عدن قديمآ
محمد زكريابعث الكابتن هينس قائد الحملة الإنجليزية على عدن في التاسع عشر من يناير سنة 1839ميلادية رسالة إلى أعظم ملوك إنجلترا قاطبة الملكة فيكتوريا الثانية حينئذ بعد أنّ وقعت المدينة في قبضته بأيام قليلة ، قائلاً بما معناه : “ لقد تمكنا من أخذ عدن عنوة والتي تمثل جوهرة فريدة في تاج إنجلترا “ . وتلك الرسالة تعني أنّ عدن الواقعة في البحر العربي والمتحكمة في مدخل جنوب البحر الأحمر والواقعة على الطريق البحري التجاري بين الهند وإنجلترا مثلت للأخيرة أهمية كبيرة , وتطورت أهمية عدن لدى العسكريين الإنجليز تدريجياً . فقد كان في بداية تفكيرهم أنّ عدن مستودع لتخزين الفحم ، وبعد فترة ليست طويلة وجدوا أنّ المدينة بموقعها المهم تمثل استراتيجية عسكرية فهي نقطة مراقبة ، وتجمع ، وانطلاق . ولم يمض وقت طويل حتى باتت عدن ذا موقع تجاري نظراً لمينائها الذي يمثل همزة الوصل بين الشرق والغرب. وهذا ما دفع بالحكومة الإنجليزية سنة 1853 أنّ تجعل عدن ميناءاً حراً . وما زاد من أهميتها أفتتاح قناة السويس سنة 1869م . [c1]عدن والثقافة الهندية[/c]ومنذ الاحتلال الإنجليزي لعدن سنة 1839م ، وحتى عام 1932م ، كانت عدن تحت حكومة الهندية المركزية أو إدارة بومباي .وكانت الجالية الهندية لها نفوذاً قوي في الحياة الاقتصادية والمالية ، بل أنّ الحياة الاجتماعية لسكان عدن صبغت بالعادات والتقاليد الهندية سواء كان ذلك في الملبس أو في المأكل أو في الموسيقى وما إلى ذلك .وهذا ما دفع بعالم الاجتماع الفرنسي آرثر دي غوبينو ، أنّ يصف مدينة عدن الذي زارها في سنة 1855م ، قائلاً : “في عدن شاهدنا مدينة هندية فوق أراض عربية وسط الصخور “ .وفي نفس السياق تذكر الباحثة شفيقة عبد الله العراسي أنّ النفوذ الهندي تغلغل في كل مفصل من مفاصل مجتمع سكان عدن اليمنيين ، قائلة : “وقد كان للنفوذ البريطاني ـــ الهندي تأثيراً في طمس هوية عدن اليمنية . إذ طغت على المدينة الثقافة الهندية ، فكانت المنشورات والإنذارات الحكومية تكتب بالإنجليزية ووتترجم إلى العربية التي يغلب عليها النحو والصيغة الهندية .وكانت ألاغاني العربية تغنى بموسيقى هندية ، والملابس تلبس بالطريقة الهندية ، .وكان انطباع أي زائر إلى عدن خلال فترة ما بعد الاحتلال حتى هذه الفترة ، إنها مدينة أجنبية يغلب عليها الطابع الهندي في بلد عربي “ .[c1]رسالة إلى حكومة بريطانيا[/c]ولكن حدثت أموراً فرضت نفسها على بريطانيا أنّ تعيد النظر في تحويل تبعية مستعمرة عدن من حكومة الهند المركزية إلى التاج البريطاني أي سلخ المستعمرة عن الهند وبتلك الطريقة تشرف عليها وزارة المستعمرات البريطانية بشكل مباشر.وكان من الطبيعي أنّ يثير ذلك القرار البريطاني حفيظة الهنود على تباين مشاربهم الاجتماعية والثقافية وخصوصاً أصحاب المال والاقتصاد الكبار .فحدث نقاش وجدلً كبير وحاد بين الجالية الهندية وحكومة عدن البريطانية حول قرار بريطانيا بفك الأرتباط بين مستعمرة وحكومة الهند المركزية التي كانت مسيطرة عليها قرابة مائة عام .والحقيقة أنّ الجالية الهندية .