يوم 14 أبريل وصلتني رسالة الكترونية من الصديق المهندس عبدالرحمن شكري حملت لي الخبر الحزين الذي نزل علي كالصاعقة بوفاة المثقف اليمني الكبير مربي الأجيال الأستاذ عبدالله فاضل فارع .. فالمهندس شكري يذكر أنني عندما زرت عدن في أواخر عام 2006م بعد غياب نحو 35 سنة عن عدن وتكرم باستقبالي في مطار عدن طلبت منه في ذلك اليوم أن، يأخذني لزيارة (أبوريا) الأستاذ عبدالله في منزله كما أخذني لزيارة مدرسة (محمد عبده غانم) التي تحمل اسم والدي رحمه الله وأيضاً جامعة عدن حيث التقيت الأستاذ الدكتور الشاعر أحمد الهمداني وصديق أيام المدرسة الثانوية الدكتور عبدالله القرشي، كما يذكر المهندس شكري أنه أقيمت لي في اليوم التالي أمسية شعرية في مقر اتحاد الأدباء والكتاب كانت أول أمسية شعرية لي في مسقط رأسي عدن على الرغم من أنه كانت لي عشرات الأمسيات في دول عربية وأجنبية وأعترف أنها أمسية كان لها محل خاصاً جداً في قلبي لأنها كانت في المدينة الخالدة مسقط رأسي عدن ، وبعد تقديم قصير من قبل الشاعر المعروف مبارك سالمين أفسح المجال للأستاذ عبدالله فاضل فارع ليقدمني للجمهور وبطبيعة الحال بدأ حديثة عن علاقته بوالدي منذ كان الأستاذ تلميذاً في المدرسة لشقيقي الأكبر الدكتور طبيب الأعصاب قيس غانم في المدرسة المتوسطة أما أنا فإن كنت لم أتعلم منه في المدرسة فقد تعلمت منه الكثير خلال زيارته لمنزلنا وزياراتي لمنزله .. وقد أشاد الأستاذ عبدالله بشعر والدي وشعري وجهودي في ترجمة الشعر. وأذكر أنه استضافني ليلة في منزله وكان معنا الشاعر اليمني الناقد سعيد الشيباني وليلة أخرى تحدثنا فيها عن الشعر الإنكليزي وكان الأستاذ عبدالله فاضل يمتلك أسطوانات فيها قراءات شعرية بأصوات أمثال (تي إس اليوت)و( إزرا باوند) و(أودن) وأسمعني بعضها وكان ذلك في أواخر الخمسينيات أو مطلع الستينيات، من القرن الماضي.
كما كان هناك لقاءات أسبوعية تجمع بين والدي والأستاذ عبدالله والشاعر اليمني الكبير محمد سعيد جرادة والأديب عبده ميوني وآخرين في الستينيات كثيراً ما كانت تعقد في منزل والدي يناقش فيها الأدب وأخبار السياسة وكان بعضهم ، في القات وما كان والدي الأستاذ عبدالله منهم وكنت أحيانا أنضم إليهم لحبي للأدب .كان الأستاذ عبدالله تنويريا في أفكاره وجريئاً في نقده ولاذعاً أحياناً في ذلك النقد مما كان يفرض على من حوله أن، يحسبوا الحساب لكلماتهم كيلاً يتعرضوا لنقده اللاذع ومما يحكى عن نقده ماقيل إن أحد الشبان بعيد الاستقلال عام 1967م، عين في منصب بإحدى السفارات فأخذه الإعجاب بنفسه مفتخراً ومكابراً أنه (دبلوماسي) فقال له الأستاذ عبدالله - وكان من مدرسيه في المدرسة ويعرف مقدار معرفة ذلك الشاب المتواضعة- : أنت لست (دبلوماسي) ولكنك دب المآسي! ومن القصص الطريفة التي رواها لي الأستاذ عبدالله فاضل في فترة الدراسة في الجامعة الأميركية في القاهرة اشتراكه سكن به عام 1948م في غرفة واحدة مع السيد عبدالسلام شهاب (خال والدي وكان عبدالسلام كما أخبرني بنفسه رحمه الله يكن التقدير الكبير للأستاذ عبدالله ، وكان السيد عبدالسلام ينهض لصلاة الفجر فيلبس قبقاباً خشبياً لدخول الحمام للوضوء فيصحي صوت القبقاب الخشبي الأستاذ عبدالله وربما الجيران فتحين الأستاذ عبدالله نوم السيد عبدالسلام وألقى القبقاب من الشباك إلى الشارع. وفي الأسبوع الثقافي لإحياء ذكرى والدي عقد بصنعاء في نوفمبر 1999م أقيم حفل مهيب في قاعة مؤسسة الأستاذ الكبير أحمد جابر عفيف لتكريم والدي من خلال تقديم وسام المؤسسة لوالدتي ولأفراد الأسرة وحضر الحفل والدتي وأشقائي د. قيس والبروفيسور د. عزة - أول خريجة جامعة يمنية ، والمحامي د. عصام ، والطبيب الموسيقى د. نزار غانم ، وكاتب هذا المقال وألقينا كلمات كما ألقيت قصيدة رثاء ، وكان ممن تحدث في الحفل الأساتذة عبدالله فاضل فارع ود. عبدالرحمن العمراني والأديب الناقد عبدالله علوان والأستاذ الصحفي السعودي أحمد المهندس والأستاذ الفنان الكبير محمد مرشد ناجي والأستاذ أحمد الكبسي وآخرون من الرجال الأوفياء.
