حربٌ أبدية في بنيتها ومنطقها
اكتسب الصراع اليمني كل ملامح الحرب التي لا تنتهي. فمنذ انقضاض ميليشيا الحوثي على الدولة عام 2014، وانطلاق العمليات العسكرية في 2015، تَحوَّل المشهد من حربٍ أهلية إلى حربٍ بالوكالة تتقاطع فيها أجندات القوى الإقليمية والدولية: السعودية وإيران والإمارات والولايات المتحدة. تبدّلت التحالفات والجبهات، وتغيّر الخطاب السياسي أكثر من مرة، لكن الحرب بقيت على حالها: دائرة مغلقة من المعارك والهدن والمفاوضات.
لقد نجحت الميليشيات والنافذون الاقتصاديون في تطبيع العنف واستدامته عبر بناء منظوماتٍ ماليةٍ ذاتية التمويل تقوم على الجباية والابتزاز والسيطرة على المساعدات، حتى أصبحت الحرب نظامًا للعيش ومصدرًا للسلطة. كل مبادرة سلامٍ تحوّلت إلى استراحةٍ بين جولتين من الصراع، لا إلى جسرٍ نحو تسويةٍ نهائية، فيما أصيبت القوى المتصارعة بالإرهاق الاستراتيجي: عاجزة عن الحسم، لكنها أيضًا عاجزة عن التراجع أو إعادة بناء الدولة.
بهذا المعنى، تجسّد الحرب اليمنية ما يسميه بعض المحللين «سياسة اللاسلم واللاحرب» - حالةٌ من الاختلال المستدام تُبقي الجميع في حالة انتظارٍ معلَّق، وتُغذّي مصالح أولئك الذين تعوّدوا على أرباح الحرب أكثر من مكاسب السلام.
حربٌ منسيّة في الوعي العالمي
وفي مفارقةٍ مؤلمة، بينما لا تزال الحرب اليمنية مستعرة في الجبال والسهول والموانئ، تتوارى عن عناوين الأخبار وصفحات التحليل. تراجع الاهتمام العالمي تدريجيًا، إذ أصبحت بؤر الأزمات الجديدة - من غزة إلى أوكرانيا وتايوان - تتصدر المشهد، فيما تلاشى اليمن من ذاكرة العالم.
لم يعد الملف اليمني أولويةً في أجندات القوى الكبرى، بل يُذكر عابرًا في تقارير المساعدات أو بيانات القلق. حتى الكارثة الإنسانية الأطول في العصر الحديث، والتي دفعت ملايين اليمنيين إلى الجوع والنزوح، لم تعد تُثير الصدمة، بل تحوّلت إلى ضجيجٍ اعتيادي في خلفية المشهد الدولي. انخفض التمويل الإنساني إلى أدنى مستوياته، وأدرجت منظمات الإغاثة اليمن ضمن ما يُعرف بـ «الأزمات المنسيّة (Forgotten War)». وهكذا، يجسد اليمن مفارقةً قاسية: حربٌ لا تتوقف لكنها ممحوةٌ من الذاكرة الجماعية، وكأن استمرارها لم يعد يحرّك ضمير العالم.
المأساة المزدوجة: حين يُمحى الزمن وتُشلّ الإرادة
أن نصف اليمن بـ «الحرب التي لا تنتهي» هو توصيفٌ لاستمرارها، وأن نصفه بـ «الحرب المنسيّة» هو توصيفٌ لتخلي العالم عنها. لكن اجتماع الوصفين يكشف عن مأساةٍ مضاعفة: فالزمن محا الإرادة في التذكّر، والذاكرة محَت الإرادة في الفعل.
لقد تآكل المشروع الوطني، وجُمّد الزمن السياسي، وتعطّلت دورة الحياة في دولةٍ تعيش منذ عقدٍ في حالة من الانتظار التاريخي: لا حربٌ تحسم، ولا سلامٌ يُنجز، ولا دولةٌ تُستعاد. إنها حربٌ تحولت إلى زمنٍ سياسيٍّ متجمّد، حيث يُعاد إنتاج الصراع في صيغٍ جديدة، ويتحوّل اللايقين إلى قاعدةٍ للحكم والمعيشة.
نحو استعادة المعنى والمشروع
تقترب الحرب اليمنية، في بنيتها ونتائجها، من نموذج «الحرب الأبدية (Forever War)» - لكنها ليست قدرًا محتومًا. فالمخرج لن يأتي من ضغوط الخارج ولا من تفاهماتٍ فوقية، بل من مشروعٍ وطنيٍّ جديد يُعيد تعريف معنى الدولة والشرعية والسلام. سلامٌ يعيد الاعتبار للمؤسسات، ويستعيد الثقة بين المكوّنات، ويربط المصالحة بإحياء العقد الاجتماعي على أساس العدالة والمواطنة والشراكة المتكافئة.
فقط عندها يمكن لليمن أن ينتقل من زمن الحرب الأبدية إلى زمن الدولة المستقرة - من حربٍ تُدار إلى وطنٍ يُبنى، ومن ذاكرةٍ منسية إلى مستقبلٍ يُستعاد.
السلام يبدأ حين تتذكّر الأممُ لماذا قاتلت، وتختار أن تبني... لا أن تبقى على قيد النجاة.
