[c1]* وصول الرئيس علي عبدالله صالح إلى مقاليد الحكم في 17 يوليو 1978م شكّل منعطفاً تاريخياً مهماً في مسيرة العمل الديمقراطي .* المؤتمر الشعبي العام تشكَّل من مختلف ألوان الطيف السياسي التي أقرت الميثاق الوطني .[/c]أود قبل الشروع في تناول موضوع الورقة "المسار الديمقراطي من التدرج إلى التعددية" أنْ أسبقه بمقدمة نظرية عما تعنيه الديمقراطية، والتعددية السياسية.فالديمقراطية لا يحصر تعريفها بالمعنى الشائع : "حكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب"، أو ما تُعرَّف بأنّها "شكل من أشكال الحكم الذي تكون فيه الهيئة الحاكمة جزءاً كبيراً نسبياً من الأمة كلها أي بوساطة الكثرة، أو هي الحكم الذي يملك فيه كل فرد نصيباً، أو كما يرى البعض بأنّ الديمقراطية هي فقط تجرِبة في الحكم.فهذه التعريفات حصرت معنى الديمقراطية في زاوية واحدة، وهي زاوية الحكم، بينما الديمقراطية ليست شكلاً من أشكال الحكم فحسب، بل هي كذلك نوع من أنواع الدول، أي أنَّ الحكم الديمقراطي يعني دولة الديمقراطية، وإنْ كانت الدولة الديمقراطية لا تعني بالضرورة حكومة ديمقراطية، فالدولة تتسق مع أي نوع من الحكومة، سواء أكانت ديمقراطية أو ديمقراطية أو ملكية.. فكل ما تعنيه الدولة الديمقراطية هو أنّ المجتمع كله يمتلك سلطة السيادة، ويحتفظ بالسيطرة النهائية على الأمور العامة، فالديمقراطية باعتبارها شكلاً من أشكال الدول يذهب بها هذا المعنى إلى كونها مجرد طريقة لتعيين الحكومة والإشراف عليها وعزلها.وإذاً فالديمقراطية ليست مجرد شكل من أشكال الحكم، وليست نوعاً من أنواع الدول فحسب، بل هي كذلك نظام من نظم المجتمع، فالمجتمع الديمقراطي هو ذلك المجتمع الذي تسود فيه روح المساواة والإخاء، غير أنّ مثل هذا المجتمع لا يتضمن بالضرورة دولة ديمقراطية أو حكومة ديمقراطية، ولكن هل اكتمل معنى الديمقراطية عند اعتبارها شكلاً من أشكال الحكم، أو نوعاً من أنواع الدول، أو نظاماً من نظم المجتمع؟يرى كثيرون أنَّ الديمقراطية لا تتم حتى يتخذ مجال الاقتصاد طابعاً ديمقراطياً، فالديمقراطية لم تحرز سوى تقدم ضئيل في الميدان الاقتصادي، ولذا وصف البعض الديمقراطية في القرن العشرين، بأنّها ليست مجرد شكل سياسي أو نظام حكومي أو اجتماعي وإنّما هي "بحث عن طريق للحياة يمكن فيها التأليف، والتنسيق لذكاء الإنسان، ونشاطه الاختياري الحُر بأقل إكراه ممكن، وهي الاعتماد بأنّ مثل هذه الحياة هي خير طريق لجميع البشر، إذ هي أكثرها مسايرة لطبيعة الإنسان وطبيعة الكون "أي أنّها تضمن أنَّ كل الكائنات لها قيمة في ذاتها، فليس أحد مجرد وسيلة لغاية شخص آخر، أي أنّ الديمقراطية تعني الإيمان بالإنسان العادي.لذا أوجز علماء الاجتماع تعريفاً للديمقراطية بأنّها "هي الافتراض أنّ جميع الناس متساوون، ليستعمل هذا الافتراض من أجل اكتشاف من هم خير الناس".[c1]طرائق تطبيق الديمقراطية :[/c]مثلما تعددت تعريفات الديمقراطية، تعددت طرائق تطبيق الديمقراطية وآلياتها تبعاً لمنطلقاتها.