رغم ماينطوي عليه قياس الفقر ، وفقاً للدخل او الانفاق او هما معاً، من موضوعية لا تخلو من شكلية ومظهرية، ورغم ماتحمله نتائجه من فرص تعين على فرز الفقراء وعقد مقارنات بينهم وبين غيرهم . الا انه يواجه بمجموعة من الانتقادات التي تقلل من قيمته العملية وفوائده في التخطيط التنموي . كما أنه باعتماده على مسوح الوحدات المعيشية لا يدرك التباين داخل الاسرة على اساس النوع، كما أن امكانات توظيف تلك النتائج في المقارنات الزمانية ، مرهون باستخدام نفس المفاهيم والاساليب البحثية والمتغيرات ذات العلاقة في المسوح السابقة واللاحقة ، وهو ايضاً لا يعين في تقديم تفسير للفقر او توضيح آليات الافقار ولا يعين على فهم مؤشرات ومظاهر ومحددات أخرى للفقر ذات أهمية في فهم كثير من الظواهر والعمليات ذات العلاقة ، ومنها مايتعلق كمثال محدد. بفهم العلاقة بين الصحة الانجابية والفقر (صندوق الأمم المتحدة للسكان ، حالة سكان العالم 2002 : 18) وثمة ابعاد واقعية اقتصادية وثقافية واجتماعية أخرى تحول دون قياس الفقر وفقاً لبعد الدخل، منها مثالاً لا حصراً أن بعض السكان يصعب عليه تحديد دخله، كالمشتغلين بالزراعة والحرفيين ومن هم على شاكلتهم من حيث طبيعة العمل ومصادر الدخل ، ويدلل على هذا أن كثرة من المبحوثين في مسوح الدخل يأتي انفاقهم أعلى من دخلهم ، كما يسود بعض قيم تتعلق بفهم الناس " للرزق" لا تخلو من خوف من " الحسد " أو " من الآخر" الرسمي الذي قد يقدم أو لا يقدم خدمة أو حتى يفرض ضريبة (عبد الباسط عبدالمحلي وآخرون 2000) وإذا ما سلمنا بأهمية فقر الدخل ، فإن الأهم من المنظور التخطيطي للمشاريع والبرامج التنموية التي تتطلع إلى تحقيق اهداف التنمية البشرية وتواصلها متجددة ، وفي القلب منها " حقوق الانسان " هو فقر القدرات Poverty Capability والحرمان البشري والاستبعاد الاجتماعي والطبقي . إن مفهوم فقر القدرات يقدم مقاربة تسهم على نحو اكثر وضوحا وشمولاً في فهم الفقر، كما فعل دليل البرنامج الانمائي للأمم المتحدة والذي جمع بين المعلومات عن الحرمان وطول العمر ( السكان الذين لا يتوقع أن يعيشوا حتى 42 عاماً) والمعرفة ( النسبة المئوية للأميين ) ومستويات المعيشة (الناس الذين لا يحصلون على مياه مأمونة والذين لا يحصلون على الخدمات الصحية والأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من نقص الوزن )( صندوق الامم المتحدة : حالة سكان العالم 2002 : 17) ولهذا وتطلعاً إلى مزيد من الفهم الاعمق لآليات الافقار وعملياته واعماقه البنيوية ، تلفت هذه المقاربة النظر إلى ابعاد ومستويات أخرى هامة في انتاج واعادة الفقر، في مقدمتها تحليلياً ومن منظور المواجهة الحقيقية أو قل الردايكالية للفقر، ما يسمى بالمجتمع الفقير الذي ينتج فقر الناس وينتج آليات اعادة انتاج فقرهم موسعاً ومتزايداً ، ويقصد به المجتمع الأكثر عرضة للهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وهو بالطبع مجتمع لا يعي الأهم من شروط وظروف استدامة التنمية ، حيث تسوده الأبوية العمودية في إدارة شؤون المجتمع والدولة على مستوى المؤسسات والمنظمات بما في ذلك الأسرة والمؤسسة التعليمية ، فيحاصر التعددية والتنوع والرأي الآخر ، ويغترب عن المساءلة والشفافية والنقد ويكرس الديكتاتورية السياسة والبيروقراطية ، ويشيع الفساد ، وتهدر الامكانات ويزكى صراع الاجيال.