نجمي عبدالمجيد ترتقي الشعوب بمكانتها في التاريخ والحضارة، حين تبلغ بآدابها وفنونها ومعارفها العلمية أعلى درجات التقدم، فعلى هذه المرتكزات النهضوية تمتلك مقدرة صناعة فلسفتها الكونية التي تربطها مع معالم ومعارف وقيم الحضارات الأخرى، فهي الامتداد بين ماضٍ صنع مكانته بين عوامل زمانه، وحاضر يستمد منه دروس وعبر وقادم لا نصل إليه الا عندما نكون قد أرسينا الدعائم الموضوعية وأسسنا الهوية لمعرفة ذاتنا في الصلة مع الغير.حسين، ولكنها في الوقت نفسه هي الأزمة فهذا التناحر الذي عصف بأمة التوحيد والفرق والمذاهب المتصارعة وثنائية الانقسام وتوضيف الآداب والفنون بل والدين في خدمة كل هذا، جعله يدرك أن التاريخ أصعب من أن تستحوذ عليه طائفة أو مذهبية أو عقيدة أو فردية تسعى لجعل رؤيتها هي الأوحد في نشر الأحكام وتوجيه الأمور.إن الفردية وإن تمسكت بمنهج الصواب فهي لا تقدر على حرف مسار التاريخ الذي يسعى لوضع مكوناته حسب فلسفته الكونية، فالهوى النفسي لا يوجد مقدرة الصناعة التاريخية بقدر ما يوجد التصورات والأحلام في جعل المتخيل جزءاً من الحياة.وعندما يسقط العقل في دائرة فرض التخيل وعند جعله هو الحل دون قراءة لمسار التاريخ تشل القدرة على إنتاج المعارف ويصبح ما ينتجه العقل هو الأهواء والانجرار بعد المصالح الذاتية التي تلبس ثوب القداسة على مشروعها سواء كان سياسياً أو مذهبياً، لأن في هذا الوقت يصبح التاريخ في نظرها هو السلطة الحكم والمذهب الأول في فكرها طرد الآخر أو وضعه في سجون التكفير والردة والتطاول على المقدسات، فهذا الصنف من العقليات هو من جعل من المقدس أيديولوجية سياسية، فكان الانفجار والتصارع الذي قاد الحضارة الإسلامية إلى الحتمية التاريخية (السقوط وغياب مكانتها).لقد وجد طه حسين في تاريخ الآداب الإسلامية والعربية منها صوراً لما مر بهذه الحضارة من أطوار عبر حقب أزمانها، فقد وجد في شعر المتنبي حالة الأزمة النفسية التي تعصف بالتاريخ فهذا القلق والترقب والخوف والمطاردة وتحدي الأقدار ومشاهدة مجد أمة وحضارة انتماء وهي تتهاوى وزوال دولتها ومحاصرة الأعداء لها، كل هذا جعل هذه العقلية الجبارة والشعرية الخالدة في تاريخ العرب صورة لهذا العصر العباسي الذي كان يسير في طريق الأفول، فهذا الشاعر هو صرخة العصر وصوت الرفض وجرس الإنذار مما هو قادم إليكم يا عرب.لقد ضرب الشلل جسد هذه الأمة وأحرقت الأمراض والعلل نفسيتها فالعصر هو زمن الفاجعة فكيف لشاعر مهما ملك من براعة الكلمة أن ينقذ هذا التاريخ من الخراب؟ .لقد كان المتنبي شاعراً أكبر من عصره، غير أن هذه المكانة لم تشفع له وسقط قتيلاً وهو يحمل سيفه، لكنه ظل في سجل التاريخ مرحلة من ازمة حضارة العرب وروحها المعبرة عن الإخفاق الذي يضرب التاريخ ويسقط الحضارة، إنه شاعر النفسية الحضارية والشاهد التاريخي على ضياع مجد العرب.إن الوقوف أمام منعطفات التاريخ في أدب طه حسين يأتي في لحظات تأمل يرى فيها العقل الأسباب والعوامل التي تنقل الأمم والحضارات من وضعية إلى أخرى وكيف تتساير في ذلك آدابها وفنونها، بل حتى لغتها التي هي مرآة فكرها وهويتها الإنسانية، فهو يرى بها الكيان الحاوي لكل خصائص وجودها وجغرافيتها النفسية وحالات تشكلها الوجداني، واللغة هي من يحفظ هوية الأمة في انتسابها التاريخي لنوع معين من الحضارة والحقب الزمنية الخالقة لهذه المفردات المعرفية. كان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين من العقليات الفكرية والحضارية في المشرق التي أدركت مدى أهمية الاتصال العلمي مع حضارة الغرب في العصر الحديث ولم يأت هذا الاتجاه لديه من رغبة ذاتية فقط، بل من رؤية عالمية لانتقال ريادة التاريخ والفكر من الشرق إلى الغرب، فكانت آداب وفنون وفلسفة حضارة الغرب هي المنطلق التي تسيدت في هذا العصر على قيادة العالم وأصبحت معارفها مسارات في طريق الحاضر.