فالديمقراطية الليبرالية المنطلقة من المذهب الفردي "المذهب الحُر" التي تبلورت في المجتمعات الغربية تتجسد في مجموعة معينة من الممارسات والآليات المتعارف عليها، مثل : التعدد الحزبي والفصل بين السلطات، وتداول السلطة السياسية طبقاً لإرادة الناخبين، وتوفير الحقوق والحريات السياسية مثل :حق التنظيم والاجتماع، وحق التعبير عن الرأي، إلخ.. ·والديمقراطية الشعبية، المنطلقة من المذهب الجامعي، الذي أخذت به المنظومة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، وتتجسد في حكم الطبقة العاملة و"الحزب الطليعي"، وهي وإنْ اختلفت عن الديمقراطيات الشعبية التي أخذ بها كثير من نظم الحكم في العالم النامي، فإنّها تتفق معها نظرياً في غايات الديمقراطية الاجتماعية في التنمية الاشتراكية التي سعت إلى تحقيقها على حساب توفير الحد الأدنى من الديمقراطية السياسية.فقد قدّمت الحرية الاجتماعية قبل الحرية السياسية، وحرية الحصول على رغيف الخبز قبل حرية التصويت في الانتخابات كما قدّمت حقوق التعليم والصحة والمسكن قبل حقوق المشاركة السياسية.* وقام العديد من الديمقراطيات الشعبية تكتيل قوى الشعب العاملة في تنظيم سياسي واحد.* وقام البعض بتنظيم الشعب في مؤتمرات شعبية "فلا ديمقراطية بدون مؤتمرات شعبية" وهي التي نادت بها الجماهيرية العربية الليبية منطلقة من الكتاب الأخضر الذي اعتبرته النظرية العالمية الثالثة.** ووسط هذه النظريات وتعريفاتها المتعددة للديمقراطية فإنّ "الميثاق الوطني" نظرية العمل الوطني والدليل النظري للمؤتمر الشعبي العام، قد افرد فصلاً خاصاً بالديمقراطية وحدد فيه تعريفه للديمقراطية وخصائصها، والأسس التي تقوم عليها، وأعطى مفهومهاً متكاملاً لها بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مستفيداً في صياغته من التجارب الديمقراطية اليمنية في التاريخ القديم والوسيط والمعاصر، ومن تجارب الآخرين.ومع اختلاف التعريفات والنظم والآليات الديمقراطية إلا أنَّ الديمقراطية الليبرالية هي التي تكاد تسود حالياً معظم عالمنا المعاصر، وذلك بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية. ومن ثم كان لابد من التعريف بمعنى التعددية السياسية باعتبارها أبرز مجسدات الديمقراطية الليبرالية.[c1]التعددية السياسية :[/c]لا يوجد تعريف قاطع مانع للتعددية السياسية ولكن ما اتفق عليه في الغالب، وفي الإطار العام هو أنّها تعني وجود أحزاب سياسية مختلفة تمثل قوى اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية متباينة، تتنافس فيما بينها لكسب الرأي العام، تمهيداً للوصول عن طريقه إلى السلطة لتحقق ما تنادي به من أهداف وبرامج، وما تدعو إليه من قيم.ويتوقف عطاء التعددية السياسية على مقدار النضج السياسي، ولا يكون تمام هذا النضج إلا إذا توافرت الشروط التالية :- التسليم بقواعد اللعبة الديمقراطية.- الإيمان بشرعية الاختلاف.- اعتبار الشرعية الانتخابية أساس التداول السلمي للسلطة.- احترام حرية المعارضة.- الإيمان بالمشروعية المؤسسية، ومبدأ سيادة القانون.[c1]بداية المسار الديمقراطي :[/c]النواة الأولى :- يصعب تحديد بداية المسار الديمقراطي في التاريخ المعاصر، إلا أنّ ما يمكن اعتباره ثقافة الرفض للاستبداد في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، كان تمهيداً أولياً لاستجلاء المسار، حين أقدم العلماء على مناصحة الإمام، وتبصيره بأخطاء مسلكه في الحكم، ورده إلى كتاب القائل : "يا أيُّها الملأ أفتوني في أمري، ما كنتُ قاطعة أمراً حتى تشهدون" والقائل : "وأمرهم شورى بينهم" والقائل : "وشاورهم في الأمر". ولما لم يجد مع الإمام النصح، بل كان العنت فيه قد ألجأه إلى مطاردتهم، انتقل أسلوبهم في النصح إلى النقد ثم إلى تأسيس تنظيم حركة الأحرار، وقيام جمعيات دينية وأدبية وثقافية، وقد تطور تنظيم الحركة وامتد إلى الجزء المستعمر، وحلّ تنظيم الجمعية اليمنية الكبرى محل حزب الأحرار لتضم الأحرار من مختلف مناطق اليمن تعبيراً عن وحدة الشعب اليمني وعن وحدة إرادته في التحرر من الاستبداد والاستعمار واستعادة وحدته.