الموصلي
ولد إسحاق الموصلى فى الري، وهى تقع الى الجنوب الشرقى من طهران، عام 767 م من ابراهيم الموصلي، المغنى الشهير، ومن شاهك الفارسية، ثم رحلت الأسرة بعد ذلك الى بغداد، حيث حظي ابوه برعاية وتكريم خلفاء بنى العباس، فنشأ فى بيئة فنية، وألمّ منذ صغره بحرفة الغناء تحت اشراف أبيه الذى كان يطمح إلى جعله خليفة له دون منافس، فكان له ما اراد، وبلغ اسمى منزلة منذ عهد الرشيد وحتى المتوكل.. كان اسحاق الموصلى ذا أذن موسيقية سليمة وذوق صاف، رقيق الحاشية، غرف من بيت ابيه جواهر الالحان، ومن مجلس الخلافة درر العلوم والمعرفة.. لقد كان ــ بغض النظر عن شهرته كمغن بارع ــ عالما فقيها، وشاعرا مجيدا واديبا أريبا، ونديما جمّ الظرف، وجليساً لطيف المعاشرةومنذ يفاعته، أخذه ابوه الى مجلس الرشيد، حيث جلس فحول الغناء العربى فى صفين متقابلين: مخارق، ويحيى المكيّ، وابن جامع، وابن ابى العوراء، وغيرهم، حيث تقام أمام الرشيد مناظرة فى الغناء، فلما جاء دوره وغنى طرب له الرشيد، فاستزاده، فزاد، فطلب لحناً آخر منه، فاجابه لذلك وابدع .ومن الامور الاخرى التى اشتهر بها اسحاق الموصلي، حرصه على حفظ وجمع الحديث النبوى الشريف.. وكان إسحاق الموصلى شاعراً ايضا، بل وشاعر مجيد وهو، للغرابة ، لم يكن ممن يسعون فى شعرهم لنيل الجوائز والخلع السنية، بل كان يكرم ويهب الشعراء .. ولعل من الدوافع المهمة فى نبوغ اسحاق الموصلى ان جعل الله له صنواً من بيت الخلافة، وهو ابراهيم بن المهدي، فقد ذكر الرواة انهما افنيا عمريهما فى التنازع حول “تجزئة لحن” او “قسمة صوت واحد” ناهيك عن امور فنية كثيرة اخري.. ورغم ان كلا الرجلين لم يكن ينكر فضل الاخر، فإن المنافسة بينهما كانت تصل الى درجة كبيرة، فيتنكرّ هذا لصاحبه، ويزعل الاخر، وقد روى المؤرخون ان اسحاق كان يتشامخ احيانا على ابراهيم فى صنعة الغناء، فما يكون من ابراهيم الا ان يبادله التعالي، فينكر عليه زعامته..ومهما كان من أمر هذين الرجلين الرائعين، فانهما كانا قطبى الموسيقى فى عصرهما، وكان مما أشار اليه الرواة انهما كانا يتقنان تدوين الالحان، أو ما يمكن ان نسميه اليوم بـ “تدوين النوطة”. وعلى الارجح ــ حسب شهادة الرواة ــ انهما كانا يستخدمان رموزاً خاصة بينهما لتدوين اللحن، وهو امر دون شك يدل على التطور الكبير الذى بلغته الموسيقى فى ذلك العصر، بالقياس الى تدوين النوطة فى الغرب، الذى عرف بعد زمن طويل جدا من ذلك..وكانت لإبراهيم المهدى كتب ألفها فى الطب، والطبخ ، وكتاب اسماه “أدب إبراهيم”، ناهيك عن قدرته ــ بحسب الرواة ــ على اداء اغلظ النغمات من ناحية الثقل وأشدها ارتفاعا من ناحية الحدة، وبلغ اتساع المنطقة الصوتية لمقدرته فى الاداء ثلاث مراتب (أوكتاف)..لقد تجاوز اسحاق الموصلى كونه مغنياً او نديماً .