نجحت الإرادة السياسية اليمنية - السعودية في التقاط واستغلال اللحظة التاريخية التي خلقتها معاهدة الحدود الدولية، وتحويل تلك اللحظة إلى قاعدة جديدة لعلاقات أخوية متميزة راسخة ووطيدة، وفرصة مواتية تتجاوز أهدافها مهمة إيجاد الحل الدائم لقضية الحدود البرية والبحرية بين الجمهورية اليمنية والمملكة العربية السعودية، لجعلها منطلقاً للبحث عن حلول واقعية للكثير من الإشكالات في المنطقة بشكل عام، والواقع اليمني بشكل خاص، ضمن إطار هذه العلاقة الثنائية المبنية على التعاون والشراكة والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. اليوم ونحن نطوي عقداً من الزمن منذ التوقيع على المعاهدة لا يمكننا إدراك أهميتها على الصعيد الوطني، وقيمتها التاريخية بالنسبة للشعبين اليمني والسعودي.. وكذلك الإلمام الكامل بنوعية وحجم الآثار والنتائج الإيجابية التي أفرزتها على الصعيدين الإقليمي والعربي، إلا من خلال دراستنا المعمقة لصيرورة العلاقات اليمنية - السعودية والتحولات النوعية الكبيرة التي مرت بها خلال العقد المنصرم، والمتجسدة في جملة من المشاهد والحقائق التي يتم من خلالها فهم نوعية وتفرد هذه العلاقة وآفاقها المستقبلية على المديين المنظور والبعيد وأهمها اضمحلال وأفول الإيديولوجيا والشعارات والاعتبارات السياسية - التي ظلت إلى قبل عشرة أعوام تشكل الإطار العام لهذه العلاقة وتتحكم فيها وتضبط إيقاعاتها ومساراتها ونتائجها إلى حد كبير- ومثلت أحد مظاهر تجليات الإشكالات الحدودية والموروث التاريخي للصراعات والأزمات السياسية والاستقطابات الخارجية، واستمر فعلها السلبي لأكثر من (66 عاماً). بعد التوقيع على المعاهدة أضحت العلاقة محكومة باعتبارات سياسية واقعية وبمصالح وطنية وقومية إستراتيجية، الأمر الذي أضفى عليها الكثير من الديناميكية وحيوية التجدد والإبداع والقدرة على التطور المتواصل لتواكب وتستوعب المتغيرات المتسارعة، والتعاطي معها وفق رؤية ومواقف مشتركة، نابعة من مصالح الشعبين الشقيقين، وموجهة لخدمة القضايا المصيرية للأمة. سارت العلاقات اليمنية - السعودية خلال الأعوام العشرة المنصرمة بمنحى بياني تصاعدي يعكس حجم النمو المتنامي بوتائر متسارعة للدعم الرسمي والشعبي السعودي لأشقائهم اليمنيين في مختلف مجالات الحياة. هذا التطور المتسارع يعبر عن مكنون من الشعور بالحاجة إلى الانفتاح والتواصل وتبادل المنافع، وتمثل المؤشرات الاقتصادية والتجارية ومردودها المباشر على حياة الشعبين ترجمة حقيقية عن مدى حاجة المواطنين لهذه المعاهدة التي طال انتظارها وأهميتها المعاصرة والمستقبلية بالنسبة للبلدين وشعوب المنطقة بشكل عام. ما من شك في أن التطور في مسار العلاقات واتساع القاعدة الاجتماعية للمستفيدين منها يعكس حرص قيادة البلدين على جعل المواطن اليمني والسعودي في صدارة أولويات ومهام توجهاتها العملية وخياراتها السياسية المسخرة بدرجة أساسية في خدمة وتلبية مصالح الشعبين واحتياجاتهما الاقتصادية والأمنية والثقافية والتربوية، والعمل باتجاه خلق جيل جديد مترابط في علاقاته واهتماماته ومواقفه ومتكامل في واجباته الوطنية والدينية ورسالته الإنسانية والتاريخية، الأمر الذي ولد أنماطاً أخرى من العلاقات على المستوى الشعبي أنتجتها حالات الفرز والتميز المتطور في الآليات والوسائل والقوى الاجتماعية المحرّكة والحاملة السياسية لهذه العلاقة