
في عام 1926، كان صوت المولد الأول في منطقة حجيف بعدن حدثًا غيّر ملامح المدينة ومستقبلها. أنشأت السلطات البريطانية حينها أول محطة توليد كهرباء في مستعمرة عدن بقدرة 3 ميغاوات، لخدمة القوات البريطانية، لكنها سرعان ما صارت تُنير أحياء المدينة وأسواقها وميناءها، لتصبح عدن أول مدينة في شبه الجزيرة العربية تعرف الكهرباء قبل الرياض والكويت ومسقط والمنامة. كانت عدن حينها تُلقَّب بـ”لؤلؤة الشرق”، وكان النور فيها علامة تحضّر وفخر، تتباهى بها المدينة الصغيرة على ضفاف البحر العربي أمام مدنٍ ما زالت تكتفي بالفوانيس.
لكن مئة عام مضت، وها هي عدن تحتفل بمئوية دخول الكهرباء إليها، باحتفال أسود في عتمةٍ كاملة، ففي فجر الإثنين 20 أكتوبر 2025، انطفأ آخر مولّد في المدينة عند الساعة 3:40 صباحًا، بعد أن أعلنت محطة “عدن الجديدة” محطة الرئيس، توقفها التام بسبب نفاد الوقود، لتغرق عدن وأخواتها في ظلام شامل لم تشهده منذ قرن. يا للمفارقة: المدينة التي عرّفت الآخرين على الضوء، تعيش مئويتها في ظلامٍ دامس!
هذه ليست أزمة طارئة، بل تتويج لمسار طويل من الانهيار. منذ سنوات، تتناوب فيها محطات التوليد بين العمل والتوقف، الوقود الشحيح، الموازنات المتآكلة، والبنية التحتية المنهكة. محطات قديمة أكلها الزمن، وأخرى جديدة لم تجد من يمدّها بالوقود لتعمل.
فقد ذكر تقرير حديث أن أزمة الطاقة في عدن باتت تهدد حياة المدنيين وخدماتهم الأساسية، من المستشفيات إلى شبكات المياه وشبكات الصرف الصحي. فوفقًا لـ”هيومن رايتس ووتش”، فإن انقطاع الكهرباء المستمر يعرض حياة آلاف المرضى للخطر، ويشلّ الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية في المدينة.
عدن التي كانت يومًا منارة للمنطقة، صارت اليوم مدينة الدموع والشموع والمولدات الخاصة. الأحياء الراقية تتنفس على أسلاك المولدات (منظومات بالطاقة الشمسية)، فيما الأحياء الفقيرة تكتفي بنور الهاتف المحمول أو قنديل زيتٍ قديم. فالحرارة تخنق البيوت، والمياه تنقطع مع توقف المضخات، والمرضى يواجهون الموت البطيء في غرفٍ بلا تهوية. التجار يشكون تلف بضائعهم، والطلاب يدرسون وكأنهم عادوا إلى زمن ما قبل 1926.
أسباب الانهيار متعددة، لكنها تبدأ وتنتهي عند الفساد وسوء الإدارة والانقسام السياسي. كل جهة تتتخذ قرارات دون مسؤولية، وكل طرف يحمّل الآخر تبعات العجز. فالوقود يأتي متقطعًا، والمواطن هو الخاسر الوحيد في لعبة التيار الكهربائى والسياسة. حتى المشاريع التي كان يمكن أن تنقذ الموقف، كمحطة عدن الجديدة ومحطات الطاقة الشمسية، اصطدمت بعقبات التمويل والخلافات المحتدمة بين السلطات، فإن الانقسام المؤسسي في الدولة والحكومة عطّل إصلاح أكثر من نصف قدرات التوليد في عدن.
وفي ظل هذا المشهد القاتم، يخرج سكان عدن إلى الشوارع ليحتفلوا بمئوية الكهرباء بطريقةٍ مأساوية: بضحكاتٍ ساخرة يغلفها ظلام مطبق. والبعض ينشر على مواقع التواصل صورًا لمصابيح مطفأة مع تعليقٍات مريرة.
هكذا تسير عدن في مفارقة الزمن، من أول ضوء في الجزيرة إلى آخر عتمة خلال مئة عام تفصل بين الفخر واليأس، بين صوت المولد البريطاني الأول، وصمت المحطة الأخيرة التي أغلقت أبوابها فجراً.
عدن اليوم لا تطلب احتفالاً، بل إنقاذًا لمدينة علّمت الآخرين معنى الكهرباء، تستحق أن يُعاد إليها الضوء، لا كرمزٍ من الماضي بل كحقٍ في الحاضر، وكأملٍ في أن يُشرق الغد مرة أخرى من بحرها... لا من شمعةٍ في عتمتها.