قصة قصيرة
كانت المشكلة تؤرقها ... أنها تدري ماذا تفعل أو ماذا تقول ؟ كيف تجيب على هذا التساؤل الذي تراه في عيني طفلها .. أنها ليست دائماً في حاجة لان تسمعه يردد نفس السؤال الحائر الذي تقف دائماً عاجزة عن أن تجد له جواباً .. ( أين أبي يا أمي ؟ لماذا لا يعود إلى البيت .. إن كل الآباء يعودون إلى أبنائهم بعد انتهاء عملهم.. لكن أبي لا يأتي ابداً؟). وها هي لم تعتد الكذب .. وهو ايضاً طفلها الذي استقبل عامه الثامن منذ بضعة أيام مضت .. لقد عودته على أن يكون صادقاً دائماً وان يقول الحقيقة مهما كانت نتائجها وقد بدأ الصغير يدرك ما يدور حوله .. بدأ يرى أشياء كثيرة لم تكن تستوقفه أو تثير اهتمامه من قبل.. ولكنها الآن أصبحت تشغل تفكيره. منذ أيام اصطحبته أمه إلى الحديقة العامة التي يحب أن يقضي عطلة نهاية الأسبوع بين أشجارها وطيورها التي يحلو له أن يرقبها وهي تطير فوق رأسه من غصن إلى غصن ، ثم وهي تغدو فرحة سعيدة بالدفء الذي تبعته الشمس في هذا اليوم البارد من أيام الشتاء .. كانا يسيران معا وهي تحتضن بيدها رأسه الصغير إلى أن اقتربا من حوض الزهور الجميلة وتوقف وسألها : هل استطيع أن اقطف هذه الزهور يا أمي .. أنظري إليها ألا ترين كم هي جميلة؟ . وتركته يفعل .. وفي هدوء راح الطفل يتجه إلى الحوض الذي امتلأ بزهور الشتاء .. ومد يده الصغيرة وقطف بعضها ، ثم مالبث أن عاد إليها مسرعاً وقد علت وجهه ابتسامه حلوة بريئة ! ونظرت الأم إلى الزهرات التي اختارها .. وقالت وهي تداعب خصلات شعره : سوف نضعها في إناء صغير مليء بالماء عندما نعود إلى البيت ، لكي تبقى نضرة أطول فترة ممكنة ما رأيك؟.قال: أنا لم اقطفها لأضعها في الماء يا أمي .. ولكنني فعلت ذلك لأهديك واحدة وآخذ لنفسي واحدة واحتفظ بالثالثة لأبي فربما يفكر في العودة إلينا ، من يدري ؟ وسنضعها في الماء لتعيش ، فإذا لم يأت اليوم ، فقد يأتي غدا وسوف يجدها هناك في انتظاره !». وعادت الأم تنظر إلى الزهور في يد طفلها فوجدتها ثلاثاً .. قدم لها أحداها واحتفظ بالزهرتين الباقيتين في يده .. وأخذتها منه ورفعت اليد الصغيرة التي قدمتها إليها ولثمتها بشفتيها في حنان ، ثم أدارت وجهها وأخرجت منديلها تمسح به دمعه حائرة تحمل ما كان يعتمل في صدرها ورأسها من انفعالات ..» ماذا أقول له .. كيف أصارحه بالحقيقة التي تعود أن يسمعها مني دائماً ؟ كيف اروي له قصة الأب الذي تخلى عن طفله ونسيه تماماً كما ينسى الرجل النظارة التي طالما وضعها أمام عينيه ليرى بها طريقه فإذا به يوما ينسى انه كان يستعين بعينين أخريين حتى يرى مكان خطواته فلا يلبث أن يجد نفسه وقد سار في طريق أخر لا يعرفه ولم يألفه من قبل!؟». وانتهى النهار ، وعادا إلى البيت .. وأسرع الصغير يضع الزهرة في الماء .. الزهرة التي سيقدمها لأبيه عندما يعود إليه .. ومر يوم ويومان .. وانقضى الأسبوع كله ترقبه في صباح كل يوم وهو يتجه إلى زهرته ويقف أمامها يتأملها وهي تذبل في بطء ويناجيها وكأنه يرجوها أن تبقى وتصمد!