ومشروعها المستقبلي وتحولها التدريجي إلى شكل راقٍ من التواصل والتفاعل المباشر بين المؤسسات والمنظمات والجمعيات المهنية والاجتماعية والخيرية.. وفتحت أمامها مجالات واسعة للتعبير عن نفسها ومصالحها وبرامجها العملية المشتركة بدعم قوي غير محدود من الجهات الرسمية التي تعاطت مع هذا التفاعل باعتباره خياراً استراتيجياً يصب في صالح البلدين ومستقبل المنطقة. وعلى مدى عقد من الزمن تطور البناء الفكري والتنظيمي للعلاقات اليمنية - السعودية وأدواتها السياسية القيادية وآلياتها الاجتماعية ضمن خط فكري وسياسي رسمي واضح يجد في هذه العلاقة كياناً حيوياً متطوراً ومنفتحاً على كل مجالات الحياة وقطاعات التنمية، ومما عزز من أهمية هذه العلاقة بالنسبة لليمن في الحاضر والمستقبل، تعامل قيادة المملكة العربية السعودية بزعامة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز مع إشكالات وتحديات الواقع اليمني باعتبارها تحديات واستحقاقات إقليمية بالغة الأهمية والخطورة، وتفاعلت بشكل ايجابي مثمر مع الكثير من طروحات القيادة اليمنية ممثلة بفخامة الرئيس علي عبدالله صالح وبحثت معها قضايا الواقع اليمني بعقول وقلوب مفتوحة تستلهم دور المملكة المحوري في حياة الأمة العربية والإسلامية وقضاياها المختلفة، وتستلهم في الوقت ذاته الموروث التاريخي الحضاري لليمن وما يمتلكه من قوة إبداعية وإنتاجية، وأهمية دعمه ومساندته لتجاوز إشكالاته والدفع به على طريق النهوض التنموي باتجاه تفعيل دوره وحضوره السياسي القوي واستعادة مكانته كقوة تحديثية حضارية، واستيعابه كطرف فاعل في الكتلة التاريخية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمنطقة. هذا التوجه الرسمي السعودي أضحى أكثر واقعية وحضوراً في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي يولي جُل رعايته واهتمامه لقضايا اليمن، ففي عهده بدأ الموقف والسلوك الرسمي والشعبي السعودي يتبلور عن نهج سياسي وعملي له طابع وأهداف تنموية واضحة، ومتكامل في مساراته وأدواته ووسائله الموجهة لتطال حاضر ومستقبل اليمن ، وتخدم مصالح شعبه وتحافظ على وحدته وأمنه واستقراره. لقد شكّلت قيادة الملك عبدالله بن عبدالعزيز علامة فارقة ومتميزة في مسيرة العلاقات بين البلدين، واتسمت بنمو رأسي متسارع في مستوى وحجم الدعم المادي المباشر، وتمددها الأفقي لتشمل قطاعات تنموية وجماهيرية يمنية واسعة، وتعددت أشكال ووسائل وأساليب دعم المملكة المادي والمعنوي المباشر وغير المباشر لليمن. وجد اليمنيون من خادم الحرمين الملك عبدالله مواقف أخوية صادقة ومبدئية قوية وثابتة، لا شك في أنها ستعكس نفسها ايجابياً على واقع وحياة اليمنيين وتسهم في مساعدتهم على تجاوز الكثير من صعوباتهم وتحدياتهم، وخاصة المغتربين من أبناء اليمن في المملكة، كما تجسدت تلك المواقف في حتمية وتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين والوصول بها إلى مراحل متقدمة في كل المجالات معززة بالثقة المتبادلة بين قيادتي البلدين. ونحن نتحدث عن مسار وتطور العلاقات اليمنية - السعودية خلال العقد المنصرم لا ننسى الإشارة إلى أن التيارات والجماعات الإرهابية قد استغلت هذا الانفتاح الكبير إلى أبعد حد في خدمة أهدافها ومشاريعها الإرهابية التدميرية المتطرفة وهو ما أتاح لها إمكانية استعادة نشاطها الإرهابي وتشكيل كيانها التنظيمي والقيادي الموحد