(النص الجديد) المنابع والشرعية
كتب/ إدريس الشعرانيفي الآونة الأخيرة بدأ حوار يجري بين المهتمين عموما بشأن النص النثري، وخصوصاً بنص بدأت ملامحه تلوح في أفق بعيد رغم الغموض الكبير الذي يحيط بهويته كجنس أدبي وبإمكانية وشرعية وجوده التاريخي ،وبدأ هذا الحوار يفرض نفسه في الأحاديث والملتقيات إلى أن استحق من الملتقى الذي نظمته مؤسسة (أروقة جنون الثقافية ) مشكورة (في القاهرة مؤخراً) تحت شعار ( ملتقى النص الجديد - ما بعد قصيدة النثر) .وفي الندوة الخاصة بهذا الموضوع ، كان النقاش حماسياً ولامست كل المداخلات أهمية المرحلة بما تحمله من مخاض وتراوحت بين تسميتها بمرحلة (النص الجديد) أو (مابعد قصيدة النثر) أو (النص ميديا)أو (النص الالكتروني) إلا أن كل ذلك لا يضع الأصبع على سمات المولود المنتظر نظرا للخلط الذي يقع فيه أغلب المتدخلين باعتبار المساحة التي تتيحها الشاشة أمام إمكانية الكتابة الثنائية أو الجماعية الارتجالية منها والمخطوطة هي هذا النص ،وما الشاشة إلا ورق إن لم إلكتروني لا يمكن في أي حال من الأحوال أن نعتبر كل ما ينشر عليه نصا جديدا مهما كانت جودته أن لم ندخله إلى مشرحة النقد العلمي ولمعرفة الفرق بينه وبين ماسبقه وتحديد جودته من رداءته وفي حالة الإقرار بجودته نخضعه للتصنيف لتبيان أنه فعلاً يستحق تسمية (الجديد) .ولاختصار المسافة حتى لاندخل في متاهات نظرية ليست موضوع هذا البحث أتوجه مباشرة إلى محاولة مناقشته من خلال الشعر المنثور من حيث الشروط المتعارف عليها رغم نسبيتها وهي الكثافة والتوهج والمجانية (أو اللاقصدية).والأسئلة الواجب على كل مهتم طرحها هي كالتالي :1 - هل ما يلاحظ ليس إلا مرحلة في تطور النص النثري؟ 2 -هل فعلا هناك ضرورة تاريخية لميلاد نص (جديد)؟ 3 -وإذا كان الجواب بالإيجاب هل سيكون هذا النص قادرا على تجاوز هذه الشروط دون الإخلال بالجودة والتميز؟ 4 -وإن حصل ذلك فما هي الإضافة التي سيأتي بها ؟ في اعتقادي إن المولود المنتظر سيأتي ليستجيب لمتطلبات عصره بالتمرد على بقايا القيود ومعانقة محيطه في احترام لقوانين التطور وضرورة وجوده التاريخية ومن هنا يتضح جلياً أن النص المزعوم لن يولد إلا من رحم شعر له مؤهلات تجعله قادرا على السماح بفتح مساحات أكبر للكلمة و للمعنى متمرداً على الشروط الأنفة الذكر لتجاوزها .ولمعرفة مدى قدرة المولوداً لمنتظر على الاستجابة لما سبق لابد من العودة قليلا إلى الوراء لرصد خيط التطور , وفي هذا الصدد نجد أن الجيد من الشعر(عمودياً أو تفعيلياً أو نثرياً أو مابعد ذلك) لم يوجد ولن يوجد بدون هدف بحيث كان شاعر القصيدة العمودية (في أصلها وبيئتها) يلعب عدة ادوار منها انه كان الناطق الرسمي باسم القبيلة ,المحافظ على الإرث الثقافي لها ،المدافع عنها في المحافل ، المحفز للمقاتلين أثناء المعارك ......الخ وبعد تطور المجتمعات العربية وخروجها من نظام القبيلة إلى نظام الدولة (خصوصا مع دخول الاستعمار)تطورت القصيدة من عمودية إلى حرة تفعيلية متمردة على البحور والقوافي والتصنيفات (الأطلال-الرثاء- الهجاء-المدح.....الخ) فاتحة مساحات أكبر للتعبير عما يجول في وجدان الشاعر وبذلك انتقلت أهداف الشعر من قضايا القبيلة إلى قضايا نضالية بالكلمة الحرة لمناهضة الاستعمار وأتباعه ونصرة المضطهدين كما هو الحال في الشعر القومي أو الشعر الوطني إلا أن تطور المجتمع البشري من القطرية إلى العولمة فرض على مجتمع الشعراء نقلة نوعية فيما يخص التعامل مع هذا الوضع الجديد فوجدوا في النثر(رغم قدمه) الوسيلة الأكثر رحابة للبوح وخدمة القضايا الكبرى للإنسانية كالحرية والحياة والموت والوجود بشكل عام لما تتيحه من إمكانية أكبر في الكتابة بناء وتجرداً من شروط كانت قيودا على الجمالية والبوح الأكثر جرأة ولكن باعتماد شروط جديدة أقل صرامة والتي كانت حين ولادتها ضرورة بنائية وحداً ادنى للحفاظ على التميز والفعالية اللازمين لكل إنتاج أدبي يستهدف المتلقي ويضعه في حسبانه .إلا أن الشروط الأنفة الذكر أصبحت هي الأخرى عائقا أمام إنتاج نص فاعل يستجيب لعصره .