غير أنه استبصر البعد التاريخي لهذه الحضارة في عمق ماضيها، فمن بلد اليونان والرومان وعلوم حقبها الماضية أمتدت معانيها إلى دورة التاريخ المعاصر، مروراً بإنتاج حضارة الإسلام وعلوم زمانه، فالحضارات حلقات اتصال لأنها تنصب في كونية الإنسان الخالدة في ذاكرة الأزمان.فقدم من الترجمة والقراءات النقدية والأحاديث عن الآداب الغربية العديد من المؤلفات المنطلقة من تجاور المعارف في الحضارة الإنسانية فكما نذهب في هويتنا نحو الماضي من تراثنا، لذلك لا يمكن أن نسقط حاضر ومكانة الحضارة الغربية بما تقدم للعالم من علوم وفنون وآداب تعد الزاد المعرفي الذي يدفع بنا نحو الارتقاء والتطور والآداب هي الصور المعبرة عن كيان ونفسية الغرب، فمن خلال ما ينتج من شعر وقصة ورواية ومسرح وفنون أخرى، نجد ما يرفد العقل والروح ويذهب بهما لمعرفة هذا الجانب من عالم اليوم ومسيرة الشعوب، ويقول الكاتب الفرنسي الدكتور ريمون فرنسيس عن علاقة طه حسين بالأدب الفرنسي:“إن هذا الموضوع من الاتساع بحيث لا يمكننا أن نقصره، بلا أسف على مقالة تقع في بضع صفحات. وأني لأسعد لو أن هذه الصفحات اوحت على الأقل، إلى طالب ماجستير أو دكتوراه بفكرة تكريس جهوده لدراسة موضوع قد يهم علماء الاجتماع ومؤرخي الحضارة أو يتعدى إطار الأدب المقارن بمعنى الكلمة .. سيأخذ طه حسين إذ ذاك بلا أدنى شك مكانة بين كبار كتاب العالم الذين - نظراً لتمكنهم من لغة أجنبية إلى جانب لغتهم الأصلية - عرفوا كيف يعودون مواطنيهم على ذخائر ثقافة وفكر لم يكن هؤلاء المواطنون ليكتشفوها بدونهم .”عملية نقل الأدب الفرنسي إلى العربية في مجهود الدكتور طه حسين، ليست هي إعادة صياغة لنصوص أدبية، بل هي إعادة تشكيل للعقل العربي في إطار الاتصال مع الآخر.إن قراءة آداب الغير ومعرفة فكرهم هي عملية دخول إلى تاريخ وعقلية هذه الشعوب وتحديد هويتها من معارف العالم ومن هنا كانت لمعارفه في هذا الجانب الدور الأكبر في تطور مسارات قراءة النصوص الأدبية وترجمتها ونقد عناصرها وإبراز عوامل ترابطها مع أحداث العالم المعاصر وفي هذا رؤية لمقدرة الأدب على الاتصال الإنسان وبالذات ما ظهر منه بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا وما عانته شعوبها من ويلات تلك الحرب التي أعادت صياغة الكثير من أفكارها وفلسفتها وفنونها وعلومها.يظل ما تركه لنا عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في هذا المجال مرحلة انتقال للعقل العربي من عصور سقوط الحضارة وتراجع صناعة التاريخ إلى بداية محاولة الثقافة العربية لفتح معابر نحو أفق الاتصال مع العالم المتحضر.والقيمة الحضارية لأفكار طه حسين تكمن في أنها تجاوزت ما فرض على العقل العربي من حدود لا يمكن تخطيها وتحويل الإنتاج المعرفي إلى مقدس، لذلك كانت أعماله عملية رفض لتلك القداسة لما هو تاريخي متصل بوعي الإنسان، وتعامل مع المعرفة من مستوى ما تقدمه من معارف قابلة للنقد والحوار فالتاريخ لا يصبح مجرد صنم بل هو وقائع تراكمها الأحداث وأفكار تتصارع فيها العقليات وتسخر السياسية والأديان والعقائد في خدمة كل فترة من سيادة الحكم.وسوف يظل الدكتور طه حسين كظاهرة تاريخية محط حوارات ونقاشات على مدار عقود مقبلة، وسوف تكشف الأجيال في أعماله الفكرية والأدبية عدة مواضيع لا تفقد منزلتها مع تقادم الزمن مادام العقل الإنساني يبحث عن منافذ للعلم وإرتقاء للحضارة ومادامت الآداب والفنون الروح السائرة في كيان التاريخ وجسور تربط بين الأمم والحضارات ذلك ما يكتب لفكر طه حسين الخلود في التاريخ الحضاري وقادة العقول المستنيرة.