على مستوى اليمن والمملكة، وربما سهل عليها إلى حد ما الحركة والتنقل ضمن هذا الإطار الاجتماعي والجغرافي؛ وهو الأمر الذي حتم على قيادة البلدين العمل على إيجاد الضوابط التشريعية والقانونية والإجرائية المنظمة والمحددة للاتجاهات السليمة لمسار تطور هذه العلاقة ، وتلافي الوضعيات السائبة التي يمكن أن يستغلها أعداء البلدين والمخربون وأصحاب التجارة غير المشروعة والراغبون في نسف هذه العلاقة وتدمير جسور التواصل الرسمية والشعبية. خلال السنوات المنصرمة فرضت إشكالات وتعقيدات الواقع اليمني نفسها في صدارة اهتمامات قيادة المملكة العربية السعودية وضمن أجندة السياسة الدولية والإقليمية، وهو الأمر الذي يعكس حقيقة القلق السياسي الرسمي والشعبي في دول الجوار من أي تداعيات سلبية أو مخاطر مترتبة عن بعض الإشكالات والتحديات وتعقيداتها المحتملة على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي وهو ما حتم حضورها ضمن الأجندة السياسية والعملية لدول المنطقة وبالذات المملكة العربية السعودية التي كرست جهوداً وإمكانات لا يستهان بها في إخماد بؤر الأزمات والاضطرابات الملتهبة واحتواء مساراتها المتفاقمة وتداعياتها ومخاطرها المستفحلة على دول المنطقة بشكل مبكر.وتضطلع المملكة العربية السعودية بدور ريادي متميز في حشد المواقف والإمكانات الإقليمية والدولية الممكنة لمساعدة ودعم اليمن في إيجاد المعالجات والحلول العاجلة لأي إشكالات برؤية إستراتيجية تلبي الاحتياجات والمتطلبات الأمنية والتنموية لكل شعوب المنطقة، لاسيما في هذه المرحلة التي أضحت فيها العلاقات اليمنية - السعودية تفرض نفسها بقوة في المعادلة السياسية والاقتصادية والأمنية والمصالح المتبادلة بين شعوب ودول المنطقة، وتمثل إحدى البوابات الرئيسة لتقدمها وازدهارها واستقرارها. والاهتمام بهذه العلاقة وتطويرها أضحى قضية حيوية تحتمها تطورات الأوضاع السياسية والأمنية وتحدياتها الحقيقية التي باتت تطرح بشكل يومي أمام قيادات وشعوب المنطقة مهمة البحث عن معالجات وآليات عملية واقعية لمختلف إشكالات اليمن ضمن إطار الترابط الوثيق بين إشكالات الواقع الإقليمي العام وتحدياته من جهة، ومكوناته الجغرافية والاجتماعية السياسية المختلفة من جهة أخرى. وخلال عقد من عمر معاهدة الحدود الدولية اليمنية - السعودية تطورت الكثير من العوامل والبُنى والشروط السياسية والأمنية والاقتصادية والتنموية المعززة لحالة الاستقرار والازدهار والتطور للمنطقة، وفي الوقت ذاته برزت متغيرات وتحديات أمنية واقتصادية وسياسية وعسكرية خطيرة، سارت باتجاهات اتسمت بالمزيد من التعقيدات والتهديدات الجدية لمستقبل المنطقة، الأمر الذي وضع حكوماتها وشعوبها وأمنها الإقليمي ومستقبلها التنموي على المحك، ووضعها أمام امتحانات شديدة الأهمية تكشف عن حيويتها في التعاطي مع مجمل المتغيرات من حولها وقدرتها على الاضطلاع بدورها المشترك في مجابهة هذه التحديات على المستوى القطري والإقليمي. ونحن نطوي عشر سنوات من عمر معاهدة ترسيم الحدود من الطبيعي أن تتوجه جهودنا العملية نحو مواصلة المسيرة بروح وثابة متطلعة إلى مستقبل أكثر إشراقاً، ومستمدة مضامينها وأهدافها وآلياتها من عمق التلاحم الأخوي بين الشعبين الشقيقين وحاجتهما الملحة إلى الاستمرار في بناء جسور التواصل على مختلف الأصعدة.. [c1]* صحيفة ( الرياض) السعودية
أخبار متعلقة