قصة
لم يكد يتجاوز باب الدار ليدخل، حين لاقته.. ليحتضنها بلهفة، وكانت هي من اللهفة أكثر فلم تدعه يتم دخوله.ترك لنشوة فرحه أن تتبدى، وتركت لدموعها العنان.. لكنها تحسها دموعاً ذات طعم آخر. تلك التي أحس بها تلامس وجهه..تقبله.. تعود لتتطلع إليه.. كأنما لا تصدق، تسابق اللحظات لتملأ عينيها من وجهه، بنظرات متأملة فاحصة.. هل تغير؟ أو ازداد نحافة؟ كان لحظتها لا زال يسأل نفسه ( لماذا يضربون المرافع* ؟ أتراهم يدقونها فرحا بعودتي؟!)ترك سؤاله جانباً ..وبساتين خضرة تتبدى لعينيه إذ يلوح وجه أمه أخيرا ونفس نظراتها الملهوفة التي ودعته بها قبل سنة وشهور سبعة وأسبوعهو الفرح إذا استفاق بالقلب يمسح غبار الأنواء ويلم أشتات البعاد. فبالأمس وعند الأصيل، حين أخذت قدامه تضرب رصيف ميناء جيبوتي وهو يغادر.. استسلم لأجنحة الشوق والحنين المرفرفة بأجواء قلبه.. ولأمه بعد هذا الغياب المحرقللقرية.. أرضها .. شعابها. سمائها .. أحجارها.. أشجارها.رغم ذلك الشعور المجهول الذي يأبى إلا التسرب من مكان ما.. ليزاحم هذا الفرح بأعماقه.. نقطة ضيق وقلق دون كنهٍ تتمدد كقطرة حبر بماء صاف داخل أناء !!وتراءى له الرصيف يبتعد رويدًا رويدا فتساءل دون اهتمام إن كان سيعود يوما لهذا المكان؟ قبل أن ينفض تساؤله مع هزة رأسه، كأنما يتصور أن الغربة بشقائها غدت شيئًا لا يتمنى العودة إليه.ولم لا!؟ .. والمستقبل السعيد الماثل كحلم أمامه عينيه يؤكد خاطره هذا أكثر. وراح يشاغل عينيه بما يخلفه القارب الذي يركبه مع أناس لا يعرفهم.. يتابع آثار الشق المائي الذي سرعان ما يتلاشى ليبدأ من جديد.. ربما أن آلام الغربة وتعب لياليها وذلك الهم الذي زحم صدره مع كل إشراق ومغيب..كل هذا يتلاشى كآثار الماء هذه.. هل انتهت المتاعب حقًا؟وحلمه. هل شارف أن يصير حقيقة؟،آه.. كم تتعب الأحلام هذه الأيام؟! وعلى مشارف القرية، وجد عينيه تتجهان إلى ما وراء التبة.. حيث بيتها.. (ياسمين ).. زهرة ووردة قلبهيستشفه ليرسل تحية عودته،كيف!؟ كيف ينسى وهي سر الأمر كله ومدعاة الاغتراب والعناء؟.. العناء الذي ينتهي اليوم.. أو هكذا ظن. [c1] *** [/c]أن تجري الأيام لترسم أقدارنا..تفتح برعمه ليجدها، فكان وكانت، ورغم أنها لم تصرح له يوما بما تكتنفه خلجاتها، لكنه كأن يحس بهذا كما يحس أن قلبه ينبض بجنبه.وكان أن بلغ مرحلة السؤال(أيمكنه العيش بدونها؟) كان أبوه ريفيا بسيطا وهبه قطرات حكمه أخذها من السنين التي عجنته (أقصر طريق لنيل ما تريد أن تحاول؟ وتحاول وتسعى للوصول إليه)وتقدم لها خاطبا.. لم يدرك أن المال أكبر عائق ومحطم للأحلام مثلما أدرك هذا يومها.وكان لحكاية المحب الذي يرحل طلبا للمهر بطل جديد..“وقيس” جديد؟! ــ .................؟-هذا القرار الأخير .. لم يعد هناك حل آخر .ــ لكنه صعب على الجميع؟! - سأذهب .. أكافح.. و ..-وهل سينتظرونك!؟ -لقد وعدني وأنا أثق به، ثم أنها هي من تهمني. -إنه مجرد وعد، ومشاعر قد تتغير! -لا .. لا هذا القرار الأخير. [c1] *** [/c]أخذ يلتفت متطلعا إلى جدران الغرفة والدار الذي يحمل بصماته وذكرياته ومن وراء غلاف الشحوب يطل فرح فقيد في ثنايا وجهه..