والسؤال الذي يجب طرحه بإلحاح هنا هو :هل التجرد من كل القيود يسمح بكتابة أي كلام وعلينا أن نعتبره شعرا؟ وهذا بدوره يدفعنا إلى اخذ الحذر حتى لانسقط في الرداءة واللاّشعر وعليه لكي يكون هذا النص قابلا للحياة يجب علينا أن ندخل جسم الشعر العربي (العامي منه والفصيح) إلى جهاز الكشف بالأشعة لتشخيص مكامن المناعة فيه والذي سيسمح لنا بتصنيف الشعر من غيره من الكتابات . وبعودة سريعة إلى كل الإنتاجات الشعرية منذ القدم نجد أن خيطا رفيعا يلازم النص الجيد وينتقل معه من مرحلة إلى أخرى وفي رأيي المتواضع هذا الخيط الرفيع هو الذي يضمن للنص الجودة والخلود واعتقد انه يجمع ين عنصرين أساسين هما : الصدق والجمالية 1 -الصدق :يكون النص بليغا كلما كان منطلقا من الترجمة الصادقة والدقيقة لأحاسيس الشاعر في تفاعل صادق مع وجدان المتلقي2 -الجمالية : مرتبطة ارتباطا عضويا بالموسيقى التي ينتجها النص و تتركب من عدة عوامل :أ- سلامة اللغة .ب- بساطتها(كتوظيف أسلوب (السهل الممتنع)) .ج- انزياحها ما آمكن.د- تجنب المباشرة.ه- تنوع أشكال النص وعدم السقوط في النمطية بحيث يكون الموضوع سابقا على الشكلو- تنوع الإيقاعات الداخلية والخارجية في النص.وفرة الصور وتناسقها منطقيا داخل النص.ز-التوهج.ح- الكثافة .(بالإضافة إلى عوامل أخرى تفصيلية يمكن تناولها في مبحث آخر)ويتضح من ذلك أن النص النثري هو الذي يتيح هذه الإمكانية أكثر من غيره لعدم تشدد شروطه(الكثافة-التوهج -المجانية ) إلا ان العصر يرفض شرط المجانية لأ ن طبيعة الشعر كنتاج فوقي لا تسمح بنيويا بوجود شعر من اجل الشعر كما تدعو له القصيدة الوافدة من الغرب الرأسمالي ذي النزعة الاستهلاكية التدجينية والمتأثرة بالطرح الرومانسي (لحظة التأثر بها من طرف شعراء المهجر) (حيث اتخذوا من اصطلاح : (قصيدة النثر) ترجمة مباشرة ل “poetic pros (ومن هنا كانت المعركة حول شرعية التسمية لان سوزان برنار صنفت قصيدة النثر بكونها الشعر النثري الغنائي والذي يعتمد على الجملة القصيرة والتقطيع الايقاعي)أقول لم يعد العصر يقبل هذا الشرط لأنه أيضا يتعارض بشدة مع عنصر الصدق المطلوب في النص الجيد حداثياً ومع سقوط هذا الشرط تصبح المساحة أكبر لإنتاج نص يستجيب لعصره بتناول -كل ما يروج في وجدان المتلقي بدون تردد ولا تحفظ ولا حرج وبالتالي يصبح الشعر الوليد يقوم بدورين متلازمين في النص هما :- التعبير بدقة وصدق عن نبض المتلقي من حيث التوجه إلى شعوره الحسي مباشرة (كما هو الحال في الشعر الشعبي المنظوم) أو بصفة غير مباشرة بالاعتماد على الرمزية والإيقاع العروضي(كما هو الحال في النص العمودي والنص التفعيلي ).-التوجه إلى لاشعور المتلقي عن طريق تكثيف وعمق الصورة والانزياح في اللغة مع تنويع الإيقاعين الداخلي والخارجي،والمعروف( حسب ما ورد في مقال للكاتب (فرزند عمر ) تحت عنوان “مفهوم قصيدة النثر “) أن الدراسات الطبية العديدة التي اهتمت بالعلاقة بين المنبه والدماغ عن طريق الحواس الخمس أو بين المنبه والدماغ عن طريق الإدراك الفكري أن حالة الانتشاء التي يحس بها المتلقي هي نتيجة لكمِّ المورفينات التي يفرزها الدماغ بعد تلقيه تنبيها إيقاعيا منتظما (كما في لحظة التجلي عند الصوفيين)، ومن هنا يتضح أن في الحالة الأولى يكون الانتشاء ضعيفا نظرا للمباشرة وعنف الكلمة وتكون في الحالة الثانية أقوى نظرا للين الكلمة واعتماد الرمزية ولكنها تزداد كماً في الحالة الثالثة نظرا لتنويع الإيقاعات الداخلية والخارجية وتكثيف الصور المشهدية منها والتشكيلية.بعد كل هذا نخلص إلى أن النص المقصود يتمتع بمواصفات تستجيب لشروط العصر دلاليا وفنيا وبالتالي يفتح فضاء جديدا للشعر العربي من حيث استيعابه لكل الأجناس الأدبية بلغة الشعر - سرد - دهشة.. الخ ) ومن حيث شعريته فهو الشعر الرؤيا والنبوءة والقيم والحكمة وكل ما سبقه يجد مكانه في هذا النص مستفيدا من مساحات تداوله بسرعة لم تتأتَّ لأسلافه، وتجدر الإشارة إلى أن المشتغل على هكذا نص كتابة أو نقداً أن يكون مطلعاً على شتى المعارف كالعلوم الحقة وعلم الاجتماع وعلم النفس ......الخ.خلاصة البحث النص الوليد سيأتي من رحم قصيدة النثر .