أضواء
الحراك الثقافي الخلاّق هو المحرك الأبرز لتطور ثقافات المجتمعات. ومن المعروف أن المجتمع السعودي بقي لفترة طويلة خارج هذا الحراك، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات أحياناً، إلا أن الحراك الثقافي آنذاك ليس كما هو اليوم بطبيعة الحال. فالفترة الممتدة من بداية الثمانينيات حتى أواخر التسعينيات تقريباً، ربما تعتبر الزمن الذهبي لما يسمى بـ “الصحوة الإسلامية”، مما جعل المجتمع السعودي أسير الفكر الإسلاموي المتشدد، الذي كان المسيطر الأبرز على عقول الناس وأفئدتهم.ويمكن الربط بين فكر الصحوة وبين حادثتين مهمتين أثّرتا مباشرة في المجتمع السعودي, الأولى: حركة الإسلاموي المتشدد جهيمان المتزامنة مع الثورة الخمينية، حيث أسفرت عام 1979 عن احتلال الحرم المكي بطريقة درامية انتهى أمرها بإعدام قائدها ومساعديه, لكن الغريب في الأمر أنه رغم إعدام جهيمان وانتهاء حركته، نُفذت مطالبه الاجتماعية وإنْ بطريقة غير مباشره، حيث انتكس المجتمع بحركة سكونية إلى ظلام ثقافي شمل كل شيء تقريباً.فقد أغلقت أماكن العرض السينمائي الموجودة في معظم مناطق المملكة، وألغيت الحفلات الغنائية التي تظهر فيها النساء في التلفزيون السعودي، كحفلات السيدة أم كلثوم، وإنْ بقيت بعض المتفرقات من الأفلام السينمائية والعروض المسرحية. أما ما يتعلق بالصحافة والمناشط الثقافية فقد كانت معظم أعمالها تحت سيطرة مؤدلجة، حيث ظهرت الطروحات الأيديولوجية من خلال معظم وسائل الإعلام، ومنها الصحافة التي يمكنني القول إنها تحولت في ذلك الوقت إلى صحافة دعوية، كما شهدنا تأسيس عدد من الصحف والمجلات التي تعنى بالفكر الديني، ولم يكن ثمة خيار آخر أمام المجتمع، إلا الانخراط في هذا النشاط، ولا سيما وسط انتشار موجة “الشريط الإسلامي” في كل الأرجاء، التي أسست لفكر جديد انتشر بين أوساط الشباب، فكل من أراد أن يتطهر من رجس مشاغبات الماضي عليه فقط أن يطلق لحيته ويرفع ملابسه، ليحظى بالاهتمام الاجتماعي مباشرة.وهنا لا بد أن يوجد هنالك من يمتطي صهوة الدين لأجل تحقيق مآرب أخرى، وهذا ما فتح الباب على مصراعيه للمتزلفين والمتسلقين عبر سلّم الدين للوصول إلى غاياتهم النفعية، سواء كانوا من المواطنين أو الوافدين. وللتعليم دور كبير في تكريس الفكر الصحوي هذا، فمعظم الأنشطة المتعلقة بالتعليم كانت - وما زالت - ترزح تحت وطأة التشدد. أما المكتبات ومعارض الكتاب، فقد شهدت طفرة كبيرة وزيادة عن الحاجة فيما يتعلق بكتب الفقه والعقيدة والجهاد، وهذا ما يقودنا إلى الحادثة الثانية المشار إليها وهي: الحرب في أفغانستان. حيث حظيت الحرب الأمريكية - السوفيتية في أفغانستان بدعم معنوي ومادي كبير من قبل الدول العربية، فقد أُخضعت جميع الإمكانات لدحر الخطر الأحمر، فانتشر فكر الجهاد منتجاً ظاهرة “الأفغان العرب”، التي انقلبت بعد ذلك لتؤسس لخطر إسلامي جديد، وهو ما سمي بـ “الإرهاب”. وفي ظل هاتين الحادثتين الممتدتين لزمن طويل، كانت الضحية الأولى هي جيل الشباب؛ إذ لم تتح الفرصة لشيء يحتويهم أكثر من (الدين) الذي يعتبر المؤثر الأول حتى الآن في العالم الإسلامي. وعلى الرغم من أن الدين نفسه جزء من ثقافة المجتمع، إلا أن الفكر الديني طغى على