يحس أن الغرفة يزداد نورها، وتحس بقلب الأم داخلها - أن شيئًا منها عاد فجأة كما راح، ولم يحل الصمت دون أن تتحدث العيون والجوانح، وامتزج الفرح مع بقايا عتب،ها هي أوقات العناء. ورؤوس الهموم تتحطم على صخرة العودة واللقاء، وكأنما ليتأكد أكثر يهمس لنفسه “نعم عدت رغم كل شيء عدت، كنت أعلم أني سأعود”. قدمت له أمه فنجان الشاي الساخن وعيناها لا تفارقان وجهه، لذع الشاي الساخن شديد السواد شفتيه قذفه لجوفه بسرعة ليتجنب حرارته، كاد يشرق به، وبوجهه أحس انتفاخا وحرارة. وداخلها تصارعت مشاعرها الحنونة مع مشاعر خوف متوجس، طفت على صفحة عينيها..“يا للقدر ولعبته.. أن يعود الآن، وهذا اليوم فقط والآن فقط، متى يحل بالصدر فرح صاف؟” كفرح عودته الذي تحاول أن تغالب به حمم العذاب في الصدر..العذاب لأجله، تعلم أنها ستقول.. حتما ستخبره.. لكن كيف؟ وبأي شكل. وبأي لسان ؟تعالى صوت (المرافع/الطبول) غير بعيد، استرقت نظرة لوجهه وقلبها يخفق وجلاً تمنت لو لم تسمع هذه الأصوات، أن لا يسمعها هو بالذات، خطر لها خاطر غريب.. لو كان أصم؟ تعوذت من خاطرها بسرعة،لقد تمنت ذلك لأجله !!اليقين بأن سؤالاً قادم لا ريب.. فكيف تخبره؟!كان لحظتها يقول لنفسه..( لماذا يضربون المرافع؟ أتراهم يدقونها فرحا بعودتي؟!)تزم شفتيها والزوابع تشتد. تتلاطم من الرأس حتى الحشاشة، عاشت وقتاً طويلاً تفكر محتارة بهذه اللحظة..لا تخشى الإجابة بقدر ما تخشى ما سيحدث له وبه بعدها، لكنها العاصفات لا تخبر أحداً أنها آتية. كل هذا البعد، العذاب لأجل تحقيق الحلم.. ثم ها هو يعود ليلقى حلمه متحجر العينين يلفظ أنفاسه الأخيرة لماذا؟ لماذا أيها القدر؟؟ وكانت تعلم أو تتنبأ بما هو آت!هو ولدها الوحيد، نتاج ما عانته بعد رحلة والد الأبدية..تعرف طيبة قلبه وشهامته ورقته التي يخفيها بستار من العصبية لكن .. ؟ ــ أي لسان يطاوعها لتقول له أن (زهرة الحلم).. حياته التي تعرف كما يحبها .. (ياسمين) تتزوج اليوم، وأن أصوات المرافع التي يسمعها الآن هي أصوات وليمتها.. عرسها.. وممن ستتزوج؟ من صادق ابن الشيخ علي شيخ القرية، بأي طريقة ستقنعه أن زواجها هذا تضحية منها لتحمي والدها..الخلاف بين أبيها والشيخ يتصاعد.. بدأ بخلاف على أرض وأموال يدعي الشيخ أنها له على الرجل.. محاكم.. نيابة.. وإظهار الشيخ أوراقاً تؤكد حقه،، و..(إما أن تدفع أو السجن)..ولم يكن أمام أبيها سوى خيار السجن.. لولا. لولا أن جاء مساءً (صادق) وطرح عرضه أن يتنازل أبوه عن كل شيء مقابل (زهرته)..أن يتزوجها وعرض الأب ما جد عليها، وهو متوقع رفضها ويحترم هذا الرفض.ورفضت بشدة في البداية فقط.. لكنها حين رأت حال ابيها وصمته جاءت بنفسها -بعد يومين-إليها،زارتها للمرة الأخيرة لتشرح لها من بين دمعها كل شيء.. وقبلت الزواج بـ “صادق”.. والبيع لدينا العذاب. ولم تكره النقود مثل ما فعلت يومها ولم تتألم مثلما تألمت لإنكسار حلم عزيزها وغربته عما يحدث،ثم ها هو يعود اليوم لا يعلم شيئًا من هذا كله، وكل مايعتقده هو أنها بانتظاره.. الأحلام بانتظاره..الأماني بانتظاره!!