كانت تعد أكبر الجاليات الاجنبية في المستعمرة والتي كانت لها اليد الطولى في شؤونها الإدارية ، والمالية ، والعسكرية منذ أنّ وطأت إنجلترا أقدامها في عدن .وقد مكث الهنود في عدن واستقروا فيها وصارت بالنسبة لهم موطنهم الثاني بعد موطنهم الأصلي الهند .والحقيقة أنّ الهنود كانوا يعرفون عدن قبل مجيء الإنجليز لعدن في الماضي البعيد . وهذا ما ذكرته الشخصيات الهندية صاحبة النفوذ الاقتصادي الكبير في عدن ، عندما هاجمت بشدة سياسة بريطانيا بسلخ عدن عن حكومة الهند المركزية والتي حذرت فيها ومن أنّ تحويل تبعية عدن إلى حكومة التاج البريطاني سيكون له عواقب وخيمة على الحياة الاقتصادية وحركة نشاط ميناء المستعمرة بصفة عامة وعلى الجالية الهندية بصفة خاصة . ونستخلص من ذلك أنّ الشخصيات الهندية البارزة في الميدان الاقتصادي والمالي أرادت إرسال رسالة إلى حكومة بريطانيا مفادها : “بأنّ الهند أولى بعدن من وزارة المستعمرات البريطانية نظراً للعلاقات التاريخية البعيدة بينها وبين مستعمرة عدن التي كانت خاضعة لها منذ قرابة مائة سنة “ .[c1]عوامل مختلفة[/c]ويذكر الدكتور محمد عمر الحبشي الأسباب الرئيسية التي دفعت حكومة صاحبة الجلالة بتحويل عدن من حكومة الهند المركزية إلى تبعية التاج البريطاني كالأتي : “ منذ عام 1927 ، وجدت إنجلترا نفسها مدفوعة إلى إعادة النظر في سياستها في اليمن الجنوبي ( عدن ) . وقد ساهمت مجموعة من الاعتبارات المختلفة في إملاء الحاجة إلى هذه الخطوة ، أهمها : ازدياد أهمية الدور الذي تلعبه عدن في المبادلات التجارية للإمبراطورية . ازدياد كثافة الاستثمارات البريطانية للبترول في إيران والعراق . قرب حصول الهند على استقلالها . الأهمية العسكرية والستراتيجية للمنطقة . الاهتمام الذي توليه إيطاليا الفاشستية لليمن ( معاهدة 1926 ) . والحقيقة أنّ بريطانيا منذ أنّ خرجت القوات العثمانية من اليمن بُعيد الحرب العالمية الأولى سنة 1918م . وأعلنت قيام المملكة اليمنية المتوكلية سنة 1923م . كان شغل شاغل ، وهمها الأكبر هو منع توغل ( الإمام ) إلى محميات عدن الغربية والمعروفة بــ ( المحميات التسع ). ويذكر محمد الحبشي في هذا الصدد ، قائلاً : “ . . . رغبة بريطانيا العظمى في مجابهة مطالبة اليمن بأراضيها . وقد كان لهذه العوامل تأثير حاسم في دفع بريطانيا إلى تدعيم سيطرتها ، وإلى إصدار القانون الأساسي كخطوة في هذا السبيل “ . ويضيف ، قائلاً “ فقد قررت (( بريطانيا العظمى )) في الواقع أنّ تعمد إلى تغلغل فعلي وواسع في المنطقة دون أنّ تأبه لنصوص معاهدة السلام والصداقة الإنجليزية ـــ اليمنية عام 1934 . وهكذا وضعت أساس تنظيم سياسي وإداري جديد في عدن “ .