·وشقَّ الأحرار طريقهم إلى أول المسار الذي اختطوه بكفاحهم، بالعمل على قيام دول دستورية، حضَّروا لها الميثاق الوطني المقدَّس، وأعلنوا قيام الثورة الدستورية في 1948م، إلا أنّهما لم تستمر سوى بضعة أسابيع، لكنها ظلت مقدمة مهمة لما تلاها من شدة للساحة السياسية الوطنية المقاومة لنظامي الاستبداد والاستعمار، وتبلور تنظيم الضباط الأحرار الذي كان من أهم التطورات في الحركة الوطنية، وعاملاً من العوامل الحاسمة في تفجير ثورة 26 سبتمبر 1962م، التي أعلنت أهدافها الستة، ومنها الهدف الرابع الذي نصَّ على :“إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل، يستمد أنظمتها من روح الإسلام الحنيف".مجلساً جمهورياً ليحد كثيراً من صلاحيات رئيس الجمهورية وأعطى لمجلس الشورى صلاحيات سحب الثقة من الحكومة وأعضاء المجلس الجمهوري.ثمّ تمَّ تنقيح الدستور بعد ذلك بقرار دستوري صادر عن رئيس مجلس الوزراء، ورئيس المجلس الجمهوري بتاريخ 25 سبتمبر 1968م، حدَّ من صلاحيات مجلس الشورى لصالح المجلس الجمهوري، واستبدال اسم مجلس الشورى بالمجلس الوطني الذي أُعلن عن قيامه إثر انعقاد المؤتمر الشعبي العام يوم 14 مارس 1969م، بعد عقد سلسلة من مؤتمرات للشباب وضباط القوات المسلحة لتكوين المجلس الوطني، وقد كان من قرارات المجلس، العمل على إصدار الدستور الدائم عام 1970م، الذي نصت المادة الأولى منه على أنَِّ "اليمن جمهورية شوروية مستقلة". وقد كفل الدستور الجديد جميع الحريات الفردية منها والعامة، وتميّز بنصه على انتخاب أعضاء المجلس الجمهوري الذي يتولى مهام رئاسة الجمهورية.وتمّ بناء على ذلك إجراء انتخابات تشريعية أفرزت قيام أول مجلس نيابي في 25 فبراير 1971م. هو مجلس الشورى، إلا أنَّ انتخابات المجلس لم تتم في أجواء تنافسية بين القوى السياسية، فقد نصت المادة "37" من الدستور المذكور على أنَّ "الحزبية بجميع أشكالها محظورة"، وقد جاء هذا الحظر عقب الصراعات الدموية التي أوشكت أن تهدد الأمن والاستقرار والنظام، وشاعت في حينه مقولة "الحزبية تبدأ بالتأثر، وتنتهي بالعمالة".وعلى الرغم من قيام مجلس الشورى، إلا أنّ إلغاء حرية نشاط الأحزاب السياسية، تسبب في إحداث فراغ سياسي، دفع القيادة السياسية إلى البحث عن صيغة مناسبة لملء هذا الفراغ، فانتهت إلى إنشاء تنظيم سياسي سُمِّي "الاتحاد اليمني"، لكنه لم يحقق الهدف فقد وُلِدَ ميتاً.وحيث لم تتح الفرصة لقيام التعددية الحزبية، فقد أدى سير الأحداث إلى تعريض العَلاقة بين السلطة والقوى والأحزاب السياسية لحالةٍ من الاضطراب، ولجوء بعضها إلى العمل في الخفاء، وتعريف العلاقة شمالاً وجنوباً للتوتر والاحتراب.· وفي الشطر الجنوبي من الوطن اليمني وفور قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، بدءًا بإقرار أول دستور للبلاد بدأ العمل به في 30 نوفمبر 1970م، وعلى ضوئه تمّ تشكيل أول برلمان في 21 يوليو 1971م، الذي عُرف باسم "مجلس الشعب الأعلى المؤقت"، وجاء تشكيله بطريقة التعيين وليس بالانتخاب.