صنعاء سبأ:كنت قد كتبت ذات مرة تحت عنوان (الثورة.. وماذا بعد؟!)، متسائلاً عن حالنا كجيل ترعرع في كنف الجمهورية، واستظل بمظلة الوحدة العظيمة الخالدة، وتربى على العلم والإيمان، بعد أن أفلت شمس الملكية، وآفل ذلك الثلاثي القاهر - الجهل والفقر والمرض - الذي خنق فجرنا وسجن شعبنا تحت دياجيره ما يقرب من عشرة قرون، وأعلن شعبنا بانتهاء تلك الحقبة القاهرة ميلاد شمس الحرية، في صبيحة السادس والعشرين من أيلول (سبتمبر) 1962م، وبعد ذلك انكسرت شوكة المستعمر البريطاني، وانطفأت شمسه تحت نيران شعبنا التواق إلى الحرية، واستجابت عدن لنداء صنعاء، مدركة أن النور لا بد أن يغمر الأرض اليمنية كلها، فكانت ثورة 14أكتوبر 1963م، والتي أجبرت الغازي على حمل عصاه والرحيل عن أرضنا، ليغادر آخر جندي بريطاني من عدن في الـ 30 من نوفمبر 1967م، بعد طغيان وقهر واستغلال دام قرابة مائة وتسع وعشرين سنة.عبدالرحمن سبأكنت أتساءل ماذا بعد الثورة؟ ماذا قدمنا لها مقابل ما قدمه شهداؤنا؟ كيف نحتفي بثورة جاءت من أجلنا؟ وماذا يجب على الجانب الرسمي أن يقدم من أجلها وغيرها من التساؤلات التي أوردتها في مقالي آنف الذكر، وسأوردها في هذا المقام، لكنني أحببت أن أبسطها بشكل أوسع، بعد أن اخترت للموضوع عنوانا آخر، وهو شطر من قصيدة السلام الوطني للجمهورية اليمنية، لشاعر الوطن والحرية، شاعر الأرض والإنسان، الشاعر العظيم عبدالله عبدالوهاب نعمان، من مقطع يقول:[c1]كم شهيداً من ثرى قبر يطـل ليرى ما قد سقى بالدم غرسهويرى جيــلاً رشيـداً لا يضـــل للفداء الضخم قد هيـأ نفسـهويرى الهامات منا كيـف تعلو بضحى اليوم الذي أطلع شمسـه[/c]ففي لحظة تجاوزت الزمان والمكان، كنت أستمع لفنان اليمن الكبير، الفنان الذي حمل الهم الوطني كما ينبغي، وغنى لليمن الواحد قبل إعادة تحقيق الوحدة بكل جوارحه الفنان أيوب طارش، كنت أستمع إليه يغني النشيد الوطني بروح وطنية وإنسانية منقطعة النظير، أجبرتني لحظتها على البكاء، لا لشيء غير تلك التساؤلات التي طرقت ذاكرتي مجدداً، فقلت في نفسي أين نحن من أولئك؟ من الذين قاموا بالثورة؟ ومن الذين ناضلوا بالكلمة، وجادوا بالروح لهذا الوطن؟ وأين نحن من كل تلك المعاني النبيلة والعظيمة التي كانت وراء الفكر الثوري من جهة، والفكر الوحدوي من جهة ثانية؟نحن غافلون جامدون بائسون، وهذه هي حقيقة الشباب الذي يعيش على خير الثورة اليمنية - سبتمبر وأكتوبر - والوحدة المباركة، ولا أترك الحكم على إطلاقه، فهناك الشباب المتوقد حماساً وعزيمة لبناء هذا الوطن، وتحقيق الأهداف السامية التي صاغها الثوار بدمائهم قبل أقلامهم، وهناك الشباب الممتلئ إيماناً وعلماً وفكراً ووطنية. فالذي يدافع عن الثورة وأهدافها، والوحدة ومبادئها، لا يقل أهمية عن الثائر الذي قدم روحه رخيصة لأجل الثورة.وحينما أقول الثورة فأنا أعني ثورة اليمنيين في صنعاء أو في عدن، لأن الثورة اليمنية واحدة من حيث المنطلقات والغايات، والدم الذي عمدها يمني، والتراب الذي أحتضن شهداء الثورة تقدس باسم اليمن،ونضال الأحرار في الشمال والجنوب كان من أجل اليمن، كل اليمن، أرضاً وإنساناً، ولا يمكن المزايدة على ذلك، من قريب أو بعيد.