الكل يتحدث عن ضرورة حرية التعبير وكأن الكاتب لا يمكنه أن يقول شيئاً أو أن ينفس عن جوارحه وهمومه إلا متى ما منح الحرية في التعبير عن ذلك من دون أن يحد حدوده أو يكبل قيوده .والحقيقة أن الكاتب لا بد أن يدفع ضريبة عقلانية لأفكاره وهذا الثمن الذي يمكن أن يدفعه هو ألا يتجاوز في ممارسة حريته في السلوك والتعبير حدوداً معينة ، إن لم يقيد بها نفسه ، فرضها عليه المجتمع فرضاً ، وألا يحاول أن يعتقد اعتقاداً يخالف عقائد أمته وعشيرته ، أو أن يعبر عن آراء مخالفة لآرائها، ولكن على الكاتب أن يعرف شرط الموازنة بين الطموح والمتاح في التعبير عن رغبات التغيير وحدود الاختلاف ، ومراعاة شروط الواقع والتنبه إلى خطر الإطلاق في هذا الأمر.وعلى الكاتب أن يميز بين حق التعبير عن الرأي ، وحق توجيه السب والقذف و التهكم على قيم الأمة الأخلاقية والروحية و المجتمعية أيضاً ومسؤولية المثقف هي القدرة على التمييز بين هذا وذاك . وهذا التوازن بين مقتضيات الحرية وواجبات الالتزام ، وهو ما يمكن التعبير عنه بالمقولة المختصرة : لا تفريط ولا إفراط لا تفريط في شرط الحرية اللازمة لكل نهوض ، ولا إفراط في إراقة هذه الحرية لحد الصدام مع المجتمع وتقاليده ، ويغدو الهدم غاية بلا أفق للبناء.لقد كان إسحاق نيوتن صاحب إيمان قوي بالله ، ولم يجعله هذا يلجأ في إثبات تظرياته العملية إلى أساليب تتعارض مع العلم ، في حين كان ستالين غير المؤمن يسمح لنفسه بتزييف التاريخ لإعلاء شأن نظريته التي كان يعتقد أنها علمية ، إضافة لعدائه الدموي تجاه مخالفيه في الرأي.كانت الأديان السماوية عند ظهورها حركات تنويرية من الطراز الأول عند ظهورها وحتى ديمومتها نماذج عليا للتنوير الديني والدنيوي على السواء وكانت الدعوة إلى أفكار التنوير في أوروبا تجري بلا قيد أو شرط ، وأرد التنويريون العرب أن يحدث ذلك عندنا أيضاً وهنا مكمن الخلل الذي تفرعت عنه إساءات بالغة لقضية التنوير نفسها.لقد أدت عملية النقل دون مراعاة تراث وتقاليد الواقع العربي إلى نوع من الصدام مع هذا الواقع ، والصدمة لكثير من أبنائه فالتنويريون العرب عادوا الدين أو استهانوا به بينما لم يكن هذا ضرورياً بالمرة لتنويرنا نحن ، وتقدمنا السياسي أو العلمي وقد قال الشيخ رفاعة الطهطاوي من رواد حركة النهضة : (نريد أمة عربية نبنيها نحن بالحرية والعلم والمصنع). كما تبنوا مبادئ الفردية العربية كمعيار لقياس الرفاهية، بينما لم يكن هذا بدوره ملائما للواقع العربي المتجذرة فيه قيم العائلة والقبيلة. وكان أجدى للتنويريين الرواد أن يمزجوا حماسهم للتنوير الغربي بشيء من مراعاة الملاءمة لتنوير منبثق من واقعنا الروحي والمادي ، حيث تتحول دعاوي الحرية إلى دعايات للانفلات، وتتشوه نداءات المساواة بالتعميمات المخلة التي تطيح بحقيقة وطبيعة الاختلافات والتمايزات التي هي من نسيج الحياة، وتلتوي رايات التحديث، فتتحول إلى إشارات طريق نحو الغريب وغير الملائم لواقعنا وجوهر طموحنا النهضوي. خلاصة القول ، إن حرية التعبير ضرورة لابد منها للكاتب التنويري وهي قضية لا خلاف عليها ، شريطة أن تكون حرية الكلمة نسبية، فليس هناك من حرية للإنسان أو الكاتب مباحة من دون أن تقيدها قيود معينة تقتضيها مصلحة الوطن وأمنه العام وسلمه الاجتماعي، وعدم المساس بكرامة الإنسان والحط من قدره والتشهير به كيفما اتفق تحت اسم حرية التعبير، وتقليد الغرب بما لا يليق بتقاليدنا وعاداتنا وبواقع المجتمع العربي، فالكلمة الطيبة صدقة ، وإن أحسنت التعبير عنها قبلها منك المتلقي بطيب خاطر ، ورفعت صاحبها إلى العلا ، أما إذا شذت عن الطريق القويم ، فإنها أي الكلمة - تسقط صاحبها إلى الحضيض. ولهذا تظل حرية التعبير نسبية ، ومقيدة بحدود في إطار القوانين النافذة، حتى لايتجاوزها الكاتب إلى الإساءة إلى الآخرين والوطن والمصالحة العامة والسلم الاجتماعي ، وقد قال العرب قديماً : رداءة الكلمة من رداءة العقل ، والإنسان مخبوء تحت لسانه.
أخبار متعلقة