أجزاء الثقافة الأخرى، ليصبح كل ساكن يحرَّك باسم الدين، وكل متحرك يتوقف باسم الدين أيضاً! وهذا لا يعني أن معضلة المجتمعات الإسلامية هي الدين ذاته، إنما المعضلة تكمن في توظيف الدين للسيطرة على المجتمع، وهذا ما خلق حالة خاصة أبعدت المجتمع عن جوهر الدين، الذي يتمحور حول علاقة الإنسان بربّه، إلى المظهر المعتمد على القشور الخارجية، بمعنى أنه لكي تكون متديناً يجب أن تكون متطرفاً! لقد أعاق هذا التوظيف الحراك الثقافي لأكثر من عشرين عاماً، في وقت يفترض فيه أن يسهم الأفراد في مختلف الأعمال لأجل إصلاح ثقافتهم ومجتمعهم وبالتالي وطنهم، إلا أن التاريخ الإسلامي يشير إلى فاعلية سلطة الفقيه (الداعية)، وقدرته على تحريك الرأي العام في المجتمعات الإسلامية مثلما تحرك الدمى؛ وذلك لسبب بسيط، هو أن الفقيه أو الداعية، حين يخاطب المجتمع لا يخاطبه باسمه أو برأيه، إنما يخاطب الناس باسم الله، باعتباره متحدثاً رسمياً باسم الدين، ويتعمد في لغته الآمرة أن يحث الناس على أخذ آرائه، لا باعتبارها آراء، إنما باعتبارها حقائق مؤكدة ومطلقة. والعقل الفقهي بطبيعته لا يقبل التعدد والاختلاف، ولذلك يقدّم البعض آراءهم على أساس أنها آراء إلهية قطعية؛ ولذلك غالباً ما تؤجج الآراء التي يطلقها الداعية/الفقيه الرأي العام، ولا سيما الشباب المتحمس إلى فعل الخير. فلذلك لا نستغرب أن يتسابق هؤلاء الشباب اليوم إلى محاولة إثارة الفوضى في المناشط والمناسبات الثقافية المختلفة، التي يفترض أن تكون بمثابة طاولة مستديرة للحوار والاختلاف الفكري الإيجابي بعيداً عن إثارة الفوضى وتأليب المجتمع ضد المثقفين ومنهم القائمون على تلك المناشط، من باب إثارة الفتنة لا أكثر. فكل ما على الداعية فعله كخطوة أولى هو “إصدار” رأي ما حول قضية غالباً ما تكون ثقافية، وبطريقة آلية سوف يتم التعامل مع هذا الرأي على أنه فتوى دينية صادرة عن شخص لا يتحدث باسمه ولا عن رأيه الشخصي! حتى لو لم يكن سمع أو رأى، وفي الغالب أنه قيل أو نقل له، وهنا يصبح الأمر أشبه بالكهنوت. إلا أن المجتمع في كل الحالات، يكون مستعداً لتقبل هذه الآراء باعتبارها “الحقيقة” فتسري في المجتمع كسريان النار في الهشيم.هذه الأمور تحدث الآن، في الألفية الثالثة، التي ما زلنا فعلياً خارجها. فرغم قسوة “غزوة منهاتن” إلا أنها كشفت هشاشة الغطاء الأيديولوجي الديني، الذي كان يرتديه البعض منا، فحين وجد من الفقهاء من يؤيّد “الإرهاب” ويدعمه صراحة باسم الدين، ازداد الأمر سوءاً، حتى انعكست مسيرة العمليات الانتحارية من الخارج إلى الداخل، مما جعلنا والوطن في خطر. وحين هدأت الأزمة اليوم، وأحكمت الجهات الأمنية قبضتها على زمام الأمور، وبعد أن انكشف زيف تلك العمليات ودعاوى أصحابها، وجد لدينا الآن من يمارس الإرهاب ضد الثقافة والمثقفين، منطلقاً من النقطة نفسها، رغم أن بعض رموز الصحوة تراجعوا عن آرائهم السابقة، وأصبحوا أعضاء إيجابيين في المجتمع، إلا أن المجتمع لم يتقبل منهم ذلك، إنما يريدهم على صورتهم الأولى؛ مما أفسح المجال للمتشددين من ممارسي الإرهاب الثقافي أن يلجوا من باب عاطفة المجتمع... وهذا يعني أننا لم نستفد كثيراً من دروس التاريخ! [c1]* جريدة “الوطن” السعودية[/c]