ونحن نعيش أفراح الذكرى الـ 46 لثورة 26 سبتمبر 1962م، والذكرى الـ 45 لثورة 14أكتوبر 1963م، والـ41 لعيد الاستقلال - خروج المستعمر البريطاني من اليمن في 30 نوفمبر 1967م، ونحن نعيش هذه الأفراح كنت أسأل أحد شباب اليمن الجدد الذين قامت الثورة من أجلهم، كنت أسأله متى كانت الثورة السبتمبرية؟ فأجابني: عام 1971م، صعقت لذلك، ولكني أخفيت امتعاضي، ثم سألته: والثورة الأكتوبرية؟ فقال: عام 1981م، فآثرت ألا أسأله عن تاريخ إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، خوفاً من كارثة أخرى.يا إلهي! ما كل هذا الرعب؟ ما هذه الوقاحة؟ الشاب الذي سألته في السنة الثانية من المرحلة الثانوية، فضلاً عن أنه من أبناء إحدى المحافظات التي تزخر بالعلم والعلماء والأدباء والمثقفين، المحافظة التي صدرت - وما زالت وستبقى - قوافل عديدة من أبنائها للثورة والجمهورية والوحدة، المحافظة التي أسهمت وتسهم في رسم تفاصيل التاريخ اليمني، قديماً وحديثاً. أقصد أن مقومات امتلاك المعرفة في متناول هذا الشاب وبأقل التكاليف، لكنه يعيش على هامش الحياة، لا يدري لماذا يعيش، وهذا تصنيفي لكل من هم على شاكلته. وإذا كان هذا لا يعرف تاريخنا، فكيف بأبنائنا وإخواننا في الصحراء والمناطق التي لم تصلها وسائل المعرفة بالشكل المطلوب؟ أعني أن الدائرة مرشحة للاتساع.وهنا نقول من المسؤول عن كل هذا؟ لا شك أن البيت هو المعني بالدرجة الأولى، والمدرسة بالدرجة الثانية، لكن في حال أن البيت - أعني الأب والأم - لا يزالات يترنحان بفعل الضربات الموجعة لعهود الجهل والظلام التي خلفتها الملكية الكهنوتية، فمن نحاسب إذن؟لا يختلف اثنان على أن المدرسة تحمل على عاتقها مسؤوليات كبيرة، أهمها تبصير النشء والشباب بماضيهم، وتنويرهم بحاضرهم، ورسم ملامح مستقبلهم. ومثل تاريخ ثورتنا ضد الإمامة والاستعمار، ونضال شعبنا من أجل إعادة تحقيق وحدته، وتحقيقها في الثاني والعشرين من مايو 1990م، مسؤوليات كلها تقع ضمن الأولويات التي يجب أن تنطلق نحوها سياساتنا التعليمية، وتلك مسؤولية الجهات الرسمية في الدرجة الأساس، كونها التي ترسم سياسة التعليم وتوجه كل السياسات المتعلقة بذلك. فلماذا لا تلتفت الدولة لهذه الجزئية المهمة من مسؤوليتها تجاه تاريخنا وحضارتنا؟ وإن كنا لا ننكر ما قامت به وزارة التربية والتعليم من جهود طيبة في هذا الاتجاه، إلا أن التطلعات أكبر من ذلك بأضعاف كثيرة.كما لا نعفي المنظمات المدنية والمثقفين والأدباء والخطباء والمرشدين من المسؤولية الوطنية والتاريخية تجاه شبابنا ووطننا، بل تجاه أمتنا قاطبة. فالكل مسؤول حتى بائع الحلوى إن لم يكن فاعلاً في البناء فهو للهدم.في كل ثورات العالم، كان لكل ثورة مسارها الفكري قبل العسكري، يسبقها الوعي الثوري بين أوساط الطبقات المستهدفة من الثورة، فتمر بمراحل بذر البذور ونموها ونضوجها، ومن ثم مرحلة الحصاد، وليست الثورتان الفرنسية والروسية ببعيدتين عن ذلك، وهذا ما وفر لها ولمثيلاتها النجاح أولاً، والعمق الفكري والتاريخي لازدهارها واستمرارها ثانياً.التنظير الفكري والوعي الاجتماعي شرطان أساسيان لنجاح الثورات، وعاملان مهمان لنجاحها وديمومتها وبالنظر التاريخي إلى تاريخ ثورتنا وإرهاصاتها نلحظ أن المسار الفكري والوعي الاجتماعي لم يسبقاها المناضلين في سبيل إنجاح الثورة وتحقيق أهدافها لكنها وبفضل الله تكللت بالنجاح، وخطت خطواتها نحو الحرية والإنعتاق بثقة واقتدار، وحققت أهدافها، وأخرجت الشعب من الظلمة إلى النور، وتلك نعمة من الله على شعب لم يكن ليرى النور لو لا تلك الثورة.