شروطه ولوازمه.. فنحن أمة لها كتابها و منهاجها الإنساني، وقسماتها الحضارية الفريدة، وذلك رصيد مذخور لا يقدر بأي ثمن في الوجود، يؤهلنا يقينا - لو أبصرنا الحقيقة - لبناء عالمنا ووجودنا الخاص، و تأسيس مستقبلنا الحضاري الأقوم.أما إذا استمرت حالة الرضا الثاوية في أعماقنا ، و حالة الزهو الخادع تخامر نفوسنا وتوحي لنا بمشاعر وموحيات الغبطة بواقعنا، و أوضاعنا فلن نصل - على ما أعتقد - الى نتيجة أو ثمرة يمكن أن نقنع بها ناشئتنا وأجيالنا القادمة ..» إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم « (الرعد11) صدق الله العظيم.. فالله نسأل أن يبصرنا بحقيقتنا، ويفقهنا بواقعنا، و أن يهدينا سبل الرشاد و الانعطاف الصادق و الفاعل نحو نهجه الحق.. ولا غالب إلا الله .