[c1]الاستعماري المباشر[/c]“ فقد تحولت عدن إلى مستعمرة للتاج بموجب الأمر الصادر في 28 أيلول 1936 الذي بدأ تطبيقه في أول نيسان من عام 1937م . ومنحت عندئذ النظام العادي والتشريع المعمول به في المستعمرات البريطانية . ومنذ ذلك الحين أصبحت حكومتها من النمط الاستعماري المباشر المقصور على الموظفين من أصل إنجليزي “ . والحقيقة أنّ الباحثة شفيقة العراسي شرحت بالتفصيل بعض تلك النقاط الموجزة الذي ذكرها الدكتور محمد عمر الحبشي حول الأسباب الحقيقية وراء تحويل مستعمرة عدن إلى حكومة التاج البريطاني بعد كانت ردحاً من الزمن خاضعة لحكومة الهند المركزية ( بومباي ) ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . [c1]الهند على أبواب الاستقلال[/c]ذكرت الوثائق البريطانية ـــ وهي وجهة نظر حكومة صاحبة الجلالة ـــ بأنّ الأسباب التي دفعت بريطانيا إلى تحويل تبعية عدن إلى التاج البريطاني بصورة مباشرة هو أنّ سكان عدن العرب ( اليمنيين ) طالبوا بضرورة سلخ عدن عن حكومة الهند المركزية وتحويلها إلى التاج البريطاني . ولكن تلك الوثائق لم توضح جوهر الحقيقة التي دفعت بريطانيا إلى اتخاذ ذلك القرار الخطير والهام في حياة مستعمرة عدن المتمثل ـــ كما قلنا سابقاً ـــ في تحويل تبعية عدن إلى وزارة المستعمرات بشكل مباشر دون المرور إلى حكومة الهند المركزية . وهي أنّ الهند التي شهدت الاضطرابات والقلاقل السياسية من أدناها إلى أقصاها الذي قادها أب الهند الروحي ( مهاتما غاندي ) من أجل نيل استقلال الهند عن الإمبراطورية البريطانية التي احتلتها سنة 1688م ، وتحديداً شبه جزيرة ( بومبي ) وبعدها توغلت إلى الكثير من الولايات الهندية .فقد كان صناع القرار في لندن يدركون تمام الإدراك أنّ الهند قاب قوسين أو أدنى من خروجه من قبضت بريطانيا القوية أي أنه سينال الاستقلال في القريب المنظور . ولذلك سرعان ما بادرت حكومة التاج البريطاني بالتفكير الجاد ، وإخراجه إلى حيز الوجود وهو خضوع مستعمرة عدن بصورة مباشرة وكاملة وشاملة تحت إشراف بريطانيا بدلاً من حكومة الهند المركزية ( بومبي ) . وذكرت بريطانيا أنّ السبب الذي دفعها إلى فك الارتباط بين مستعمرة عدن والهند هو بناء على رغبة سكان عدن العرب . وهذا ما ذكره” “ كنج “ King)) : “ أنّ تحويل تبعية عدن إلى وزارة المستعمرات . كان بناءً على رغبة سكان عدن من العرب “ . وأشار الدكتور جاد طه : “ . . . بأن الأقرب إلى المنطق في تحويل تبعية عدن يعود لما شعرت به بريطانيا بأن حكمها في الهند . كان على وشك الانتهاء ، وأنّ الهند على أبواب الاستقلال “ . [c1]العلاقات الانجلو ــ يمنية[/c]ومنذ رحيل القوات العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى من اليمن والعلاقات الانجلو بين شد وجذب تعيش في حالة من القلق والاضطراب الدائمين بسبب أنّ ( الإمام ) القائم . كان يرفض بشدة تخطيط الحدود التي رسمت بين السلطنة العثمانية وبريطانيا في سنة 1914م . وكان يرى ( الإمام ) أنّ المحميات التسع تدخل في حوزة المملكة اليمنية وأنها جزء لا يتجزأ من اليمن ( الأم ) . وأنّ مملكته ليست ملتزمة باتفاقية الحدود التي وقعت بين كل من السلطنة العثمانية والمملكة المتحدة وذلك بسبب غياب الطرف الثالث صاحب المصلحة الحقيقية في تلك الاتفاقية وهي اليمن . وكان يرى ( الإمام ) أنّ المناطق الداخلية في جنوب اليمن تدخل في إطار ميراث أجداده الأئمة الزيدية وأنها جزء لا يتجزأ من تراب اليمن ( الأم ) ــ كما سبق وأنّ ذكرنا