وذكرنا الأستاذ عبدالله فاضل بلقائه الأول بوالدي الذي كان تخرج حديثاً من الجامعة الأمريكية ببيروت فكان بذلك أول خريج في الجزيرة العربية وزار المدرسة التي يتعلم فيها عبدالله فاضل وكان والدي ضابطاً للمعارف وبمجرد أن رآه هتف هذا محمد عبده غانم وسأله والدي : كيف عرفتني ؟ فأجاب : رأيت صورتك في كتاب (نصيب عدن) للأستاذ أحمد بن محمد الأصنح وكان من أوائل الكتب التي صدرت في عدن. ثم ذكرنا كيف مثل في تمثيلية من إخراج وتمثيل والدي وأظنها مسرحية (علي بك الكبير) لأحمد شوقي وقبل فيها دوراً نسوياً دون أن يشعر بالإخراج لأن المخرج كان والدي.كان الأستاذ عبدالله متفحا وكان يطيب له أن يدعي (أبورياً) باسم ابنته مع أ، الله رزقه بعدد من الأولاد الذكور مازن ، وأوس ، وقيم وهي أسماء عربية أصيلة كأنها قفزت إلينا من ديوان حماسة أبي تمام .. وهم اليوم من المؤهلين تأهيلا عالياً .. كيف لا وأبوهم عبدالله فاضل. ويوم 30 مارس الماضي نشرت صحيفة (14 أكتوبر) في العدد 14068 مقالاً لشقيقي د. نزار عن الأستاذ عبدالله قرأته بشغف فهو يعبر عن المحبة والاحترام اللتين يكنهما نزار للراحل الكبير .. كما يكن نفس المشاعر أشقاء نزار ومنهم كاتب هذا المقال ، ومقال نزار شيق جاء في وقته قبل الرحيل بأسبوعين ، والعجيب أن نزار يروي كيف كان الأستاذ عبدالله يعطى نزاراً دروساً إضافية في الرياضيات والجبر وهو رجل الأدب. عبدالله فاضل الذي ولد عام 1926م ورحل عنا يوم 14 أبريل الحالي كان شاعراً وأدبياً ومترجماً مجيداً ، إذ كان من أفضل من تمكن من اللغتين العربية والانكليزية واكتشفت أن ترجمة الشعر هي إحدى القواسم المشتركة في الاهتمامات بينه وبيني ، ومقال نزار يفصل رحلة أبي ريا.. العلمية التي شقها بعصامية نادرة إذ لم يكن ممن ولدوا وفي فمهم ملعقة من ذهب أو فضة وقد عمل (أبورياً) مدرساً في الكويت في الخمسينيات وكان من مؤسسي كلية التربية العليا بعدن وأول عميد لها كما كان مع والدي والشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني وعمر الجاوي وآخرين من مؤسسي اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي كان يضم كل اليمنيين قبل الوحدة بعقدين من الزمن .. كما عمل في الأليسكو في القاهرة ثم في تونس بعد معاهدة كامب ديفيد ونقل مقر المنظمة إلى تونس ، ثم عمل في جامعة عدن مستشاراً حتى وفاته ، وله مكتبة ضخمة في منزله تحتل الطابق الأرضي كله وكم من شكت زوجته الفاضلة الراحلة صديقة الأسرة المدرسة حولة معتوق من أنه جعل نصف المنزل للمكتبة ولكل الأسرة النصف الآخر فقط ، وكان يعير كتبه لطلبته في الجامعة لتساعدهم في أبحاثهم كما قيل لي إذ أن كثيراً من تلك الكتب لا توجد في مكتبة الجامعة أو المكتبة العامة. وقد أنجز الراحل الكبير ترجمة كثير من الأعمال الأدبية العالمية كما أنه شاعراً له مخطوطة بعنوان (دوامة الهباء) لا أدرى لماذا لم ينشرها ؟ وله كلمات بعض الأغاني التي غناها المرشدي ، ومن قصائده قصيدة صقر قريش يهزم الستين التي أهداها لوالدي بمناسبة بلوغه الستين عام 1972م وقد اقتطفت منها أبياناً في كتابي عن (صورة مدينتين - عدن وصنعاء في شعر محمد عبده غانم) الذي صدر في مطلع هذا العام وحرصت على إيصال نسخة منه للأستاذ عبدالله.يوم 15 أبريل الجاري وصلتني رسالة الكترونية من الصديق العزيز والشاعر الرقيق كمال اليماني يقول فيها إنه لاحظ وجود عدد كبير من السيارات عند مقبرة المنصورة يوم 14 أبريل فاشنبتح أن شخصية كبيرة رحلت ثم عرف بعد ذلك أن الخسارة النادحة كانت الأستاذ عبدالله فاضل فارع رحمه الله .. وما أن قرأت الرسالة الصاعقة حتى رن الهاتف عندي لتخبرين شقيقتي الصغرى المقيمة في دبي الخبر الحزين وهي زوجة المهندس حسين مهيوب سلطان الذي توفي شقيقة الأكبر الطبيب المعروف د. محمد مهيوب سلطان في مسقط الأسبوع الماضي رحمه الله ورحم الأستاذ عبدالله فاضل وأسكنهما فسيح جناته وألهمنا وأهلهما الصبر والسلوان.
الفقيد الكبير مع الدكتور شهاب غانم في صورة تذكارية اخذت في عدن
الفقيد مع الدكتور احمد الهمداني ومصطفى راجمنار في احد مراسيم جامعة عدن