لا يدري أن العهود ماتت قُتلت.. ذبحتها الفلوس!! وصلت هذا الحد من حديثها لنفسها فطفرت الدموع من عينيها، رغماً عنها، انتبه أنها تبكي وبحرقة ؟!سألها ملهوفًا عن السبب، غالطته أنها دموع الفرح لعودته وعبر نفسها سؤال: (كم اشتغالطي نفسك)؟!!! وعاد يسألها وهو يبتسم كأنما ليسري عنها. -لم تخبريني يا أمي عن أصوات المرافع هذه، وليمة من؟ من من الشباب سيتزوج؟ وقفت فجأة كأنها تريد الهروب،اضطربت.الكلمات على شفتيها، عجزت أن تواجه عينيه..سقطت جالسة ودموعها تسطر معها معاني الضياع.. هل للمرارة من طعم جديد؟مرت من أمام عيونه دون إرادة صور لتلك البقايا من الأشياء التي تركها دون ضياع وكان لابد أن تقول.. كيف؟ كل ما تعلمه أنها بكت كثيرا وهي تخبره، كأنما دموعها تبرر وتعتذر. ما حدث داخله حينها كان يشبه توابع الزلزال.. أين موقعه من الزمان؟ أفاقت على كلمة “لا” كبيرة تفجرها شفتاهإنهم يسرقون حلمه.. فرحة ماضيه وحاضره ومستقبله!!تفجر غضبه وحنقه وألمه على هيئة لكمة وجهها للجدار بجانبه وركن رأسه على ذراعه الملصقة على الجدار ..ولم يستطع كتم ما احتشد بعينيه “هل يترك لصوص الفرح يسلبونه الحلم الأكبر ؟؟؟.. لا .. لا.. لا!” رفعت له رأسها وهو ينطقها، ورأته يحدق بسهوم في الجدار المقابل، عيناه معلقتان ببندقية والده القديمة المعلقة هناك لم تمس منذ زمن بعيد، حاجباه المعقودان يعلنان رغبته المشتعلة في أن ينتزعها، حولّ رغبته لفعل، انطلق.. انتزعها بسرعة وبسرعة كذلك قفز بخطواته نحو الباب، يجري. ... جرت خلفه وعيناها الجزعتان تعلنان إدراكها لما ينتويه..نادت عليه بصوتها.. صرخت أكثر .. ضاع نداؤها وهو يبتعدغاب في طريق المنحدر أسفل الدار.. تفجرت لوعتها.. جزعها.. حبها.. لهفتها.. وهي تشاهده يتجه نحو مكان العرس تفجر كل هذا بصرخة واحدة طويلة أمسكت بعدها صدرها فجأة وأحست بشيء يخنق أنفاسها قبل أن تسقط في هوة عميقة أكثر..وأكثر.. وأكثر.[c1] *** [/c]وصل للمكان.. محمراً وجهه كعينيه اللتين تدوران في الوجوه.. عينا محموم، أو مصدوم.!عند منصة العرس كان العروسان واقفين في طقوس الزفة الأخيرة..صادق يقف مبتهجاً ومنتشيا، زهرة بجانبه في ثوب الفرح “ألم تكن سترتدي هذا الفستان له هو؟!”سأل نفسه بمرارة.كان رأسها مطأطأ كالكسيرة، وغاب شعوره إلا من دماء تفور برأسه وصدره، اصطبغت الرؤيا بلون أحمر باهت كلون غروب.. كشمس طعنتها خناجر الجبال وهي تغرب .وهنا بلغت عاصفته مداها ،(سيسرق منه حياته كما سرق منه حياته وحلمه )..ولم يحس إلا ويداه ترتفعان بالبندقية نحو صدر العريس، وأصبعه تضغط على الزناد.صوت الطلق الناري يدوي، صرخة ألم كبيرة تلتها شهقة تعرفه بصوت من كانت كل مشاعره ، هرج ومرج يسودان المكان..ورأت عيناه المتسعتان بذهول الجمع يتفرق، ورأى صادق يبتعد هاربا سالما وخلفه أبوهو.. رآها. .. أحس بدمعه ينفر من عينيه كشرارات ضوء .. دمعات ضوء مقهور حتى الصميم .. كانت ياسمين قد سقطت أرضا وهي تمسك صدرها وتشهق بألم ،وبقعة حمراء قانية تلوث فستانها الأبيض،وأخذ ينظر مذهولاً بتراتب ...مرة إليها غير مصدق ومرة ينظر ليديه بمقت ..وأخذت شهقات الـ( ياسمين) تخفت وراحت بقعة الدم تحتها تنتشر.. وتنتشر..وتنتشر. المقارمة 2002م