ـــ . وكان من الطبيعي أنّ تتوتر الأجواء السياسية بين الطرفين وتصل إلى حد الصدام العسكري ، ودليل ذلك ما قامت به قوات ( الإمام ) بالسيطرة على الضالع ولكن سرعان ما قام سلاح الجو الملكي بأخذ المبادرة ، وضرب القوات الإمامية مما أجبرها على الإنسحاب منها سنة 1928م . [c1]العلاقات اليمنية الإيطالية[/c]ومما زاد من توتر الأجواء السياسية بين ( الإمام ) وبريطانيا هو علاقة الأول بإيطاليا الذي وقع معها معاهدة سنة 1926م من بنودها تزويد المملكة اليمنية المتوكلية بالأسلحة والذخيرة وتدريب بعض اليمنيين على سلاح الطيران . والحقيقة كان ( الإمام ) في أمس الحاجة إلى تلك الأسلحة بغرض تدعيم سلطته الجديدة على ربوع اليمن والتي مازال البعض منها خارج نطاق نفوذه مثل قبائل الزرانيق في تهامة اليمن . والحقيقة كانت بريطانيا ترقب تحركات إيطاليا بعين الحذر والشك في اليمن بصورة خاصة والبحر الأحمر بصورة عامة والتي كانت لا تريد أنّ تعكر صفوه تدخل الدول الأوربية ومنها إيطاليا . فقد كانت ترى بريطانيا أنّ لإيطاليا أطماعا في منطقة البحر الأحمر . [c1]الأطماع الإيطالية[/c]وعلى الرغم أنّ كلا من إنجلترا وإيطاليا كانتا صديقين وحليفين قبل وإبان الحرب العالمية الأولى ( 1914 ـــ 1918م ) إلاّ أن الأولى كانت ترى الثانية بأنها الصديق المشاغب الذي يجب وقفه عند أطماعه في منطقة البحر الأحمر . وعندما خيمت سحب السياسة الدولية الملبدة بالتوتر والقلق الكبيرين . فقد فعملت بريطانيا على نزع فتيل التوتر بينها وبين إيطاليا من خلال الوسائل الدبلوماسية حتى تقف سداً منيعا لأطماعها في المنطقة . فقد : “ اعتبرت بريطانيا النشاط الإيطالي وتطور العلاقات اليمنية ــ الإيطالية نقطة إنطلاق لأعمال توسعية في المنطقة . وكانت تدرك خطر هذا النشاط على مركز نفوذها في جنوب اليمن في ظل النظام الفاشي . وسعيه لمد نفوذه في مساحات واسعة من منطقة البحر الأحمر لذلك عملت ( بريطانيا ) على الحد منه من خلال تكثيف جهودها السياسية فإلى جانب نشاطها الداخلي لإحكام قبضتها على المنطقة الداخلية ( المحميات ) . سعت في الوقت نفسه لتعديل سياستها مع إيطاليا ومحاولة إجراء مفاوضات معها لتخرج بميثاق في عدم المساس بسيادتها في اليمن الجنوبي “ . ويذكر المؤرخون الغربيون أنّ من الأسباب الرئيسية في اندلاع الحرب العالمية الثانية بين دول المحور ( إيطاليا ــ برلين ـــ طوكيو ) هو الصراع الأيدلوجي بين دول المحور المتزعمة للديكتاتورية وبريطانيا المتزعمة للديمقراطية . والحقيقة أنّ هؤلاء المؤرخين الغربيين نسوا أو تناسوا أنّ الأسباب الحقيقية وراء قيام الحرب العالمية الثانية هو الأطماع الاقتصادية بين تلك الدول سواء دول المحور أو دول الحلفاء ( بريطانيا وفرنسا وغيرهما من حلفائهما . ولذلك رأت بريطانيا أنّ الأوضاع المتوترة بينها وبين المملكة اليمنية بالإضافة إلى أنّ غيوم الحرب العالمية الثانية التي أخذت تتجمع و تخيم على سماء أوربا والذي لا بد أنّ تأثيرها وشظاياها على منطقة البحر الأحمر ، واليمن . فإنه من الضرورة بمكان أنّ تغيير سياستها تجاه