أنها لن تنسى يوم أن فتحت المدارس أبوابها لتستقبل التلاميذ بعد عطلة الصيف الطويلة.. في اليوم الأول اصطحب الآباء أبناءهم - جاء معظم الأطفال في صحبة آبائهم والتقى الطفل بأصدقائه الذين عرفهم في العام الماضي وكانوا جميعا يقفون وسط والديهم .. وأسرع يبحث عن امه وكانت تقف في ركن تتحدث إلى المدرسة الجديدة وتعلق بذراعها وقال يهمس في أذنها : هل يأتي أبي إلينا اليوم ليقدم لي الهدية التي وعدني بها؟». كانت الأم تتألم في نفسها وهي ترى الحيرة في عيني صغيرها .. انه يعرفه .. انه لا يذكر عن حياته في البيت الذي يضم والديه قبل أن يتركه مع أمه إلى المعارك والمشاحنات والمشاجرات التي كانت تنشب بينهما .. وكان الصغير يقف ويرقب هذا كله من بعيد في خوف وقلق. لقد عاش سني حياته الأولى بعد أن بدا يفهم ويعي ما يدور حوله محروما من الحب الذي يبحث عنه.. فلم يكن هناك وقت للحب .. كان كل شيء في البيت قد بدأ يتحول إلى (جحيم) صغير لا يرى فيه بعينيه البريئتين سوى وجوه ثائرة غاضبة وكلمات حادة وصيحات مرتفعة.. ولم يكن يملك إزاء كل هذا الذي يراه ويسمعه إلا أن يصرخ معبراً عما يحتمل في صدره من القلق أو الانزواء في احدٍ أركان البيت ، حيث يبقى في مكانه هناك بعيداً عن ( الإعصار) حتى يعود الهدوء فيسرع بالارتماء إلى حضن أمه كما لو كان يريد أن يخفف لها دموعها!. عاشت الأم في حيرة من أمرها .. وكان من الممكن أن تحمل الأم مشكلتها إلى احد الأصدقاء الكبار الذين عرفوها وهي طفلة ، وعاشوا جانبا من مشكلتها مع الحياة .. وكانت تلجأ إليهم قبل هذا كلما كانت تشعر بالضيق حتى قبل أن تنجب طفلها .. كانت تجد عندهم ما تبحث عنه وتسعى إليه من راحة النفس ولكنها آثرت بنفسها هذه المرة أن تبحث عن مخرج للحيرة التي تستبد بها لماذا لا تعود الى الكتب ؟ لقد كان الكتاب رفيقها في كثير من المشاكل التي صادفتها ، وكان مدرستها عندما أصبحت أما وهي تقرأ عن ( العناية بالطفل) ثم ( الدكتور سبوك يتحدث للأمهات ) .. وعثرت عليه اخيراً .. انه في احد كتبه الأخيرة يتحدث عن ( مشاكل الآباء) وراحت تقرأ وكأنها تقرأ وتقرأ قصتها إلى هذا الجزء من الحديث الذي يصف فيه حاجة الطفل الذي هجره أبوه إلى الشعور بأن والده يحبه.كانت الأم بطبيعة الحال تشعر باستياء إزاء موقف هذا الأب الذي لم يحاول الإبقاء على الصلة التي تربطه بطفله طوال تلك الشهور التي انقضت منذ أن حملت الأم طفلها لتبدأ معه حياة جديدة.. تعيش فيها له وحده ومن اجله ومن اجل رفاهيته وسعادته ولكنها مع هذا الشعور كانت تدرك في قرارة نفسها أن هناك وسط كل الأحداث التي مرت بها وأدت إلى هذا الوضع الجديد ، حقيقة واحدة ثابتة لا يمكن أن تتغير ولا يمكن لأحد أن يغيرها .. وهي أنها أم هذا الطفل البريء الذي تستمد من وجوده بجوارها القوة لمواجهة الحياة وحدها وأن الرجل الذي انفصلت عنه بالطلاق هو والد طفلها والطفل بدوره ، رغم كل ما مر به وما رآه من أحداث تقع بين والديه وتثير في نفسه الخوف والقلق .. رغم هذا كله ، بدأ ينسى ما كان يحدث أمامه وسط المناخ الجديد الذي يعيش فيه مع أمه التي تعطيه كل حبها ولكنه في الوقت نفسه لا يريد أن يحرم من حب أبيه .. انه يريد أن يشعر بأن أباه ايضاً يحبه. وكادت الأم أن تطوي الكتاب وتنتهي من القراءة لولا أن شدتها إليه مرة أخرى عبارة أخيرة تقول: « ليس المطلوب من هذه الأم أن تقول أن زوجها السابق كان ملاكا .. لأنها لو فعلت فسوف تزداد نظرات التساؤل في عيني طفلها وربما - إذا كان قد بلغ من الوعي قدراً يسمح له بالتوقف والتأمل ربما قال : لها بدوره متسائلاً : «لماذا إذا ابتعدت عنه يا أمي !؟ والحقيقة أن كل ما يريد أن يسمعه الطفل من أمه رداً على تساؤلاته أن والده يحبه وسوف يحبه دائماً وانه لن يتخلى عنه ابداً».