وبعد قيام الحزب الاشتراكي اليمني في أكتوبر 1978م، أُجريت أول انتخابات عامة عن طريق الاقتراع السري، وذلك في ديسمبر 1978م، ونتج عنها تشكيل أول برلمان منتخب، وكان من بين اختصاصاته تشكيل هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى، ومجلس الوزراء.وقد أدى استئثار نظام الحزب الطليعي بالسلطة إلى الدخول في صراعٍ مع بقية الأحزاب المشاركة في النضال، التي اضطرت إلى العمل الحزبي السري، وظلت الواحدية الحزبية أداة السلطة الوحيدة في مجمل توجهاتها حتى قبيل قيام دولة الوحدة في الثاني والعشرين من مايو 1990م، فقد نصت المادة الثالثة من الدستور على أنَّ "الحزب الاشتراكي المتسلِّح بنظرية الاشتراكية العلمية هو القائد والموجه للدولة والمجتمع".** لقد لعبت الأحزاب التي لجأت إلى العمل السري في كلا الشطرين دوراً كبيراً في توتير العَلاقات بين النظامين السياسيين نتيجة موقف كلٍ من النظامين تجاه الأحزاب المؤيدة للنظام الآخر، وأجمع النظامان - على ما بينهما من تناقض - على تضييق الخناق على الحريات الحزبية في كلا الشطرين، وأسهم في الإخلال بالأمن والاستقرار، وأعاق حركة النمو والبناء والتنمية، ولم يحد حظر الأحزاب في صنعاء من استمرار الصراع السياسي بل زاد من سوء الأوضاع، واستشراء الفساد المالي والإداري الأمر الذي نجم عنه قيام حركة 13 يونيو التصحيحية، التي قررت أنّ الديمقراطية لا تنمو ولا تزدهر في مثل تلك الأجواء، فكان إقدامها على تجميع مجلس الشورى وتعليق العمل بالدستور الدائم، واستبداله بإعلانات دستورية.وقد استعيض عن مجلس الشورى بأعمال خدمية وتنموية في النطاق المحلي، وتشكل لهذا الغرض "الاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي للتطوير".وللنهوض بالإدارة، وتطوير الأداء الفني، وتصحيح الأوضاع المالية والإدارية المتردية، تشكلت اللجنة العليا للتصحيح المالي والإداري بفروعها التي انتشرت في عموم محافظات الجمهورية، التي سعت القيادة السياسية إلى محاولة اتخاذها أسلوب عمل سياسي، لكنها لم تنجح في محاولتها هذه.وإثر اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، خلفه الرئيس أحمد حسين الغشمي، وفي عهده استمرت اللجنة العليا للتصحيح المالي والإداري، تمارس مهامها دونما تحقيق أي تحسن يذكر.وهو ما حمل القيادة السياسية على تشكيل مجلس الشعب التأسيسي، بإعلان دستوري من مجلس القيادة في 6 / 2 / 1978م، تحت ضغط المطالبة من القوى السياسية الوطنية بعودة الحياة البرلمانية.وتعرض الرئيس الغشمي لعملية اغتيال مدبرة من حكومة عدن التي ما لبث أن دب الخلاف بين قياداتها المتصارعة على السلطة التي انتهت باغتيال الرئيس سالم ربيع علي، لم تفلح الأساليب التقليدية في الحيلولة دون تفاقم الأوضاع في الشطرين، وظل تغييب الحرية الحزبية عاملاً مؤثراً للعَلاقات بين النظامين في الشطرين، وكان لابد من وضع حدٍّ لهذه الحالة المأزومة، ولن يكون ذلك متحققاً إلا بالسعي الجاد لإعادة تحقيق الوحدة والبحث في أفضل الصيغ المؤدية غليها، فكان أن رشح القدر من هو أهل لإنقاذ الوطن في تلك اللحظات العصيبة من محنته، والانتقال به إلى حياة آمنة ومستقرة يصحح بها المسار الديمقراطي، ويستعيد بها وحدته، ومكانته.