مستعمرة عدن وذلك بأن تكون المستعمرة تحت إشرافها المباشر ، ونزعها من حكومة الهند المركزية . [c1]عدن وأهميتها الاقتصادية[/c]ومن الاسباب الرئيسية التي أدت إلى تحويل تبعية مستعمرة عدن من حكومة الهند المركزية ( بومباي ) إلى حكومة بريطانيا بشكل كامل هي أنّ المستعمرة كانت تطل على الطريق التجاري البحري بين الهند والمملكة المتحدة وتمثل الشريان الحيوي للأخيرة ولذلك عمدت على السيطرة على البحر الأحمر والتصدي بحزم أمام من تسول نفسه من الدول الأوربية و مزاحمتها في مياهه مثلما حدث مع إيطاليا . والذي ساعد بريطانيا على أنّ تكون الدولة الأوربية المنفردة والمسيطرة على البحر الأحمر هو أنها كانت تحتل طرفه الشمالي ( مصر ) وطرفه الجنوبي ( عدن ) بالإضافة الىانها كانت تملك أسطولاً ضخماً قوياً وبذلك كانت سيدة البحار دون منازع. والجدير ذكره أنّ مستعمرة عدن كانت تقع في موقع متوسط في تسويق نفط العراق وإيران المسيطرة عليها بريطانيا . وتسويق بعضه إلى المناطق المتاخمة لحدودها أو القريبة منها كشرق أفريقيا . ومرة أخرى نؤكد بأنه طرأ عدة مراحل في تفكير القيادة العسكرية البريطانية حول مستعمرة عدن المرحلة الأولى أنها مستودع لتخزين الفحم ، المرحلة الثانية أنها تتمتع بموقع إستراتيجي عسكري خطير فهي برج مراقبة ، ونقطة تجمع ، وقاعدة إنطلاق ، والمرحلة الثانية ميناء هام يطل على الطريق البحري التجاري بين الهند والمملكة المتحدة .[c1]الجالية الهندية وردود أفعالها[/c]ونظراً للنفوذ الاقتصادي والمالي التي كانت تتمتع به الجالية الهندية وخصوصاً الهنود الفرس في مستعمرة عدن والتي اعتبرتها أنّ المستعمرة وطنها الثاني بعد موطنها الأول الهند . والحقيقة الذي يجب أنّ نفهمه من غضب الجالية الهندية الشديد من قرار تحويل تبعية مستعمرة عدن من حكومة الهند المركزية ( إدارة بومباي ) إلى وزارة حكومة التاج البريطاني . أنّ المستعمرة ظلت تحت سيطرة الهند قرابة قرن من الزمن ــ كما قلنا سابقاً ــ ومن يتتبع تاريخ الجالية أو الطائفة الهندية في عهد الدول اليمنية المركزية كالدولة الصليحية أو الرسولية أو الطاهرية سيلفت نظره كثافة تلك الجالية الهندية في تلك الدول المركزية والذي كان لها نشاطاً واضحاً في مجرى الحياة الاقتصادية بعدن في تلك الفترة التاريخية . والحقيقة أنّ الجالية الهندية كان لها الدور الفعال في الكثير من الشئون المدنية والعسكرية أيضاً في إبان الاحتلال الإنجليز لعدن . فعندما احتل الكابتن ( هينس ) عدن ، كان معه الكثير والكثير جداً من الهنود التي صاحبته معه في الحملة على عدن . وكان لهم دوراً كبيراً وفعالاً سواء في القوات العسكرية أو الإدارية أو الخدمات الصحية كالأطباء وما إلى ذلك . وكان الهنود يرون أنفسهم أنهم في مستعمرة عدن بنفس مستوى البريطانيين من الأهمية ، وأنهم يشعرون بأنهم متفوقون على سكان عدن العرب . وعندما طرحت بريطانيا في سنة 1936م مشروع تحويل تبعية عدن إلى حكومة التاج البريطاني بدلاً من حكومة إدارة بومباي . ثارت ثائرة الجالية الهندية وعلى وجه الخصوص أصحاب النفوذ الاقتصادي