منذ سنوات مضت، أقدم عدة شباب من خريجي جامعات عدن على إحراق شهاداتهم احتجاجاً على عدم حصولهم على وظائف. وقد مر الموضوع علينا كأنه لم يدخل لدينا في يقظة الضمير بعد ما أصبحت ذاكرتنا تعاني من غفلة بما يتصاعد في حياتنا من أوجاع.
ومنذ وقت راحت تتردد عند عدد ممن درسوا في الجامعات هذه العبارة (الشهادة أحرق أبوها). هذه ليست مجرد كلمات تقال في لحظات من الغضب أو اليأس، إنها تعبير صادم وفاجع لما وصلت إليه حالة العلم والتعليم في بلادنا. لقد وصل الوضع في عقلية الشباب ـ وهذا هو الآخر ـ أن التعليم والشهادة ليس لهما قيمة في الحياة، لأن واقع الحال لا يخلق لصاحب الشهادة الجامعية منزلة في المجتمع.
لقد ذهب ذلك الزمان حيث كانت تلك الأجيال تتسابق على المنح الدراسية والشهادات الجامعية التي تجعل من الخريج قدوة حسنة ومثلا لمن هم من بعده من الأجيال. هذا الواقع من سقوط المعرفة في حياتنا يؤكد أن الغد لا يحمل معه إلا أزمات طاحنة في تركيبة هذه الأمة. لقد أصبحت بعض الجامعات لدينا تعاني نقصا في عدد الطلاب، بل هناك أقسام فيها أغلقت، وربما في القريب العاجل لا نجد طلابا حتى في التعليم الأساسي.
هذا الوضع يقودنا إلى طرح عدة تساؤلات عن بلد لا يملك صناعة المستقبل.. ما هو مصير هذه الأجيال مع واقعنا؟ الوظيفة الحكومية التي كانت في يوم ملاذاً لمن يحمل الشهادة أصبحت مغلقة الأبواب أمام من تخرج منذ سنوات عديدة، بل أصبح النظر إليها على أنها لم تعد تفيد في الوضع الراهن، والراتب القادم منها ما نفع من عملوا مع الحكومة سنوات طويلة.
لقد أصبحت حسابات “كم الفائدة المالية من عملك؟” هي سؤال السوق، فيما نرى بعضاً من الناس لا يحمل شهادة لكن عنده ما يوظف مليون خريج. هذا الحال عكس نفسه على أوضاع الحياة الاجتماعية في مختلف أشكال العلاقات بين الناس، بل وصل الأمر عند عدد من الأسر حين يتقدم شاب لخطبة فتاة يطرح عليه هذا السؤال: (كم معاك من مال؟) ولم يعد هناك وجود للسؤال - الذي أصبح من ذكريات الماضي - : ماذا تحمل من شهادة؟
لقد هوت الكثير من القيم الأخلاقية في حياتنا وقيمة التعليم مما هوى. تشعر حيث تجلس مع شاب خريج جامعة وكأنه في زمن المتاهة. لقد سقطت من نفسيته كل تلك الجهود التي مر بها لسنوات في التعليم حتى يكوّن له كياناً في بلاده، فإذا به يصبح شيئاً بلا ثمن خارج معادلات واقع لم يعد يحكمه سوى سعر صرف العملة.
فهل نحن أمام أجيال سوف تصنع ثورة غضب على هذا الواقع الذي حوّل الإنسان إلى مضاربات في المكسب والخسارة؟
إن الأمة التي تخرج منزلة العلم من حياتنا ليس لديها من منزلة في المستقبل.
وإحراق الشهادات يعني أننا نحرق ما بقي لنا من خيوط تواصل مع الغد.