فكان انتخاب الأخ الرئيس علي عبدالله صالح من قبل مجلس الشعب التأسيسي في يوم السابع عشر من يوليو / تموز 1978م، هذا اليوم الذي نحتفل بمدلولاته التي تعيشها شعبنا حاضراً وحدوياً ديمقراطياً تنموياً ومكانة عربية ودولية رفيعة.[c1]الحوار الوطني :[/c]شكّل تسلم الأخ الرئيس علي عبدالله صالح مقاليد الحكم في 17 يوليو 1978م منعطفاً تاريخياً مهماً في مسيرة العمل الديمقراطي، فقد تنوعت مجالاته، وتسارعت خطاه، واتسعت قاعدة المشاركة الشعبية والسياسية وهو الذي استوعب أحداث الوطن، وخبر شعبه، واحتك بالوسطين العسكري والمدني، وانفتح على قطاع عريض من جماهير الشعب، وعلى مختلف القوى السياسية والفكرية ومدَّ إليها جسوراً من الحوار، حتى لقد ظنّه كل فريق منتمياً إلى صفة على أنّه كان أكبر من أن يتحيز إلى فريق دون آخر، لعلمه أنّ كل فريق يدرك جانباً من الحقيقة، وطالما تاقت نفسه ليرى الجميع على صعيد واحد، يتحاورون ليصلوا إلى القواسم المشتركة، فقد كان في طبيعة تكوينه شعبي العشرة يغشى المجالس، ويرتاد المنتديات، ويقترب من مختلف شرائح المجتمع واتجاهاتها، ويتعرَّف على طرائق تفكيرها واهتماماتها.. وحين استقر عمله قائداً لمحافظة تعز، تلك العاصمة الثقافية، جعل من مقره ملتقى للنخب الفكرية والأدبية والسياسية، يتحاورون ويتناظرون، ويتدبرون أمر الوطن كل من وجهة نظره، ويثرون بآرائهم من يحسن التقاط زُبَدَ الكلام، فالمجالس مدارس.ولقد أدرك ببصيرته أنّ خير ما ينقذ الوطن من مآزقه السياسية، وأزماته الاقتصادية، وتوتراته النفسية والاجتماعية، هو الحوار بين مختلف القوى والتيارات السياسية والتقائها على أمر جامع يؤلف بين القلوب ويوحد الكلمة، ويلمَّ الشمل.وإذْ ينتخب رئيساً للجمهورية، فقد أصبح في طليعة همومه منذ الأيام الأولى لتحمله أمانة قيادة الشعب العمل على إحداث تنمية سياسية شاملة تسير جنباً إلى جنب في خطوط موازية ومتكافئة السرعة مع إحداث التنمية الاجتماعية والاقتصادية، واستخدم مفتاح حكمته للعثور على صيغة عملية تتفاعل مع مبادئ الشعب وقيمه وأهداف ثورته.ولاعتقاد الأخ الرئيس أنَّ الديمقراطية لا تمثل مطلباً فردياً ولا يمكن أن تترك لاجتهادات ربما جانبها التوفيق، فقد كان توجهه إلى الشعب من خلال جميع فئاته : علماء ومفكرين ومشايخ وعسكريين ومثقفين وغيرهم، يستمزج آراءهم وأفكارهم في أنسب وسيلة، وأسلوب عمل لقيام حوار وطني شامل يتفق فيه على صيغة عملية لميثاق وطني، تجسد بالمشاركة الفعلية إرادة الشعب وتطلعاته.وابتدأ مشوار الحوار الوطني، وبدايته في أواخر عام 1978م، حين أوكل إلى لجنة من المفكرين والعلماء والمثقفين من داخل مجلس الشعب، وخارجه لوضع مسودة أولية لمشروع ميثاق وطني كمادة أولية تطرح للنقاش في اجتماع موسع ضم أعضاء مجلس الوزراء والقيادات العسكرية والمحافظين والهيئة العليا للاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي للتطوير، وأثريت بالعديد من الملاحظات والأفكار العملية النابعة من بيئة الواقع، وخبرات مؤسسات الدولة واحتياجات ومتطلبات التنمية الشاملة، وأحيلت هذه الإضافات والتعديلات على اللجنة التي صاغت المسودة الأولية، وبعد أن أعادت الصياغة، صدر قرار رئيس الجمهورية رقم (5) لعام 1980م القاضي بتشكيل لجنة الحوار الوطني، التي ضمّت في عضويتها خمسين مشاركاً على اختلاف اتجاهاتهم، وانتماءاتهم السياسية والفكرية للبحث في أنسب صيغة لملء الفراغ السياسي والتنظيمي، وأحيلت إليها مسودة المشروع الأولي المعدلة للميثاق الوطني.