والمالي في مستعمرة عدن . [c1]الغزل البريطاني الهندي[/c]والحقيقة أنّ الساسة البريطانيين وأصحاب القرار السياسي في العاصمة البريطانية لندن كانوا مدركين تماماً بأن قرار تحويل مستعمرة عدن من حكومة الهند المركزية إلى حكومة التاج البريطاني مباشرة سيثير ردود أفعال غاضبة من قبل الجالية الهندية وخصوصاً من كبار التجار الهنود الذين كان لهم مركز ثقل اقتصادي ومالي في المستعمرة . وكان من الطبيعي أنّ تطمئن حكومة التاج البريطاني الهنود المقيمون في المستعمرة والتي خدمت صاحب الجلالة بريطانيا العظمى بإخلاص في مختلف نواحي الحياة فيها . ومن أجل ذلك وضعت حكومة بريطانيا عدداً من القوانين والقرارات التي تطمئن الجالية الهندية في المستعمرة بأنّ حقوقها لم تمس من قريب أو بعيد . وفي واقع الأمر ، لقد عبر أحد الساسة الكبار البريطانيين بما معناه : “ بأنّ الذي يحدث بين بريطانيا والهنود في مستعمرة عدن أشبه ما يكون بالغزل السياسي “ . ويضيف ، قائلاً : أنّ حكومة صاحب الجلالة نظرت بعين الرضاء والعطف للجالية الهندية. وأنّ حقوقهم ستظل كما هي محفوظة ولن تمس من قريب أو بعيد في مختلف المواقع الهامة التي يتبوأنها في عدن , وأنهم سيتمتعون بنفس الأمتيازات التي كانت سارية قبل قرار تحويل المستعمرة إلى حكومة التاج البريطاني “ .[c1]عدن و الطائفة الهندية[/c]ومن أهم تلك الحقوق هو المحافظة على مصالح التجار الهنود الكبار في الحياة الاقتصادية الحيوية في عدن . فقد طمأنت حكومة التاج البريطاني الهنود في المستعمرة أنّ المصالح التجارية بين الهند وعدن لن يحدث لها أية تبديل أو تغيير وستظل كما هي حتى بعد دخول المستعمرة تحت معطف حكومة التاج البريطاني. . وذكرت الحكومة بأنّ حكومة الهند المركزية لن تتحمل أية أعباء مالية ، ولن تخصص أموالا من خزانتها إلى مستعمرة عدن . وأكدت الحكومة البريطانية بأنّ العمالة الهندية تحظى بمكانة كبيرة حتى بعد تحويلها إلى تبعية حكومة التاج البريطاني مباشرة . ومن النقاط الهامة التي ذكرتها بريطانيا لطمأنة الجالية الهندية هو عدم إصدار قوانين تشريعية تعمل على تقليل مكانتهم وأمتيازاتهم بين سكان عدن اليمنيين . وأنّ ميناء عدن سيظل ميناءا حراً ولن يتأثر بقرار تبعية عدن إلى حكومة التاج البريطاني . ومن الأمور الهامة التي أكدتها بريطانيا للهنود في المستعمرة أنّ لهم امتياز خاصا عن سكان عدن اليمنيين في مسألة القضايا القانونية وهي أنّ قضايا محاكم الاستئناف ستكون ببومبي . والحقيقة أنّ كل تلك العروض المغرية التي قدمتها بريطانيا للأقلية الهندية فالغرض منها هو تمرير قرارها الخاص بتحويل تبعية عدن إلى حكومة التاج البريطاني وسحب مسئوليتها من حكومة الهند المركزية ( إدارة بومبي ) دون أنّ تواجه عاصفة من الاحتجاجات والاعتراضات من الهنود في المستعمرة . وعلى الرغم من كل تلك الوعود الوردية البريطانية لهم من. فقد كان يواجه انتقادات شديدة من كبار الشخصيات التجارية الهندية في عدن . لأنه ترسخ في أذهان هؤلاء التجار الهنود الكبار بأنّ عدن باتت جزء لا يتجزأ من نسيج الهند وذلك بسبب سيطرتها على المستعمرة نحو مئة عام .