كم هو جميل أن يعيش شعبنا أفراحه الوطنية، وأن نحتفل بأعياد ثوراتنا العظيمة، بل الأجمل من ذلك حينما ترى العلم الوطني يزين الشوارع والمحال التجارية وواجهات الدوائر الرسمية، ولكن هناك تساؤل يفرض نفسه بإلحاح شديد يقول: ماذا بعد الثورة؟ هل نكتفي بالاحتفاء بذكرى يوم الثورة؟ هل برفع العلم الوطني نعبر عن اعتزازنا بالثورة؟ وهل يقتصر حبنا للثورة على إدراج هذا اليوم ضمن قائمة الإنجازات الرسمية؟ ما القيمة التي يحملها النشء والشباب في المدارس والجامعات عن آبائهم الثوار؟ أين الجيل الرشيد الذي عناه الشاعر الفضول؟ كيف نرى جيل الثورة رشيداً يعرف كل تفاصيل تاريخنا، وأهدافها لماذا يجهل بعض شبابنا شاعر النشيد الوطني؟إن الاهتمام بالنشء والشباب وتوعيتهم بماهية الثورة، وغرس قيمها ومبادئها وأهدافها في دمائهم مثل بقية القيم والمبادئ والأهداف الحياتية الأخرى، يأتي في مقدمة الاستراتيجيات والطرق البناءة لحماية الثورة ومكتسباتها العظيمة. إذا لم يتمثل أي أمة تاريخها انسلخت عن حضارتها وتمزقت بين جاحد وغافل وجاهل.ومن أجل تحقيق الغاية التي ننشدها لتحصين أبنائنا وذاكرتنا من الضياع، علينا أن نضع الثورة وضعاً ممنهجاً في مقررات الدراسة الابتدائية من الأساسي وحتى الجامعي، لنرى جيلاً تحدث عنه الشاعر الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان (جيلاً رشيداً لا يضل)، جيلاً واعياً بثورته، وحاملاً لمبادئها، ومدافعاً عن أهدافها وحتى نرى جيلاً مثقفاً يحافظ على هوية الثورة الجمهورية والوحدة، وينافح عن منجزاتها وثوابتها، ويقف إجلالاً واحتراماً لشاعر قال في هذا الوطن ما خلق فينا روح الوطنية الصادقة، لصدقة في ما قاله، الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان الفضول - رحمه الله.كما لا بد من الاهتمام بتاريخ الثوار والمناضلين، وإبراز أدوارهم النضالية، ونشر سيرهم العطرة في أوساط المجتمع بكل شرائحه، وإنزالهم منازلهم كرموز وطنية لها ثقلها ومكانتها، حتى تكون شخصياتهم منارات يترسم هداها النشء والشباب.ولا ننسى أن نهتم بقضية جد خطيرة، وهي تاريخ الثورة فحتى هذه اللحظات لا يوجد كتاب واحد شامل كامل - معنى ومبنى - يوثق لأحداث ثورتنا، بل على العكس هناك كتب كثيرة كتبت عن الثورة، وفيها الغث والسمين وامتلأت بالتناقضات الصارخة والعجيبة، إذ القطيعة بينها وبين الحقيقة التي كتبت من أجلها تكاد تطغى على الحقائق التي تسردها، ما قد يدعو القارئ إلى الشك والحيرة، مكوناً ثقافة ملغومة بالأكاذيب والشكوك عن تاريخ ثوراتنا وبالتالي عن تاريخنا.بالطبع ليست هذه كل الإجراءات المطلوب القيام بها لبناء جيل الفضول، لكنها لبنات أساسية في طريق الرشد والهداية. وأتمنى من الله أن يحاول كل منا أن يجيب عن تلك التساؤلات، وأن يعيش ذلك الهم، محملاً نفسه المسؤولية الوطنية كما حملها أولئك الذين رحلوا.مبارك لشعبنا أعياد ثورته المجيدة - سبتمبر وأكتوبر - وهنيئاً لشهدائنا عظمتهم ومجدهم، فلهم الخلود والرحمة، والسلام على الشاعرين: الشاعر بكلماته، الفضول، والشاعر بصوته وأوتاره، الفنان أيوب طارش.الحب والعهد لقائد المسيرة اليمنية الحديثة، وحامل لواء الوحدة والبناء والتحديث، الرئيس علي عبدالله صالح - رئيس الجمهورية - حفظه الله ورعاه.
أخبار متعلقة