وهو المجتمع الذي ينحسر فيه التفكير العلمي فيسود التواكل والخرافة وهو المجتمع الذي لا ينتج المعرفة وبالتالي لا يجد منها ما يوظفه في حياته اليومية، وهو المجتمع الذي تسوده قيم إحلال الماضي محل الحاضر ، وصياغة المستقبل في ضوء هذا الماضي ، وهو المجتمع الذي لا يصون راسماله البشري من حيث حقوقه واعداده وتوسيع فرص خياراته وفق مبدأ الكفاية والعدالة . بإيجاز شديد المجتمع الفقير هو الذي يفتقد الوعي والارادة والشروط المواتية لتنمية قدراته المعرفية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعلمية، وكل فقر في أي من هذه القدرات يفضي إلى فقر المجتمع أفراداً وجماعات وقوى اجتماعية وسياسية ومعرفية ومن هذا المنطلق تأتي العلاقة بين الصحة الانجابية والفقر والحرمان من الحقوق الانجابية اذ يعد الحرمان من مدخلات الصحة الانجابية واد أهم اسباب الفقر الفردي والجماعي ، ويفهم هذا الفقر من خلال مؤشرات فرص تلك الصحة كالحقوق والمعرفة ، والخدمات ومن خلال المؤشرات الصحية الاساسية للناس ، كالعمر المتوقع عند الميلاد أو الأمل في الحياة ، ووفيات الاطفال والامهات وانتشار الأمراض خاصة فيروس نقص المناعة . ومن المؤشرات الدالة على احد ابعاد فقر المجتمع ، عدم كفاية وكفاءة مدخلات الصحة الانجابية وعدم تمكين اصحاب الحق منها أيا كان عمرهم أو نوعهم أو طبقتهم الاجتماعية أو اماكن معيشتهم ، ريفية او حضرية وقد بذلت جهود وفيرة نسبياً من قبل المؤسسات الدولية والاقليمية ، كما بينت تقاريرها وبحوثها ، وايضاً المسوح والبحوث الوطنية للتدليل على أن الفقر - بمعناه الاشمل - يؤثر سلباً في السلوك الديموجرافي والصحي للناس ، وفي خصائصهم السكانية الاخرى( ادويدش محمد 2001: 7 - 15) المعرفية والمهارية وفي تفاعلاتهم الاجتماعية وانتاجيتهم .. الخ .. غير أن الجهد الأقل هو الذي بذل لتوضيح كيف أن انحسار فرص الارتقاء بالصحة الانجابية ، من العوامل الفاعلة في الفقر ، وبالتالي يكون كل جهد علمي وتخطيطي للارتقاء بالصحة الانجابية هو تعامل جدي مع أحد منابع الفقر ، ومواجهته في نفس الوقت.وقبل أن نسير مع العمل الراهن بهذا التأكيد على أن حال الصحة الانجابية ليس السبب الوحيد، أو المقاربة الوحيدة لتفسير الفقر ، وبالتالي مواجهته ، فقضية الفقر في السياق الاقليمي العربي ، عميقة في جذورها التاريخية متشابكة وبالاساس مع انماط توزيع الثروة والسلطة، وثمة آليات استمرت واطردت من الاستعمار التقليدي الى التبعية ثم الى الهيمنة ، تواصل دورها. متفاعلة مع أخرى - في اعادة انتاج الفقر العربي ، مجتمعات وافراداً وجماعات ، ولهذا أكد اعلان الالفية الثالثة للتنمية الدولية، إن من بين أهم اهدافه التي تسهم بدور هام في مواجهة الفقر ما يتعلق باهداف ومفردات الصحة الانجابية ( المنتدى العربي للسكان بيروت).
الصحة الانجابية ... والفقر
أخبار متعلقة