[c1]البانيان[/c]ومن أهم الشخصيات الهندية التجارية والمالية والذي كان لها مركز ثقل في حياة المستعمرة الاقتصادية والمالية هو (( قهوجي دنشوى ) Cowasjee Dinshaw الذي تصدى بقوة لقرار تحويل تبعية مستعمرة عدن من حكومة بومبي بالهند إلى حكومة التاج البريطاني والذي حذر حكومة عدن البريطانية من آثار ذلك القرار الخطير على حركة و نشاط التجارة والحياة الاقتصادية في المستعمرة . والجدير بالذكر أنّ الوثائق البريطانية ، تذكر أنّ الذي خاض معركة المعارضة ضد تحويل تبعية المستعمرة إلى التاج البريطاني هم فئة من الهنود الفرس المعروفين بطائفة ( البانيان ) غير المسلمين أو ( الهندوس ) . أمّا فيما يتعلق بالهنود المسلمين فلم نسمع أصوات اعتراضهم ومن المحتمل أنهم لم يكن لهم نفوذاً مالي أو اقتصادي مؤثراً في المستعمرة حول القرار البريطاني بفك الارتباط بين عدن والهند مثلما للبانيان الهنود الذين كانت لهم السطوة المالية والتجارية في مستعمر عدن من جهة والذين كان لهم ارتباط وثيقاً بالمصالح البريطانية الاقتصادية من جهة أخرى علماً أنّ هؤلاء البانيان كانوا يرسلون أرباحهم المالية الضخمة من المستعمرة إلى بلادهم الهند ولم يؤسسوا قواعد اقتصادية داخل المستعمرة ، فكانت أعمالهم تقوم على الخدمات التجارية فحسب . [c1]حجج واهية[/c]ولقد ذكرت بريطانيا للجالية الهندية أنّ الاسباب الرئيسية التي دفعتها إلى فك الارتباط بين المستعمرة عدن وحكومة الهند المركزية هي أنّ سكان عدن العرب ( اليمنيون ) طالبوا تكراراً ومراراً حكومة التاج البريطاني من الخروج من معطف الهند إلى الإشراف المباشر تحت حكمها نظراً أنهم يمثلون الغالبية العظمى من الجالية الهندية بمختلف طوائفها في المستعمرة عدن . ولقد ذكر هيكنبوتام Hickinbotham في هذا السياق : “ أنّ العرب ( يقصد اليمنيين ) كانوا يمثلون الأغلبية السكانية في عدن ، وسوف يكون لهم موقف معارض لاستمرار بقائهم تحت سيطرة حكومة الهند في الوقت الذي أصبحت فيه النزعة لاستقلال الهند أمراً حقيقيا . لقد أكدت وجهة نظر عدن أنه سيصبح من غير المنطقي استمرارها تحت سيطرة الهنود أنفسهم وهي ليست مستعمرة هندية “ . والحقيقة أنّ الجالية الهندية وخصوصاً أصحاب النفوذ في الحياة المالية والاقتصادية والتي كانت تمثل أكبر الجاليات في المستعمرة حينئذ ، كانت مدركة تماماً أنّ بريطانيا لم تفك ارتباط مستعمرة عدن عن الهند ودخولها في حظيرة حكومة التاج البريطاني مباشرة من أجل عيون العرب أي سكان عدن اليمنيين وإنما من أجل مصلحتها السياسية ، والاقتصادية ، والعسكرية التي أملتها عليها الأوضاع الدولية أنذاك . وأنّ بريطانيا منذ احتلالها للمستعمرة لم تقم لسكانها أية وزن على خريطة تفكيرها السياسي والعسكري ، وكانوا دائما ( مهمشين ) لم يحسب لهم أية حساب . [c1]الشخصيات الهندية الثقافية[/c]وفي واقع الأمر ، أنّ الاحتجاجات والاعتراضات ضد تحويل تبعية عدن إلى وزارة المستعمرات البريطانية بصورة مباشرة وخروجها من سطوة حكومة الهند المركزية ( بومباي ) لم تقتصر على الشخصيات