واجتمعت لجنة الحوار الوطني، وقد وُفِّر لها كامل شروط الحوار :-حرية تامة.-شفافية عالية.-زمن مفتوح لجدِّية متواصلة، وحوار مسؤول.-احترام كامل لكل رأي يطرح، فلا محاسبة على فكرة غريبة ولا مصادرة لرأي، ولا تلقين ولا إملاء ولا وصاية ولا استماع لوشاية، ولا قرارات جاهزة، وصياغات معدة مسبقاً، متحرر من الحوارات الصورية، ونصب السرادقات الشكلية.وبالشروط والمُناخات الكاملة للحوار، اجتمعت لجنة الحوار الوطني ولأول مرة في تاريخ اليمن المعاصر بمختلف ألوان الطيف السياسي على صعيد واحد، بعد أن كانت متنافرة، متباعدة، متباغضة، متناحرة، متحاربة، يخطئ بعض ببعضها، ويستنفد الجميع كثيراً من طاقاته وقدراتهم، وجهدهم ووقتهم في تبادل التهم، واستكثار الذات وإلغاء الآخر بينما لا يمتلك كل منهما على هذه الحال سوى جزءاً يسيراً من الحقيقة المبعثرة.وكانت حكمة القائد المحنك في السلوك بهذه القوى الحية في منهجية حوارية، تستأصل شأفة الأحقاد والضغائن من الصدور وتؤلف بين القلوب، وتجمعها على كلمة سواء.ولئن بدأت الاجتماعات الأولى بالمخانقة، فقد انتهت إلى المعانقة، سكنت فيها الانفعالات، وهدأت الأنفس وأخذت تظهر محلها قيم حوارية ترسخت شيئاً فشيئاً حتى غدت سلوكاً تزهو به الحكمة اليمانية.فخلال مرحلة الحوار الوطني التي استغرقتها اللجنة قرابة العامين تحقق كثيراً مما كان يرمي إليه الأخ الرئيس في منهجيته الحوارية ومن ذلك توصل الجميع إلى :-الإيمان بشرعية الاختلاف.-ترسيخ مبدأ احترام الرأي، والرأي الآخر.-القبول بالحد الأدنى من المبادئ التي يلتقي عليها الجميع في صياغة نظرية للعمل الوطني.-الاتفاق على الثوابت الوطنية التي لا يختلف عليها اثنان.-نبذ التعصب والتطرف.-السعي نحو الاعتدال والوسطية والتوازن.وبهذه الروح أنجزت لجنة الحوار الوطني مهمة صياغة مشروع الميثاق الوطني، ثمّ كلفها الأخ الرئيس بإنزال المشروع في ورقة استبيان على المؤتمرات الشعبية المصغرة التي عمّت البلاد، ثمّ كلفها بإعادة صياغة المشروع في ضوء نتائج الاستبيان، ثمّ أصدر القرار الجمهوري رقم 19 لسنة 1982م، الخاص بقيام المؤتمر الشعبي العام وتحديد عضويته بألف عضو 70% منهم بالانتخاب في المؤتمرات الشعبية المصغرة، و30% منهم بالتعيين.وقُدِّمت إليها الصيغة النهائية لمشروع الميثاق الذي تمّ إقراره ميثاقاً وطنياً، خلال الفترة 24 - 29 أغسطس واقر المؤتمرون في الوقت نفسه استمرارية المؤتمر الشعبي العام أسلوباً للعمل السياسي، وانتخب الأخ الرئيس أميناً عاماً للمؤتمر في 30 أغسطس 1982م، وتمّ في المؤتمر إقرار النظام الداخلي للمؤتمر، وبرنامج العمل السياسي.. وتشكلت اللجنة الدائمة للمؤتمر وأمانة سرها بالانتخاب، كما تشكلت اللجان المتخصصة، واللجنة العامة ومارس المؤتمر دور الاضطلاع بمهمة التنمية السياسية، والمشاركة في صنع القرار.[c1]المؤتمر الشعبي العام يُمارس التعددية المنابرية طريقاً إلى التعددية السياسية :[/c]تشكَّل المؤتمر الشعبي العام من مختلف ألوان الطيف السياسي التي أقرت الميثاق الوطني، وارتضته نظرية عمل وطني وترجمته إلى برامج عمل سياسية، وإلى دراسات تفصيلية لمفاهيمه ومضامينه، وإقامة ندوات أسبوعية للتوعية السياسية مما أحدث حراكاً فكرياً وسياسياً ووعياً ديمقراطياً متنامياً، وقدرة على المشاركة الشعبية والسياسية في صنع القرار، وتعزيز الحياة لديمقراطية.