الهندية المالية الكبيرة على حياة المستعمرة فحسب بل أنّ الشخصيات الثقافية الهندية كان لها صوت مسموع إزاء هذا القرار البريطاني. ولقد وجه ( الندوى ) مراسل صحيفة هندية نقداً لاذعاً لحكومة عدن البريطانية بأنها خضعت إلى قلة قليلة من العرب ( سكان عدن اليمنيين ) بنقل إدارة عدن إلى وزارة المستعمرات في الوقت الذي لم تصغ إلى الأغلب الأعم من سكان عدن . وفي هذا الصدد ، يقول : “ المؤرخ عبد الله أحمد محيرز “ . وقد انتقد الندوى مراسل صحيفة هندية نشرت خبراً مفاده : أنّ أثنين وثلاثين من اليمنيين كتبوا عريضة إلى وزارة المستعمرات يؤيدون فيها نقل إدارة عدن إلى وزارة المستعمرات : وكيف أنه أهمل توصية اتخذت في حفلة خاصة حضرها مئات من العرب ، وأمضى عليها خمسمائة من التجار الهنود والعرب ، وليس إثنان وثلاثون ؟ متهماً هؤلاء بأنّ لهم مصلحة خاصة بإلحاقها بوزارة المستعمرات “ . ويضيف ، قائلاً : “ وفي ختام مقاله : “ . . . أرجو أنّ تحترم الحكومة ( البريطانية ) عواطف أكثر سكان بلاد عدن من مختلف الشعوب وتترك المياه تجري في مجاريها وتبقى إدارة عدن تحت حكومة الهند على حالها “ . [c1]العودة إلى الجذور[/c]ويتعجب المرء من كلام (الندوي ) الذي تحدث بأنّ عدداً من العرب أي الشخصيات اليمنية طلبوا انضمام عدن إلى وزارة المستعمرات البريطانية لمصلحتهم الذاتية . في الوقت الذي يدافع بحرارة بأنّ تبقى مستعمرة عدن تحت حكومة الهند المركزية وذلك دفاعاً عن مصالح الجالية الهندية التي بات لها أمتيازات واسعة وعريضة في المستعمرة بخلاف سكان عدن اليمنيين الذين كانوا يشعرون بالغربة في موطنهم . ويعقب مؤرخنا الكبير عبد الله محيرز ساخراً من شد الحبل بين حكومة عدن البريطانية والجالية الهندية حول تبعية عدن لكل منهما ، قائلاً : “ ولم يدر بخلد أحد في ذلك العهد ، أنّ هناك حلاً ثالثاً بدلاً من أنّ تكون عدن مستعمرة لبريطانيا أو مستعمرة لمستعمرة بريطانية : هو أنّ تعود لأهلها ، وتصبح كما يتطلبه المنطق ، والعدل جزءاً من يمنها وعالمها العربي الرحيب “ . وكيفما كان الأمر ، في الأول من إبريل عام 1937م تحولت تبعية مستعمرة عدن إلى حكومة التاج البريطاني .[c1] الهوامش : [/c]الدكتور محمد عمر الحبشي ؛ اليمن الجنوبي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، ترجمة : الدكتور الياس فرح و الدكتور خليل أحمد خليل ، الطبعة الأولى آذار ( مارس ) 1968م ، دار الطليعة للطباعة والنشر ـــ بيروت ـــ .د . مسعود عمشوش ؛ في كتابات الرحالة الفرنسيين ، سنة الطبعة 2003م ، إصدارات جامعة عدن ـــ عدن ـــ الجمهورية اليمنية ـــ .شفيقة عبد الله العراسي ؛ السياسة البريطانية في مستعمرة عدن ومحمياتها 1937 ـــ 1945 ، الطبعة الأولى 2004م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية ، الطبعة الأولى 2006م ، مؤسسة الميثاق للطباعة والنشر ـــ صنعاء ـــ .عبد الله أحمد محيرز ؛ الأعمال الكاملة . العقبة . صهاريج عدن . صيرة ، ص 17، 1425هـ / 2004م ، الناشر : الجمهورية اليمنية ـــ وزارة الثقافة والسياحة ــ صنعاء ـــ .