ومارس أعضاء المؤتمر في مختلف تكويناته القيادية والقاعدية نشاطاً فكرياً وتنظيمياً وسياسياً جسد مفهوم التعددية المنابرية القائمة على الحوار والأخذ برأي الأغلبية واحترام رأي الأقلية، وقد هيأ هذا السلوك للانتقال إلى التعددية السياسية، حيث تبنى المؤتمر في حوارات لجان الوحدة الأخذ بنهج التعددية السياسية، فمع تسارع إيقاعات العمل الوحدوي لم يغب عن ذهن الأخ الرئيس ولجنة التنظيم السياسي التي تشكلت بعد قيام المؤتمر الشعبي العام، لم يغب عن المؤتمر دور مختلف الأحزاب والتنظيمات السياسية ومختلف القوى الاجتماعية في العمل الوحدوي، وليس من الوطنية تغييبها عن المشاركة والحضور الفاعل في دولة الوحدة، فكان العمل على تهيئة واقع سياسي ديمقراطي تعددي لدولة الوحدة، وحصلت الأحزاب على مشروعيتها وعلانيتها من اتفاق عدن في نوفمبر 1989م، وبحثت لجنة التنظيم السياسي في الصيغة التي تلائم الجميع، وطرحت أربع بدائل لصيغة التنظيم السياسي في دولة الوحدة وتتلخص في ما يلي :(1)دمج المؤتمر الشعبي العام، والحزب الاشتراكي اليمني في كيانٍ واحدٍ.(2)استمرار المؤتمر والحزب تنظيمين مستقلين، مع حق القوى الوطنية والشخصيات الاجتماعية الوطنية في ممارسة النشاط السياسي.(3)أن يعمد الحزب والمؤتمر إلى حل نفسيهما، وتترك الحرية لقيام التنظيمات السياسية.(4)تأليف جبهة وطنية عريضة تضم المؤتمر والحزب والقوى الوطنية المؤمنة بأهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر، في إطار تنظيم سياسي، مع احتفاظ كل هذه القوى باستقلالها ضمنه.وقد أخذ بالبديل الثاني انسجاماً مع الرغبة في تحقيق التعددية الحزبية.وتقدّمت سبعة أحزاب في 19 أبريل 1990م، بمطالب إلى قيادتي الشطرين كان أهمها الإعلان الفوري عن الحريات والديمقراطية بما في ذلك التعددية الحزبية، وإصدار قانون بذلك، وقد تمَّ إقرار هذا المطلب في إعلان قيام دولة الوحدة.وغير غائب عن البال استمرارية توسع المؤتمر في عضويته، ومراجعة نظمه ولوائحه الداخلية، وعقد دوراته الاعتيادية والاستثنائية قبل وبعد قيام دولة الوحدة، وعمّقت تكويناته ونشاطه جميع محافظات الجمهورية، وظل مجدداً ومتجدداً، ومحتفظاً بموقع الريادة، في مسيرة البناء والتنمية التي حشد لها كل الإمكانات والقدرات والعمل المؤسسي التشريعي والتعاوني والمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني، والحوار الذي لم ينقطع مع الأحزاب والتنظيمات السياسية، والاتفاق معها على مواثيق للعمل السياسي.[c1]التعددية السياسية والحزبية :[/c]تلازم إعلان قيام الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990م، تلازماً وثيقاً مع الأخذ بنظام التعددية السياسية. وهو ما جعل الأحزاب والتنظيمات السياسية تقدّم على نحو غير مسبوق إلى ساحة العمل السياسي، تُعلنُ عن تكوين نفسها، أو تشهر وجودها بعد أن كانت تعمل في الخفاء قبل الوحدة.وقد بلغ عدد الأحزاب أكثر من أربعين حزباً قبيل صدور قانون الأحزاب.وكان لابد أن ينظم العمل السياسي، ويصدر قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية، وقانون الانتخابات العامة وقانون الصحافة والمطبوعات.وإثر صدور قانون الأحزاب تقلص عددها على 17 حزباً وذهبت برامجها السياسية والانتخابية ومواثيقها وأدبياتها تؤكد الثوابت الدينية والوطنية، وسيادة الوطن واستقلاله ووحدته، ونظامه الجمهوري وأهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر، والوحدة الوطنية للمجتمع، والحريات والحقوق الأساسية، والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان، والانتماء القومي العربي الإسلامي للمجتمع اليمني.وأكدت الأحزاب كذلك على اعتبار التعددية السياسية والحزبية أساس النظام السياسي، وعلى أنَّ الشرعية الانتخابية هي أساس التداول السلمي للسلطة، وعلى أنّ الديمقراطية هي الضمان الأساس لحماية الحقوق والحريات، ولقيام عَلاقات سوية متطورة، متداخلة ومترابطة بين هيئات سلطات الدولة والشعب والأحزاب والتنظيمات السياسية.[c1]قانون الانتخابات العامة :[/c]وفي ظل التعددية السياسية، أخذ النظام الانتخابي المناسب لبلادنا حيزاً كبيراً من النقاش في مجلس النواب الانتقالي عند إعداد قانون الانتخابات العامة رقم (41) لسنة 1992م. وقد نصّت المادة (48) من القانون المذكور على أنْ تُقسَّم البلاد على 301 دائرة انتخابية وينتخب عن كل دائرة عضو واحد في مجلس النواب.وبهذا النص حُسم النظام الانتخابي، والنموذج المختار للانتخابات اليمنية، وهو النظام الفردي (الصوت الواحد).ونصّت المادة (20) من هذا القانون على أنْ "تشكل اللجنة العليا للانتخابات من عددٍ لا يقل عن خمسة أعضاء ولا يزيد عن سبعة، يتم تعيينهم بقرار من مجلس الرئاسة بين قائمة تحتوي على (15) اسماً، يرشحهم مجلس النواب".وفي 18 أغسطس 1992م، صدر قرار رئيس مجلس الرئاسة رقم (4) لسنة 1992م، بتشكيل اللجنة العليا للانتخابات، وكان التوزيع في أعضائها على أساس حزبي، مع اثنين من المستقلين.وقد تمّت مراجعة قانون الانتخابات العامة، في ضوء التعديلات الدستورية، حيث صدر قانون الانتخابات العامة رقم 27 لعام 1996م، ثمّ قانون الانتخابات العامة والاستفتاء رقم 13 لعام 2001م.واستناداً إلى قانون الانتخابات العامة، جرت :(1)الانتخابات البرلمانية في دوراتها الثلاث.(2)الانتخابات الرئاسية في دورتيها الأولى والثانية.(3)انتخابات المجالس المحلية في دورتيها الأولى والثانية.وتشكلت في انتخابات الدورة البرلمانية الأولى حكومة الائتلاف الثلاثي، ثمّ حكومة الائتلاف الثنائي إثر حرب صيف 1994م.وأعقب نتائج انتخابات الدورتين البرلمانيتين الثانية والثالثة تشكيل حكومة الأغلبية المريحة التي حاز عليها المؤتمر الشعبي العام.وهكذا تحدد المسار الديمقراطي التعددي بالدستور، ونظم بالقانون ونُفّذ بالممارسة في عهد ورعاية فخامة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح، فنحن إذ نحتفل بالذكرى التاسعة والعشرين للسابع عشر من يوليو فإنّما نحتفل بحقائق الديمقراطية والوحدة والتنمية وبناء الدولة الحديثة باتت راسخة في واقع حياة شعبنا، مهدها فخامته ورعاها بحكمة وخبرة وهمة، استحضرها من تجارب مختلف المراحل السابقة آخذاً بإيجابياته، متجنباً سلبياتها، مضيفاً إليها ومطوراً الأساليب والوسائل التي أبدع فيها ما عزز المسيرة الديمقراطية، وحفظ لها سلامة المسار، واستمراريته نهجاً تعددياً حاز على ثقة القريب والبعيد، وباتت التجرِبة الديمقراطية التعددية اليمنية، أنموذجاً يحتذى به ومركز إشعاع في المنطقة.